تبدو حكاية الروائي البرازيلي باولو كويلهو، واحدة من حكايات النجاح النادرة، وبالقدر الذي تبدو هذه الحكاية، وهو يتحدث عنها، بسيطة كجرعة ماء، فإنها تحمل في جوهرها يقينا مطلقا بالقدرة على اكتشاف الذات، والسعي للوصول الى جوهرها.
يدرك كويلهو هذا ويسعى اليه بروحية الناسك، ويدعو الآخرين اليه بروحية المبشر، فالروح الانسانية حسب قناعاته تملك طاقات فذة، وماعلى المرء الى ان يصغي لصوت الداخل.
لقد تدرج هذا الكاتب شيئا فشيئا عبر حياته التي انطلق فيها جامحا،مخلفا وراءه دراسته للقانون، باتجاه كتابة الأغنيات، وحتى عام 1986م لم يكن قد حقق الكثير، لكن حلم الكتابة ظل يلاحقه ويلح عليه، تماما كالحلم الذي لا حق الراعي الشاب في روايته السيميائي ، ولعل الطريف انه انتمى لجماعة، كان حق الانتساب اليها يحتم عليه ان يمشي 830 كيلو مترا، لكن تلك الرحلة الشاقة كانت بذرة كتابه الأول الحج , وقد كان هذا الكتاب مقدمة لابد منها للوصول الى كتابه الثاني، الذي سنتحدث عنه، وتعني هنا رواية السيميائي أو ساحر الصحراء كما تمت ترجمتها للعربية.
وكويلهو الذي ينظر الى الكتابة على أنها عمل حميم وخاص، يتيح له التحدث مع قلبه، يفخر بأنه أنجز كتابه هذا خلال اسبوعين، وفي قوله هذا الذي يصل الى مرتبة الاعتراف، شيء من روح هذا الكاتب التي لا تدعي ما ليس فيها، من أجل الهالة التي يرسمها بعض الكتاب حول أنفسهم, فذلك - لكي يقنعنا بأهمية كتابه- يحاول ان يطيل الزمن الذي كتبه فيه، فنجد احيانا كتابا لا تتجاوز عدد صفحاته المئة، قد تمت كتابته خلال عشر سنوات حسب قوله كاتبه، وكأنه يوحي الينا بأنه لم يكن يكتب أكثر من كلمة واحدة في اليوم!، كما نجد ان هناك من يفخر بأنه بدأ العمل على رواية وعمره سبعة عشر عاما وأنهاها وقد بلغ الأربعين، ورغم يقيننا ان كل عمل ابداعي له زمن الحمل الخاص به، الذي قد يطول وقد يقصر، إلا ان طول الفترة أو قصرها ليسا أبدا من معايير جودته أو عدمها.
وفي اعتراف مؤلف ساحر الصحراء، كثير من الأصالة التي لا يمس بها شيئا ما دامت تؤمن بأهمية نداء الداخل وصدقيته.
في حوار اجري معه يقول: لقد قمت باعدام ثلاثة أو اربعة كتب في جهاز الكمبيوتر لأنني أحسست انني أجبرت نفسي على كتابتها, ويضيف: يجب ان تكون الأمور عشوائية، عندما تكون عشوائية، تكون حقيقية,وربما يستطيع المرء هنا ان يطرح قولا مختلفا حين يتعلق الأمر بالعمل الروائي، لأنه على بساطته التي يدعو اليها كويلهو، يبقى عملا مركبا، حتى وهو يبدي البساطة في مظهره الخارجي, لكن الكاتب هنا، لا يحاول ان يرتدي أي ثوب فضفاض، قد لا يشعره بالضيق، ولكنه سيخفي الكثير لا من صورته الخارجية فقط، بل وصورته الداخلية ايضا.
ليس هذا الكاتب من أولئك الذين كان عليهم ان ينالوا جائزة نوبل مثلا، كي يستطيعوا استخراج شهادات ميلاد لأعمالهم الابداعية، أو يوهموا الناس بأنهم قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليها، لكنه استطاع بنجاح نادر ان يكون واحدا من 15 كاتبا هم الأكثر شهرة في عالم اليوم, ولعل بعض من نالوا نوبل ممن هم على قيد الحياة خارج هذه القائمة ويحسدونه ايضا.
ترجمت رواية السيميائي- ساحر الصحراء مثلا الى أكثر من خمس واربعين لغة عالمية، ووزعت عشرين مليون نسخة، وهو يقول فرحا بذلك: أعلم أنني اليوم مقروء من قبل ستين مليون انسان يعيشون على هذا الكوكب, ولا يجد في ذلك أي نوع من المعجزات أو العبقرية، لأنه ببساطة يؤمن ان في كل انسان كما قلنا حكمته الخاصة ومعجزته، بحيث لا يتحول هو الى شيء نادر، ولذا فإنه يعيب على الكتاب الذين يركضون خلف تعقيد الكتابة كي يثبتوا أنهم الأكثر عبقرية بين زملائهم، لأنهم يرون في البساطة ما يشير الى الضحالة, لكنه يرى في الطبيعة التي تظهر لنا بمنتهى البساطة نموذجا في هذا المجال، مع انها في الحقيقة غير ذلك, بمعنى انه واحد من القلة التي ترى ان البساطة لا يمكن ان تتعارض أو تنفي العمق.
يقول الروائي المصري بهاء طاهر الذي ترجم الرواية الى العربية: ان تجربتي معها غريبة الى حد ما، فقد جاء وقت لم أكن افتح فيه صحيفة سويسرية إلا وأقرأ تقريظا حماسيا لها أو حوارا مع مؤلفها، ولم يكن ذلك اغراء كافيا لقراءة الرواية، بل ربما كان العكس هو الصحيح، فصناعة الجوائز الأدبية في العالم أمر يشكو منه القراء المخدوعون قبل الأدباء المحبطين الذين تخاصمهم الجوائز، غير ان عبارة استوقفتني في مقال قال كاتبه: هذه رواية لا تقارن إلا بكتاب النبي لجبران خليل جبران، أو برواية الأمير الصغير لسانت اكزيبوري، فقلت لنفسي بمثل هذه الصحبة فليهنأ أي كاتب، فأنا مثل ملايين غيري، مفتون بكليهما ولكن أتراه حقا جديرا بها؟.
طبعا، لا نستطيع ان نتحدث عن النتيجة التي وصل اليها بهاء طاهر وهو روائي بارز، لأنه في الحقيقة لم يكتف بقراءة هذا العمل والاستمتاع به، بل مضى مسافة أبعد بكثير، حين قام بترجمته ليشركنا فيما حصل عليه من متعة وحكمة تمتلىء بهما صفحات هذا العمل.
تبدو رواية ساحر الصحراء الصادرة ضمن منشورات روايات الهلال حكاية طالعة بامتياز من عمق التراث العربي، وكتاب ألف ليلة وليلة بشكل خاص.
إنها حكاية الحلم، والرحيل وراءه، حكاية البحث، حيث لا تطمئن النفس قبل ان تحقق اهدافها، حكاية الكنوز والغرائب والصحراء والسحرة، والفرسان، حكاية الحب الصافي والاشراقات التي تغمر الروح بنورها,ولذا، لم يكن غريبا ان يتجه الروائي البرازيلي باولو كويلهو شرقا، حاملا بطله الشاب في رحلة من الأندلس باتجاه الصحراء المصرية والأهرامات، عبر واحة الفيوم.
فكأن الحكاية وهي تولد في مخيلة الروائي، تسعى به الى أرض تعرفها قادرة على النمو فيها، بحيث يكون هناك أفقها وامتدادها الطبيعي، كي تظل حكاية تنتمي الى ذلك الجوهر العميق للتاريخ البشري وهو يُقطّر الحكمة ويسكبها شفافة في فضاء الأزمنة.
ان حلما واحدا يطل مرتين بوضوح في منام الشاب الراعي، ينتشله من الرضى بسعادة الرعيان، وذلك التآلف الجميل مع قطيع اغنامه الذي يصل الى درجة من درجات التوحد كان قد لاحظ ان اغلبية الشياه تفيق من نومها فور ان يستيقظ هو، كما لو ان قوة خفية كانت تربط حياته بحياة أغنامه، التي ظلت منذ عامين تجوب معه المناطق سعيا وراء الماء والكلأ, قال لنفسه: لقد ألفتني الى درجة أنها اصبحت تعرف مواعيدي، ثم فكر بعد لحظة من التأمل ان الأمر يمكن ان يكون ايضا عكس ذلك، وانه ربما يكون هو الذي ألف مواعيد أغنامه .
هذا التوحد الذي يحسه الراعي في الصفحات الأولى من الرواية، بوابة واسعة سيدخل من خلالها الى عالم أوسع لا تنس ان كل الأشياء ما هي إلا شيء واحد يقول له العجوز.
لكن اكتشاف الراعي الشاب لذلك التشابه بين الأيام الذي يجعل الناس يكفون عن ملاحظة الأشياء الطيبة هو ما يجعله -كالحلم- يبحث عن معنى اكبر لهذه الحياة, هذا المعنى الذي يتجسد في صورة كنز مجازي قرب الأهرام.
هكذا يودع الشاب حبيبته التي كان يظن أنها أجمل ما رأى في حياته ويذهب باحثا عن اسطورته الذاتية، ليكتشف ان هذه الأسطورة يمكن ان تتحقق اذا ما أراد تحقيقها فعلا، كما ان الحياة تساعده, وأخذ الشاب يحسد الرياح على حريتها، وأدرك انه يمكن ان يصبح مثلها، لا يوجد ما يمنعه غير نفسه، فالشياه وابنة التاجر وحقول الأندلس، ما هي إلا خطى على طريق اسطورته الذاتية وسيلعب حظ المبتدئين دائما دورا جميلا، كما لو أن الأقدار تمهد له الطريق بانتصارات صغيرة، توقظ في داخله الشوق الكبير لما هو أبعد وأكثر غنى من حياة السطح التي تكتفي بما هو متاح وموجود، ويغدو بحثه عن الكنز هو بحثه في الحقيقة عن جوهره المتحد بالكون -بروح العالم- وتبدو الرحلة رحلة في الداخل, بعد ان أدرك انه لن يكون كالآخرين الذي يروا الدنيا كما يرغبون، لا كما هي عليه بالفعل.
ابراهيم نصر الله