يوم الأربعاء الماضي بدأت الحديث عن رغبتي في تخصيص جزء من مساحة يارا لعرض الكتب.
ولكني تحولت بالاستطراد الى موضوع آخر مهم جداً, وهو طغيان ما يعرف بالنقد الحديث على الثقافة في المملكة, علي اليوم ان اعود الى موضوعي وهو الكتاب,, فالكتاب رغم انه فقد جزءاً من دوره العظيم الذي كان يلعبه في التأثير المباشر على حركة المجتمعات وتطورها بعد ان تخلى المفكرون والمثقفون عن دورهم في تسيير المجتمعات وتركوه للمهندسين والمخططين الحكوميين, حتى اصبح المهندس هو فيلسوف العصر بلا منازع, الا ان الكتاب ما زال يساهم بقوة في اثراء الحياة الجوانية للناس, فالرواية مثلاً لم تكتسح اجناس الأدب فحسب بل حافظت على قيمة الكتاب المطبوع, فلا يمكن ان تحول الرواية الى اي وسيلة اخرى لان للرواية مصدرين بتحقيق وجودها لايمكن التنازل عن اي منهما: خيال المؤلف وخيال القارىء, ويمكن إلحاق المذكرات وكتب السيرة في هذا الاتجاه، كما انه ما زال هناك كثير من الناس لا يمكن ان يتلقى معلومة بشكلها الصحيح الا من خلال الورق, على كل حال نحن في حاجة للكتاب في الوقت الحاضر, ولن ننتظر حتى يأتي ذلك اليوم الذي تتخلى فيه الانسانية عن الكتاب, ولكن علاقة مكتبات المملكة التجارية بالكتاب تشي بأننا فعلاً ننتظر ذلك اليوم الذي يزول فيه الكتاب من الوجود, وكأنه سيأتي غداً.
فعندما قررت ان اخصص جزءاً من يارا لقراءة الكتب كانت الفكرة من الناحية النظرية سليمة وجذابة, ولكن بعد ان بدأت عملية التنفيذ وتخصيص الوقت المناسب وتحديد طبيعة الكتب التي يجب ان تعرض في يارا تكشفت لي حقيقة محزنة.
هناك نوعان من الكتب في العالم: كتب جيدة وكتب رديئة, فالكتب الرديئة هي تلك الكتب التي نراها منتشرة في المكتبات عن الجن وعن العفاريت وعن المراهقات والتسلطية ومؤلفات حراس الكآبة بصفة عامة, ولكن في العالم نوعان من المكتبات, المكتبات الشعبية وهي الاكشاك التي نراها في اليورومارشيه والعزيزية والتميمي وفي المطارات والتي ترص الكتب فيها الى جانب المجلات والجرائد والحلوى والهدايا, اي التي تدخل ضمن عالم الخفة والزبرقة, ولكن هناك كتباً اخرى توفرها المكتبات المتخصصة, المكتبات التي تبيع الكتب وليس الأكسسوارات كما يفترض في مكتبات مثل مكتبات العبيكان وجرير ودار العلوم الخ, ولكن حقيقة الأمر ان هذه المكتبات تقوم على كتب الزبرقة المذكورة اعلاه مضافاً اليها الكتب المدرسية والجامعية او الكتب التراثية القديمة المكررة, فلو انني بدأت مشروع عرض الكتب سيبدو الأمر كأنما فيه نوع من الاستعراض والاستعلاء, فالكتب الجيدة والجميلة والمقروءة من قبل الجميع (من وجهة نظري) غير متوفرة في اسواق المملكة، فأنا كعارض كتب سأتعب لاحضارها من البحرين او من لندن او بيروت او من القاهرة, وهذا يعرضني الى نقد القارىء لأنني لا يمكن في مثل هذه الظروف ان التزم بمواعيد معينة ثابتة لعرض الكتب.
والقضية المهمة الأخرى تتعلق بالقارىء, فجريدة الجزيرة متوجهة بالكامل للقارىء الداخلي, ترى ما الفائدة من عرض كتاب وتعريف القارىء به وهو لن يجده في مكتبات المدينة التي يعيش فيها, كما قلت سيبدو الأمر كأنما هو نوع من الاستعلاء واستعراض العضلات الثقافية.
حتى الآن لا أعرف سبباً واحداً لغياب الكتب الجيدة عن مكتبات المملكة التجارية, 90% من الكتب الجيدة لا علاقة لها بثوابت المملكة المعروفة التي لا يقبل اي منا ان تمس, فلو استعرضت الكتب الجيدة التي صدرت هذا العام في العالم العربي فمن الصعب ان تجد بينها كتاباً واحداً يمكن ان يتعارض مع ثوابت المملكة, فعلى سبيل المثال: ما هو السبب الذي يمنع توزيع كتاب (بجعات برية) في اسواق المملكة.
بيع من هذا الكتاب ملايين النسخ وقرأه ملايين من الناس في كافة انحاء العالم وبكافة اللغات الحية تقريباً, ولا توجد مدينة واحدة في الدنيا الا وتجد فيها هذا الكتاب, حتى انه اصبح من الكتب الشعبية في كثير من بلدان العالم, فالكتاب ببساطة يتحدث عن تجربة ثلاث نساء (أجيال) الجدة الأم البنت خلال اصعب مراحل تاريخ الصين الحديثة, يغطي فترة من الاستعمار الياباني وحتى زوال حكم ماو تسي تونغ وزوجته, يكشف الكتاب من خلال عرض حياة هذه الأسرة الفظائع التي صاحبت التحولات الاجتماعية في الصين وخصوصاً التحولات السياسية وآثارها المدمرة على المجتمع الصيني التقليدي, فقد سمعنا جميعاً عن الثورة الثقافية في الصين, وقد طرحت علينا في السبعينيات على اساس انها ثورة تنويرية تنقل الصين من الظلمات الى النور, بينما تقدمها مؤلفة الكتاب من خلال التجربة المعاشة في داخل الصين, وكيف كانت مجرد شعار لتبرير ضرب الخصوم وتدمير البنية الثقافة الاصيلة للصين, واطلاق يد المراهقين والشباب الصغار للعبث بمقدرات الناس وحرياتهم الشخصية تحت دعاوى ايدلوجية سخيفة, وهكذا يسير الكتاب من خلال التفاصيل الدقيقة الحية التي تظهر آثارها على حيوات الناس بغض النظر عن مراكزهم وأهميتهم, كما تعرض الكتاب للمظالم التي كانت تقع على المرأة في العصور التقليدية وبرعاية الثقافة التقليدية.
كما تلاحظون فالكتاب في الواقع يصب في مصلحة ثوابت المملكة، وان لم يكن يقصد ذلك فما السبب في غيابه عن اسواق المملكة؟ الربحية؟ هذا ليس سبباً لأن هذا الكتاب مربح بكل المقاييس, السؤال, من سيجيب على هذا السؤال؟.
لتوصيل الملاحظات مباشرة للكاتب وللنقاش المباشر معه اتصل
E-Mail: albakeet@suhuf.net.sa
عبد الله بن بخيت