Thursday 11th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 33 ذو القعدة


الثقافة رهان حضاري
(4) الأُميَّة,, وفراغ ثقافي
أ,د, كمال الدين عيد

من البديهيات القول بأن الأُمية والثقافة يقف كل منهما في مركز مغاير وعلى طرفي نقيض، ولعل التعبير اللغوي يؤكد هذه المسافة الشاسعة بينهما.
تعني الأمية غياب معرفة القراءة والكتابة عند انسان ما يتواجد داخل سجن لا معرفيّ، ولا يعرف للاتصال طريقا، كما تغيب عن بصيرته احوال الحياة اليومية التي تنساب من حوله, والأهم من هذا وذاك أن خصائص الثقافة وخطوطها تعيش غريبة عنه, وقد تأكدت هذه الغربة في العصر الحديث بعد انتشار الاتصالات وتطورها الفضائي بما رسّخ العديد من الاشكال والمفاهيم الاجتماعية التي تتصدى الثقافة لاتساعها والتأثير بالكلمة المكتوبة عليها فتطور الانسانية مرتبط بالتطور والتغير الاجتماعي، ولا مناص من القراءة والكتابة ومعرفتهما على طريق ازدهار الثقافة ونموها، فالأمي أُشبههه براكب زورق تتقاذفه الرياح والامواج في المحيط دون نجدة أو انقاذ، خاصة وهو من الجهالة بمكان لاخيار له بين فكّي الثقافة، بعد ما أتى به جوتنبرج Gutenberg من تقدم الطباعة والتوسع في انتشار الفكر قبل ميزة ازدياد النسخ في الطباعة, الأمر الذي حقق ثورة الكترونية وبصرية مرئية في عالم الحرف، وكفل الدخول الى المجرة او الكوكبة البعيدة القريبة.
ومع وضوح تعبير (الأمية) ظاهرا، الا ان التعبير يبدو معقدا من الداخل, فلم يستطع التربويون الى زمن قصير الوصول الى دقة مصلطح الأمي , فهناك الأُمى ونصف الأُمي ، والأُمي العملي Functional كما ان الأمية تختلف في بلد عن آخر، بل وفي منطقة عن منطقة اخرى داخل البلد الواحد احيانا, ومن هنا يصعب تحديد درجات الامية الثلاث.
فالأمي الاول هو الذي لا يعرف الكتابة او القراءة ، وحتى لو استطاع كتابة اسمه فهو أمي تماما, وشكل آخر من اشكال الأمية يتجلى فيمن يعرفون قراءة صورة الكلمة لكنهم لا يعرفونها حروفا او معنى, وهؤلاء وهؤلاء نصف اميين في نظر العلماء والنظريين, اما الأميون العمليون فهم الذين تمتعوا بقدر قليل من بضع كلمات عرفوها ويستعملونها - عمليا - لكن بحسب حاجتهم الى ذلك الاستعمال , وفي نوعيات القراءة ,, فمن بين الأميين من يقرأ حرفا تلو حرف، ومن يقرأ صورة الكلمة، ومن يقرأ عدة كلمات في عبارة واحدة.
لاتزال الأمية تطغى على كثير من دول العالم, ففي احصائية رسمية بلغ عدد الاميين فوق سن الخامسة عشرة عام 1950م 700 مليون أمي في العالم، وكان ذلك يعني نسبة 44,3% وفي عام 1970م وصل عدد الأميين الى 783 مليون بنسبة 34,2% لكن اغلب هذه النسب تتواجد في المجتمعات التي تنتج اطفالا كثيرين وامام هذه البيانات المرعبة كان لابد للثقافة والمثقفين ورجال التربية والاجتماع من توجيه التعليم خروجا من هذه البؤر السوداء المنتشرة على مساحة الكرة الارضية, فتأسست فصول محو الامية في المدارس ليلا، وعملت جماعات اجتماعية لردء هذا الصدع في طريق التقدم الاجتماعي، كما حدث في دول المكسيك وتركيا وكوبا وكل الدول العربية, وتركز تعليم الاميين بدءا بالعاملين اتفاقا مع النقابات اذ كانت النسبة للأمية عالية جدا، في حين انها لم تشكل في الدول الصناعية الاوروبية الا نسبة 1% فقط.
