لاشك ان ليلى هي أشهر محبوبة في الشعر العربي، وقد صارت مثلا لكل محبوبة فكلٌّ يغني على ليلاه ، ولاشك ان المجنون هو أشهر عاشق في شعرنا القديم والحديث على السواء, ولذلك فهما نبع لا ينضب لكل بحث في الشعر والحب والجنون, ولقد ألفت فيهما كتب ومقالات في القديم والحديث، واستلهم قصتهما بعض المعاصرين ليسرَّ الينا بما يخامره حول الحياة من حوله, وربما عدت مرة أخرى لقراءة أعمال غير معروفة للقارىء العربي عن المجنون مثل كتاب اسعد خير الله بعنوان الحب، الجنون، والشعر: تفسير لأسطورة المجنون ، وهو بالانجليزية وصدر في بيروت بالتعاون مع دار نشر المانية في 1980م, وقد أهداني المؤلف نسخة من الكتاب منذ عشر سنوات، ولكن لم يتسن لي أن اكتب عنه, وثمة كتاب آخر ضخم بالانجليزية يحمل كلمة مجنون في عنوانه وهو لمؤرخ غربي، كتب عن موضوع الجنون في التراث العربي والإسلامي، ومات قبل حوالي عشر سنوات قبل ان يتم الكتاب نهائيا فأتمته تلميذة له.
هناك شقان للموضوع أريد ان أتكلم عنهما لعلاقتهما بقصة المجنون وشعره، وخصوصا في كتاب الأغاني للأصفهاني, أولهما هو علاقة الجنون بالشعر، وثانيهما هو صوت الآخر في هذه القصة, والموضوعان متصلان في الحقيقة, والفكرة التي أريد ان اطرحها هنا هي كيف تطورت العلاقة بين الشعر والجنون في الشعر العربي القديم، وكيف تحول مصدر إلهام الشعر عن طابعه الشيطاني/ الجنوني قبل الاسلام الى طابع إنساني/ أنثوي/ تصوفي بعد الاسلام، وخصوصا في شعر المجنون، ولا يعني هذا ان الطابع الأول قد تلاشي في الشعر بعد الاسلام عند شعراء آخرين، ولكن ظهور ليلى بوصفها عروسا للشعر لدى المجنون ربما نصب علامة جديدة على طريق الشعر العربي.
ولعل أول ملاحظة يمكن البدء بها هي ان الجنون الشعري وهذا مصطلح نقدي في الغرب، ويقابله في العربية جن الشعراء أو شيطان الشعر , لا يرتبط عندهم بذلك المفهوم المتعلق بالشيطان والذي نجده في تراثنا الشعري العربي, فالفكرة الغربية تربط إلهام الشعر بالمقدس، والعبقرية بالجنون المرتبط بالقمر بصفة خاصة, ومع مقدم المسيحية ونشأة علم النفس تحول مصدر الابداع الفني من الخارج الى الداخل, فعلى حين يفرق أفلاطون بين الجنون الموحى به من أعلى وذلك الذي سببه مرض فسيولوجي يقول سقراط ان اعظم نفحاتنا تأتي إلينا عن طريق الجنون بالاضافة الى ان الجنون معطى لنا عن طريق هبة مقدسة ، قامت التطورات التالية لمفهوم الجنون بطرح اشكالية حول الفكرة نفسها, ولكن هذه الاشكالية في الفكر النقدي الغربي لم تتطرق الى البُعد الشيطاني للمفهوم بل امتدت به الى آفاق انسانية وعقلية وانفصل عن البعد المقدس عند بعض الرومانسيين وركزت على الوعي الشعري المكثف سواء في الخيال أو في الاحلام، وأحلام اليقظة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبخاصة عند فرويد.
