أفق الثقافة,,, النص,,, المتلقي,,! محمد الحرز |
المنجز النصي الشعري الحديث,, الذي أخذت ابعاده تتشكل وتنمو بدرجة كبيرة من الوعي والمعقولية في مشهدنا الحالي أثار ولا يزال جملة من الاشكالات المعرفية والثقافية والفنية، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان، ان ينظر إليه باعتباره نصا يتوجه إلى شريحة قرائية كفعل تواصلي معها، ترتكز على قاعدة ذوقية فنية، يجعلها اكثر تفاعلا وانسجاما مع النص الشعري الحديث, هذه احدى المعوقات الفنية التي لم يستطع لا النص ولا القارئ تجاوزها او حتى الالتفات إليها او محاولة الاحساس بتحولاتها التي وسعت الفجوة بين الطرفين.
ولا يبدو على الارجح ان هناك انفراجا قادرا على تقليص المسافة وامتصاص حدية الموقف، تجاه النص الشعري الحديث، وكأننا بازاء نص يستعصي على الاستنبات والاحتواء او التمدد والانتشار، وكأنه يحمل في جوهره، عوامل موته ومسببات فشله، وهو اذ ينمو في الهامش، فإنه يحقق المطابقة الذاتية التي تجعل منه نصا ابداعيا، يستجيب للشروط الذاتية للمبدع، اي ما ينجزه المبدع على المستوى النصي، هو في حقيقة الامر، استكناه للشعر واسئلته المتدفقة بوعي يطابق وعي الحياة نفسها وبأسئلتها التي تنفتح على العالم يوما بعد يوم, هذا من جهة، وهو في ذات الوقت، يعيد صياغة الاسئلة ذاتها التي انطمرت في الذاكرة الشعرية ولكن بوسائل تعبيرية تستجيب للشروط الموضوعية التي تحكم النص والمبدع على حد سواء، من جهة أخرى، وهذا الامر لا يتضمن في داخله، اقصاء أو استبعاداً للأشكال التعبيرية الشعرية الاخرى، ولكنه يوضح بشكل كبير، الكيفية التي يتشكل من خلالها، اي شكل تعبيري استطاع ان يترسخ او يتميز على ارضية ثقافية معينة او محددة بوجه عام, وبهذا الاجراء يمكننا ان نضمن حرية اوسع لحراك النص الشعري بأشكاله التعبيرية المختلفة، وهذه الحرية لايمكن ان تفرض على السياق الشعري من فوق، كحالة طارئة، تدفعها عوامل اجتماعية - ثقافية ذات طابع نفعي - وظيفي، وانما ينبغي ان تصدر من الثقافة ذاتها بوصفها مجموعة من الوسائل الفاعلة والمؤثرة بين طرفين هما النص والمبدع، لذلك يبدو الكشف عن الآليات المعرفية للثقافة المحلية، هو في العمق منه كشف عن الجذور العميقة التي تحقن منظور النص من رؤاها، وتوجه حركته، وتغذيه من انتاجها المعرفي، هذا من جانب النص اما من جانب المبدع، فهو كشف عن القاع اللاشعوري الذي يقوم بدور الرابط بين المبدع والنص والثقافة وايضا هو استنطاق معرفي - إذا جاز القول - عن طبيعة العلاقة - التي تبدو على درجة كبيرة من الاهمية - التي تجمع بين المبدع والثقافة من جهة وبين النص وسماته الابداعية والمعرفية من جهة اخرى.
إن مجمل الملاحظات السابقة، يمكنها ان تضعنا على عتبة النقد الجاد الذي بامكانه ان يموضع النصوص الابداعية في ساحتنا بمختلف اشكالها في سياقها الثقافي - الاجتماعي، ومن ثم تكون له القدرة على استخلاص السمات او العناصر الخصوصية للنص، وتمايزها عن بقية العوامل الاخرى المؤثرة فيه، شريطة ان يجري هذا التفعيل النقدي، ضمن سياق اجراءات عملية - وليست تنظيرية فقط - تطال اكثر المؤسسات قربا من الهم الثقافي والادبي، بحيث يفضي ذلك إلى إيجاد حالة توازنية، تستقطب في حركتها جدلية الفكر والواقع بمعنى ان التفعيل المؤسساتي من اندية ادبية وجمعيات ثقافية، يلزمه آلية معرفية - نقدية، تخترق الواقع اليومي طولا وعرضا، ويلزمه - أيضا - مراجعة شاملة للتجربة النصية الابداعية والثقافية التي انجزت على مدى ليس بقصير، بالطبع يتطلب الامر وعيا استثنائيا، لا يتسم بالثقافة الحيوية فقط، وانما تدعمه الجرأة في اتخاذ مواقف لها القدرة على الممارسة الثقافية والابداعية دون اي اعتبارات خارجة عن نطاق حدودهما او تقعيدات تجعل منهما نشاطا، لا يعكس بشكل فاعل، الواقع اليومي وهمومه ولا يتجاوز الفكر الى الحياة بديناميكيتها العالية.
***
ولو تأملنا - هنا - بعض المعضلات التي تمس بصورة كبيرة، الثقافة والنص والمبدع والمتلقي، في مشهدنا الحالي، لوقفنا على العديد منها، ولكن الابرز في الساحة، يبدو أولا: معضلة المتلقي مع النص الحديث اذ يبدو ان هناك بنيتين ثقافيتين، تدلان دلالة واضحة على الاختلاف وليس الائتلاف، ولاسيما إذا كانت احداهما ذاكرة لها قوة الجذب والطرد، وهي جاهزة للاجابة بحكم التراكم المعرفي والثقافي الذي يتلبسها، والاخرى بنية ثقافية في طور التشكل والنمو، لا تسعى الى الصدامية او القاء الآخر ومصادرته، بالقدر الذي تسعى فيه الى التعالق والافصاح عن ذاتها والتعبير عن مكنوناتها عبر اشكال فنية، تطابق وعيها ولحظتها ورؤاها التي تتسم بها بشكل عام, من هذا المنطلق، ترتسم الصورة ويكتمل المشهد، فالمتلقي (المتذوق العادي) - بالمرجعية الثقافية التي تشكل (الذاكرة) اهم مرتكزاتها - عندما يريد ان يتواصل او يتذوق نصا حديثا والذي هو بالاساس صادر عن بنية ثقافية مغايرة او مختلفة نوعا ما، فإن التنافر هو النتيجة الحتمية لذلك التذوق، وهنا كما نرى ان هناك اسبابا موضوعية خارجة عن ارادة الطرفين، وهذه الاسباب - لسنا بصدد الوقوف عليها الآن - هي التي ينبغي علينا تحليلها او الوقوف عليها بشيء من التأمل والنقد، ولعل الذي يحدونا إلى ذلك، هي الانحرافات التي تلقي تبعات هذا التنافر او التنابذ على المتلقي تارة وعلى النص تارة اخرى وهذا يعد انحرافا أو انزلاقا عن الاسباب الحقيقية والموضوعية التي تؤثر في حركة كل منهما، يضاف الى ذلك انه لو تأملنا جيدا، لوجدنا ان هناك نقاط التقاء واشتراك بينهما سواء داخل النص او في البنية الثقافية للذاكرة ينبغي علينا ان نكشف عن جوانبها الإيجابية بالصورة التي تعود فيها المسألة الى وضعها الطبيعي، وبالكيفية التي يحقق فيها الطرفان، الاقتراب والتكيف تدريجيا.
إذن النص - من جهته - ينشد بطريقة او بأخرى إلى معطياته الثقافية التي هي بمثابة المحرك الاساسي للتجارب النصوصية الشعرية الحديثة في سياق تشكلها الخارجي، وهي من جهة اخرى تمثل طاقة معرفية دائما تكون في حالة اشتباك مع الوعي الشعري للمبدع، تصل - أحيانا - الى حد التضاد والالقاء في محيط العمل النصي, أما المتلقي - فمن جانبه - يمكن ان نقرر انه علاوة على ما تفرزه السلطة المرجعية للذاكرة الثقافية من قيمة معيارية، يحدد في اطارها، قيمة العمل الفني، ومكانته وكيفية تذوقه، خصوصا إذا ما كان هذا العمل الفني، يخضع في انتاجه لشروط ثقافية مغايرة (كما في حالة النص الشعري الحديث) فإننا ملزمون بالقول الى انه، لا يمكن ان نغفل العوامل المتحركة التي تتحكم في عملية التلقي والتي تخضع بالدرجة الاولى، لما يمكن ان نسميه بضغط المتغير النسبي باعتباره عنصرا، يستجيب لمعطيات اللحظة الزمانية، المكانبة، وكذلك يضفي - في احيان كثيرة - على العمل الفني حكما قيميا، يكون بطبيعة الحال بعيدا كل البعد عن حيثيات العمل الفني وعن امكانياته المندسة فيه، الامر الذي يحتم علينا ان نحرص كثيرا على كيفية استقبال العمل الفني بأنواعه المختلفة، وهنا يأتي دور (المؤسسة - الجمعية - المدرسة - البيت) بوصفهم قنوات ثابتة ومستقرة نوعا ما، باستطاعتها ان تجعل من عملية التلقي جزءا ذاتيا فاعلا داخل الفرد/ المتلقي، بحيث يشكل هذا الهاجس التفعيلي، احدى الطرق الجمالية التي يتم من خلالها تحويل العناصر الطبيعية في الحياة اليومية إلى عناصر جمالية بمقدورها ان تدفع الى السطح ذائقة فنية تفرز رؤيتها الخاصة، طبقا للحراك الثقافي - الاجتماعي الذي يتباعث ويتخارج من عمق اللحظة ذاتها التي تنتمي إلى (الآن والهُنا).
لذلك بالنظر إلى ساحتنا الثقافية - الفنية، يمكننا القول انه لا توجد ذائقة فنية مكتملة الجوانب متحدة الاطراف تامة النمو، بمعنى ان هناك فراغات ذوقية لم تمتلىء بالخبرة والمعرفة والحساسية الجمالية، والاهم من ذلك ان عملية التلقي - عندنا - لم تجرب او تحاول ان تملأ تلك الفراغات بالتأمل الجمالي والمعرفي في الحياة والوجود والعالم والنص، وعدم الرغبة في التجريب - كما عندنا - من شأنه ان يفضي الى عملية فصل وقطع وتمايز بين ما هو شعري عن ما هو قصصي او روائي او عن ما هو مسرحي عن ما هو غنائي اوتشكيلي,, الخ، الامر الذي يجعل من عملية التلقي في ساحتنا عملية عرجاء، لا تنظر الى العمل الفني بوصفه وحدة واحدة اي خلف التجزئة تكمن الوحدة، ولا بوصفه عملا فنيا، يخضع بالضرورة لتحولات الحياة المعاصرة، ولانعكاسات التطور المعرفي - الفني التي تطال المعرفة العالمية في شتى جوانبها وفروعها المتعددة، غير ان العامل التبريري الذي نأخذه بعين الاعتبار بالنسبة لثقافتنا المحلية هو ان عملية التلقي لن تختبر قدراتها الذوقية في ظل الغياب التام لبعض الفنون الجميلة او اهمالها من حيث الاولويات بسبب او بآخر لسنا في صدد ذكره الآن.
أما المعضلة الثانية التي نتطرق لها الآن، فهي معضلة النص الشعري الحديث نفسه، فعلى الرغم مما يمكن أن نتلمسه من عوامل مشتركة - كما اشرنا سابقا - ينتجها النص والمتلقي على حد سواء، كان بامكانها ان تجد لها طريقا في الذائقة، فأولى هذه العوامل نجدها في انفتاح النص الشعري الحديث على الموروث، ويتبين ذلك بوضوح في نص - مثلا- محمد حبيبي - علي العمري - إبراهيم الحسين - وثانيها ما تشكله كل بداية نصية شعرية حديثة من جذب الاهتمام ولفت الانظار، وهذه فرصة سانحة، كي يتم استنساخ ذائقة فنية من جنس النص الشعري الحديث نفسه، ولكن ذلك لم يحدث مطلقا بل ظل النص مفتوحا من الداخل ومسيجا من الخارج، يضاف إلى ذلك، ان كتاب النص الشعري السابق عليه: علي الدميني - محمد الثبيتي - حسن السبع - محمد الحربي,, وغيرهم لم يحاولوا ان يتعالقوا مع النص الشعري الحديث، ومرد ذلك يكمن في انهم لم يطوروا من تقنيات نصهم الشعري بصورة تضمن انسجاما في الحضور والفاعلية لكلا النصين معا، هذا من جهة اما من جهة اخرى، فإن النص الشعري الحديث في بعض تجارية يحمل ملامح فنية - ولا اقول معرفية - مترحلة من تجارب فنية اخرى داخل الوطن العربي (بيروت)، إلا ان هذا الترحل، ظل امينا للتجربة الام، واصبحت الصياغات اللفظية الجمالية قوالب جاهزة للاستعمال بحيث يتم شحنها بصور شعرية تدعي لنفسها الخصوصية والمحلية، الامر الذي ادى إلى تشويش واضطراب في ذهنية المتلقي بالقدر الذي يبتعد فيه النص عن تأسيس قيم معرفية، تتوسط النص والمتلقي، بحيث تكون الحصيلة: ثقافة انتاجية تعكس بصورة ايجابية ومفيدة، التفاعل المؤثر بين النص والمتلقي,,!
|
|
|