وجاءت كل خطوات الاصلاح هذه في منتصف قرننا الثاني برياح المعرفة ونمو المتطلبات الشخصية للأميين (السابقين) ليتوجهوا بمطالبهم وطموحاتهم الى طرق الثقافة، وقراءة القصص والروايات، ومشاهدة الافلام والمسرحيات، والاستمتاع - فهما - بالشعر، والاستماع الى فنون الموسيقى والغناء.
* الاقتراب من طَبع الحياة
والمقصود بالطبع هنا (المزاج) Mood الذي كان بعيدا وغير مألوف لدى الأميين, بحث كثير من علماء الاجتماع قنوات تقريب الأميين - وغيرهم - للاحساس بقيمة الحياة عن قرب، وتلمّس صورة الحياة التي تجري يوميا في كثير من التحدي ومواجهة العمل في سبيل اشعار الفرد بكينونته وانسانيته، ارتباطا بمجتمعه واحواله، ومحافظة مستمرة على هذه العلاقة الاجتماعية بعيدا عن العزلة واللا انتماء ، ووصولا الى فعالية الفرد في تقوية صلاته أو تغييرها اذا رأى هو ذلك , هذه العلاقة الاجتماعية التي حددت ما هية العمل والنظام والمتطلبات الاجتماعية، والنتائج المرجوة ايضا, على هذه الصورة يخطط المجتمع الاطار لحياة الافراد ويقننها تقنينا اما العادات والسلوك فيحددها المزاج العام لأفراد المجتمع في تمسك بالأعراف والتقاليد المتحررة من القوانين والشروط.
ويقوم المزاج العام بدور حيوي وديناميكي في تضييق الهوة بين متطلبات المجتمع وطموحاته وبين الصراع الانساني داخل الفرد بفعل خطوط الثقافة والتماس مع المعارف ونتائجها، بما يحقق انسجاما حياتيا - خاصة والحياة المعاصرة تعج بالمتناقضات - لذلك فقد نشطت التجارب الميدانية الاجتماعية في الكشف عن انواع المواقف الموضوعية للنشاط الانساني، والتي تتلخص في ثلاثة عناصر, متحركة فعّالة، معادية للتحرك جامدة راكدة، وثالثة تقوم بدور الصمود او المقاومة Resistance وتأتي هنا اهمية الثقافة والحاجة الملحة اليها لتتصدر العنصر الاول المتحرك الفعال، وهو الذي يمثل النماذج الثقافية المختلفة والخطوط العريضة ذات القيمة الفكرية العالية في تشييد المجتمع، والضابط لمجموعة المعلومات العاملة على ترقي الانسان وتطوره, فالتمسك بكل مقررات الثقافة وخيوطها من شأنه ترسيخ حالة التكيف عند الانسان بموازنة العقل والخبرات والممارسات في الحياة، وهو الميزان النفسي المفتقد والمفقود عند الأميين , حيث يعمل العقل على الارتفاع بالنماذج الثقافية لاتمام تطويرها وتقبلها في آن واحد، مستغرقا بعض الوقت لاعداد المعيار السلوكي Norm وتجهيز عناصر المثالية.
ونظرا لأهمية الثقافة في حياة كل البشر، فان الضرورة تقضي بالانتباه الى العلاقة بين المتطلبات البشرية والنماذج الثقافية بين الزمن والميدان الاجتماعي بنظاميهما ذي البعدين الثنائيين, فبحوث المزاج في الحياة قد خرجت علينا بتعبيرات شتى (طبع الحياة، نوعيات الحياة، اسلوب الحياة، اشكال الحياة) وأي تغيير ثقافي في مكان ما او في زمن ما، فانه لابد مستند على برنامج متحرك نشط فعال، غايته استهداف الحياة الانسانية ونوعيتها والارتفاع بمستواها الى درجات عليا.