وأقدم اشارة الى عروس الشعر تأتي في سياق هومر وهسيود، وهما اسمان يلفهما الغموض، كما يقول إرك هافلوك في كتابه عروس الشعر تتعلم الكتابة 1986 الذي ترجمنا ونشرنا الفصلين الأولين منه, فأحدهما هسيود ، يرد مرة واحدة في احدى القصائد الأربع، بضمير الغائب, ذات مرة علّمت (عرائس الشعر) هسيود أغنية مجيدة، عندما كان يرعى الحملان أسفل جبل هليكيون, وجاء كذلك في أحد أبياته اشارة بضمير المتكلم: كلاما خاطبتني به الإلهات بادىء ذي بدء، على النحو التالي,,, ولسنا نعرف، كما يقول هافلوك، ما اذا كان هسيود وضمير المتكلم في البيت بعده يشيران الى الشخص ذاته، أو أنه نوع من التوقيع للمؤلف الاصلي, فمسؤولية إنشاء الإلياذة والأوديسة تنسب الى عروس الشعر، التي يدعوها هومر الى ان تغني الإلياذة، وتنشد الأوديسة, وعلى نحو أكثر وضوحا، يصف هسيود الأغنية (وليس أغنيتي ) بأنها شيء علمته إياه الإلهات, فأصل عروس الشعر في الشعر اليوناني القديم غامض الى حد ما ولكن الفكرة تطورت مع مقدم الكتابة في اليونانية، ودخلت في اطار النظريات التي أشرنا اليها أعلاه, أما في الشعر العربي القديم فقد بدأت الفكرة واشتهرت في سياق شياطين الشعر، أو شياطين الشعراء, ولكنها لم تستقص في الأغلب من داخل الشعر نفسه؛ فيما عدا بعض الأمثلة المفردة؛ من مثل أبيات سويد بن أبي كاهل اليشكري المخضرم التي يرفض فيها نداء شيطانه الذي يعلن استعداده لمعاونته على هجاء خصمه
وأتاني صاحب ذو غيِّثٍ زفيان عند إنفاد القُرَع قال لبيك، وما استصرخته حاقرا للناس قوّال القذَع ذو عُبابٍ زبدٍ آذيِّهُ خَمِطُ التيار يرمي بالقلَع زغربيٌّ مُستعزٌّ بحره ليس للماهر فيه مُطَّلع |
وهناك البيت الآخر المشهور لأبي النجم العجلي، وهو زجال مشهور إسلامي
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر |
فكما ترى تدور أبيات سويد حول فكرة الهجاء، وبيت أبي النجم حول فحولة الشاعر، بناءً على فحولة شيطانه، في مقابل أنوثة شياطين الشعراء الآخرين, وكذلك الأمر في القصص التي تروي ان لكل شاعر من الشعراء القدماء شيطانا بعينه، وله اسم بعينه,ان أنوثة شيطان الشعر المذمومة في بيت العجلي هي التي يمكن العودة اليها لاعادة اكتشافها في الشعر العربي القديم، وتتبع تطورها منذ الجاهلية حتى مجنون ليلى، ثم بعد ذلك.
ويمكننا ان نجد في شعر الطيف والخيال اشارات الى معاناة الشعراء النفسية في أثناء عملية الابداع, وتجمع هذه الاشارات بين البعد الأنثوي لمصدر الشعر والبعد الشيطاني في الوقت نفسه, ولكننا يمكن ان نتصور ان تطور الفكرة بعد الاسلام صار، وخصوصا عن شعراء العشق مثل المجنون وذي الرمة، الى الجانب الأنثوي ، مبتعدا عن الجانب الشيطاني الذكوري الفحولي , ومن الملاحظ ان شعر الطيف والخيال يجمع بين عالمين: الطبيعي وفوق الطبيعي, ومن الواضح ان العالم فوق الطبيعي يصبغ شعر الطيف والخيال بقوة فوق إنسانية، إذا جاز التعبير، مما يجعل مفهوم الطيف والخيال يتماس مع عالم الجن، والأشباح، بل وعالم الشعر نفسه، حتى ليمكن هذا الشاعر الجاهلي من استخدام فكرة الطيف والخيال بوصفها معادلا موضوعيا للعملية الشعرية، وان لم يمنع هذا الشاعر من استخدام الطيف والخيال لتحقيق أهداف شعرية أخرى.
ويمكننا تأييد وجهة النظر هذه من استقراء المعجم الشعري لمادة طاف/ أطاف/طوَّف- يطوف/يطيف/ يطوِّف ، وكذلك مادة الخيال، والخلفية الثقافية التي يتحرك فيها هذا المعجم في الشعر الجاهلي والمخضرم, فالفعل طاف محمل بتوتر بين الانسان والقدر أو الدهر؛ كما نجد في بيت أم السليك بن السلكة، أو أم تأبط شرا
طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك |
وفي مثال آخر يذكر ذو الاصبع العدواني ان الزمان طاف على البشر فأفناهم، وعلى العكس من الإنسان يكون الجبل في مواجهة طيف الأيام؛ على نحو ما نرى في بيت المتلمس الضبعي
ألم تر أن الجون أصبح راسياً تطيف به الأيام ما يتأيسُ |
والجون جبل أو حصن باليمامة , وفي اطار فكرة الصيد؛ قال كعب بن زهير
طاف الرماةُ بصيدٍ راعهم فإذا بعضُ الرماةِ بنبل الصيدِ مقتولُ |
وكذلك الأمر في استخدام صيغة الطوَّاف في الحرب، أي الذين شبّت الحرب بهم مثل الطوفان, ودخلت المادة عند عروة بن الورد في معنى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان
وخلٍّ كنتُ عين الرشد منه إذا نظرتُ، ومستمعاً سميعا أطاف بغيِّه، فعدلتُ عنه وقلتُ له: أرى أمراً فظيعا |
ولمس أبوخراش الهذلي ملمحا بدائيا للمادة من داخل فكرة الموت؛ فقال في رثاء أحد سدنة الأصنام، واسمه دُبيَّة، الذي ضرب خالد بن الوليد عنقه
ما لدبية منذ العام لم أرَهُ وسط الشروب ولم يلمم ولم يَطُفِ |
وثمة سياق آخر استخدم فيه الشعراء مادة طوف على نحو أكثر اكتمالا من الناحية الفنية، ونعني به فكرة الطواف من أجل غاية بعينها: فطاف عروة من أجل المقام
ذريني أطوِّفُ في البلاد لعلّني أخليك أو أغنيك عن سوء محضري |
وقال
دعيني أطوَّف في البلاد لعلّني أُفيدُ غنىً، فيه لذي الحق محملُ |
وقال
تقول سليمي: لو أقمتَ لسرَّنا ولم تدرِ أني للمقامِ أُطوِّفُ |
وأخيرا قال
فإني لمستاف البلاد بسربة فمبلغ نفسي عذرها، أو مطوِّفُ |
وكذلك تفعل الظعينة في البيت الذي يتلو هذا
أرى أمَّ سرباحٍ غدت في ظعائنٍ تأمَّلُ من شام العراق، تطوِّفُ |
وطاف الأعشى من أجل الحصول على المال، وطاف امرؤ القيس من أجل التأمل في معنى المصير الإنساني
ولقد طوَّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمة بالإيابِ |
وأما الطواف فارتبط عند الأعشى بنفسه وهو يطوف مثل طوف الغريبة وسط الحياض، تخاف الردى وتريد الجفار ، أي مثل الناقة الغريبة التي تريد البئر، وتخشى الموت، وهو في القصيدة نفسها يقضي ليلة في لعلع كطوف الغريب يخاف الإسار , وفي قصيدة أخرى يخاطب ابنته التي تخشى عليه الهلاك فيحكي لها عن رحلاته من أجل المال، وهو يركب الطوف كذلك
أفي الطوف خفت عليَّ الردى وكم من ردٍ أهلَهُ مل يَرِم ولقد طُفتُ للمالِ آفاقه عمان فحمص فأرو يشلم |
وقد أخذ بعض الشعر مادة الطوف الى الموت؛ قال بُرج بن مُسهر، وهو من معمري الجاهلية
نُطوِّفُ ما نطوِّفُ ثم يأوي ذوو الأموال منا والعديمُ الى حفر أسافلهن جوف وأعلاهن صفاح مقيم |
أي الحجارة التي تسقف القبور , وكذلك فعل السجاح بن سباع الضبي، مع شيء من التأمل في الكون، ممتدا ببيت امرىء القيس
ولقد طوفت في الآفاق حتى بليت وقد أنى لي لو أبيد وأفناني ولا يفنى نهار وليل كلما يمضي يعود وشهر مستهل بعد شهر وحول بعد حول جديد ومفقود عزيز الفقد تأتي منيّتُه ومأمول جديد |
ترى لما كان على الشعراء الذي طوّفوا من أجل الحياة، كل بطريقته، ان يصطدموا جميعا بالموت، ويروعوا بظلام المصير الإنساني؟ وهل كان مصير مادة الخيال أفضل من مادة الطيف حتى الآن؟ لا يزال للمعجم الشعري للطيف والخيال قدرة على وضعنا وسط العملية الابداعية من حيث مصدرها بعد ان أوضحوا لنا منتهاها على مستوى الخبرة العملية والتأمل المباشر فيما يحدث من حولهم.