يستند انتشار الثقافة - الى حد كبير - على نتائج البحوث الاجتماعية في مجتمع ما, واهتمام الاجتماعيين بدراسات علم البيئة (الايكولوجيا) Ecology الذي يساعد على الانتقاء والاختيار لموضوعات الثقافة وفنونها فمعرفة تأثير المدينية Urbanism على المجتمع يكشف عن التغييرات التي تطرحها داخل الطبقات المختلفة ، فتأثير التعليم وانتشار المدارس في كل بقعة قد سمح بميلاد الاتجاه الاجتماعي المديني (نسبة الى المدينة)، الامر الذي احدث تغييرا هاما أدى الى تعديل نظم المجتمع، وتعديل خطط الثقافة وبرامجها في الوقت نفسه, فمتطلبات البيئة لاتقف عند حدود الاقتصاد والماديات فقط، لكنها تمتد الى موقف التقنية ومستوى الصعود الحضاري, كما ان العصرية Modernism التي تمثل التجديد والحداثة تعمل على تشكيل الانسان من جديد ليؤثر في الحياة بطريقة وتفكير يختلفان عما مضى، وهو في هذا الجديد يظهر معدّلا من صورته الاجتماعية، مبرزا لعناصر جديدة في حياته، مرتقيا بالذوق حافظا لتقدير الجمال، حتى ليكاد يبدو في صورة اخرى غير صورته السابقة.
عديدة هي البحوث الاجتماعية التي تعرضت لموضوع وقت الفراغ, وقد انطلقت معظم هذه البحوث من نقطة المعايير الثقافية ودورها في ترقية المواطنين، غير مهملة للسلوك المتحضر الناشىء عند كل من يتعامل مع افرازات الثقافة ، في وقفة طويلة للمواقف والحالات والتصرفات Attetudes وقد جاءت نتائج البحوث بعدة ايجابيات لصالح الانسان، فالعلاقة بين النشاط الراقي - فكريا - وبين التعليم في اوقات الفراغ وقودها العناصر والايجابيات الثقافية, ولم تحدد البحوث زمنا معينا تجرى فيه هذه العلاقة لتزدهر، على اعتبار ان الثقافة تبنى وتشيد على خاصية التراكم, فلا قفز على مقررات الثقافة، واستنادا الى علمي الاثنوغرافيا والانثروبولوجيا فان عناصر الثقافة عادة ما تبرز على السطح والى المقدمة Foreground في شغل اوقات الفراغ حيث النشاط الابداعي - الفردي والجماعي - الخلاّق.
* ثورة الثقافة
تقوم الثورة الثقافية بعيدة عن الاميين والأمية، خاصة عند من علقت وترسخت افكارها بهم ، ومن خلّفت في افئدتهم نبضات تظل مستمرة حتى نهاية الحياة, وكلها علامات لا يمكن اهمالها او غض النظر عنها احاسيسا وتصرفات, اذ الاهمال يعيد الى موقف غير حضاري سابق، وهو موقف ارتدادي ترفضه المجتمعات والشعوب عامة بعد ان اجتازت عنق الزجاجة منطلقة الى طريق ارحب واوسع, وحين نتوقف قليلا امام لفظة (الاجتماع) فاننا نجد ان اعظم خصائص الفن تتصح في الثقافة الجماعية المشتركة، ليس في عالمنا المعاصر، بل منذ القديم ايضا, وهو ما تفصح عنه المراحل البدائية عند الفن الاثري القديم، وبعض الفنون الشرقية والافريقية والهندية, والثقافة ما هي الا تعبير عن انفعال نفسي للانسان, وعلى حد قول الفيلسوف ارنولد هاوزر Arnold Hauser كل ابداع فني هو اثارة واستفزاز لايحتاج للشرح بقدر احتياجه للمواجهة (1) .
وفي عصرنا الحالي لا تصبح الثقافة شيئا اذا كانت معزولة عن دورة حياتنا اليومية, فالاحساس بالجمال لايمكن الغاؤه بجرة قلم لأنه أحساس بالوعي الاجتماعي, والتذوق الجمالي لادراك الطعام واللباس والاختراعات لا يمكن وقفه او نزعه من داخل الانسان، وما التجريب الثقافي الا حصيلة طاقات بشرية اجتماعية تتواجد كل يوم في الحياة اليومية العادية تعمل على ارتقاء الفرد وتغيير جموده وتلوين حياته بلون الحياة.
ان التغير في مضامين الثقافة إعلاء للفرد على وجه الحياة, وهو ما اراه خطة شاملة بعيدة عن عالم الأميين ودروب الأمية.
هامش:
Arnold Hauser.
Philosophie Der Kunstgeshicht, Munchen, 1958.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved