كثيراً ما تنطوي مذكرات السياسيين والمسؤولين السابقين هنا او هناك على دروس تفيد في الحاضر وأحياناً في المستقبل رغم انها تتعلق بأحداث جرت في الماضي.
ولكن قليلاً ما نهتم في العالم العربي باستخلاص الدروس مما ينشر من مذكرات وخاصة اذا لم تكن خاصة بمسؤولين كبار في الصف الاول كانوا ملء السمع والبصر ابان توليهم المسؤولية في بلادهم.
ومع ذلك يجوز ان نجد في مذكرات مسؤول من الصف الثاني ما لا نعثر على مثله لدى آخر كان يتقدمه في الصف, وينطبق ذلك على مذكرات كارين بروتينتس، التي نشرت اخيراً فكان بروتينتس مستشاراً للرئيس السوفيتي الاخير ميخائيل جورباتشوف في النصف الثاني من الثمانينات.
ولكن الاهم من ذلك أنه كان نائبا لرئيس قسم الشؤون الدولية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي لفترة طويلة، ومسؤولا عن ملف الشرق الاوسط في هذا القسم الذي كان منوطاً به ما يمكن ان نسميه الجانب غير الرسمي او شبه الرسمي في السياسة الخارجية السوفيتية بما في ذلك ادارة العلاقة مع الأحزاب الشيوعية في العالم.
ومن هنا تأتي اهمية شهادة بروتينتس على الاحزاب الشيوعية العربية والتي تنطوي على درس سنعود اليه بعد ان نقف اولاً امام درس أكثر اهمية وخطراً بشأن العلاقات العربية - الروسية في الفترة المقبلة.
وأهم ما قاله المسؤول السوفيتي السابق على الاطلاق لا يتصل بالوقائع التي رواها عن فترة وجوده في السلطة، وانما برؤيته للمزاج العام السائد في روسيا الآن عن منطقتنا مقارنة بما كان عليه في العهد السوفيتي، فهو يلاحظ ان هناك كرهاً متزايداً في اوساط قسم كبير من المثقفين الروس للعرب الى حد ان تعبير العالم العربي اختفى من مفرداتنا السياسية والصحفية في السنوات الاخيرة ويشير الى ان الصحفيين الروس على سبيل المثال لا يصفون الاراضي العربية التي تحتلها اسرائيل بالمحتلة عكس ما كان يحدث سابقاً.
اما المعهد الذي تم تأسيسه اخيراً في موسكو لبحث شؤون الشرق الاوسط فقد اطلق عليه معهد اسرائيل والشرق الاوسط وهو يعلق على ذلك قائلاً (اسرائيل اولاً، ثم الشرق الاوسط) ولكنه لا يضيف ان اسرائيل هذه هي احدى اصغر دول الشرق الاوسط مساحة وسكاناً، مع التغاضي عن كيفية نشأتها ووجودها في المنطقة, واذا كان هذا هو المزاج السائد في روسيا الآن،فإنه يصعب فهم كيف يواصل كثير من المثقفين وغير قليل من السياسيين العرب الرهان عليها لمساعدتنا على مواجهة ما يقال انه هيمنة امريكية.
وهذا رهان مستمر منذ انتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية وانهيار الاتحاد السوفيتي,، ومقترن بتطلع الى قصر فترة انفراد الولايات المتحدة بالقمة العالمية، ورغم ان هذا الأمل اخذ يضعف نسبياً مع الوقت الا انه ظل قائماً او قابلاً للتجدد لدى دوائر واوساط عربية لا يستهان بها، وهو ليس مقصوراً على روسيا وانما يشمل اوروبا - او فرنسا تحديداً - والصين, وادى الموقف الذي اتخذته روسيا ضد السياسة الامريكية تجاه العراق خلال الشهور الاخيرة الى تصاعد الرهان على استنهاض الدب الذي خارت قواه ولم يعد قادراً على ان يعين نفسه ناهيك عن ان يساعد غيره.
فالمراهنون على روسيا يغفلون ان ما تعانيه من ضعف هو من النوع البنيوي، الذي يحتاج الى وقت طويل لتجاوزه بافتراض ان مقومات عبور الوضع الراهن سيكون ممكناً توفيرها, واقصى ما يطمح اليه المتفائلون في روسيا نفسها هو انقاذها من الموت لتعيش دولة مريضة، وليس الشفاء الكامل، فنحن ازاء دولة تنهار بمعنى الكلمة، وليس مجرد حالة لأزمة اقتصادية حادة, فالانهيار ليس اقتصادياً فقط، وإن كان هذا هو جوهره، انه انهيار عام يشمل حتى الجيش الذي يقف على قدميه بصعوبة شديدة، وربما باستثناء القوات النووية الاستراتيجية وبعض القوات المحمولة جواً لا توجد وحدات جاهزة للقتال الآن, وحتى جاهزية هذه القوات لا تبرر ما فعله غير قليل من العرب في مطلع العام الماضي( 1998 )حين امسكوا بتصريح عابر لا مضمون له صدر عن الرئيس الروسي يلتسين وهو في حال انفعال مؤقت بسبب تصاعد الأزمة العراقية، حيث اشار الى خطر حرب عالمية ثالثة يمكن ان تترتب على استخدام القوة ضد العراق, فتصور البعض ان هذا انذار للولايات المتحدة رغم ان الناطق باسم الرئاسة الروسية اسرع الى اعلان ان تفسير ما صدر عن يلتسين باعتباره انذاراً او تهديداً هو (كلام سخيف وغير منطقي).
وعموماً، فقد تم استخدام القوة ضد العراق، بعد ذلك بشهور، ولم تفعل روسيا اكثر من احتجاج كلامي وسحب مؤقت لسفيريها لدى واشنطن ولندن وكان هذا اقصى ما تستطيعه، أياً تكن الآمال العريضة لمن يحلمون بأن يستيقظ الدب فجأة ويستجمع قواه التي تبددت.
ولكن المشكلة لا تقتصر على ان روسيا صارت اضعف من ان يمكن الرهان عليها, فهي اصبحت أبعد من ان يجوز الرهان عليها حتى بافتراض ان في امكانها استعادة قوتها, وهذا هو الدرس الأهم في مذكرات بروتينتس التي تفيد الى اي مدى تغيرت النظرة في موسكو الى العرب وكذلك الى اسرائيل، فهو يقدم ما يشبه نقداً ذاتياً لما اسماه (انعزالنا عن اسرائيل التي هي احد الاطراف الفاعلة على مسرح الشرق الاوسط، مما أمن للولايات المتحدة احتكار العلاقات معها وحرمنا من بسط النفوذ السوفيتي على مجمل فضاء النزاع) في المنطقة, وعندما يصدر هذا القول عن رجل اقل ما يقال عنه انه كان متعاطفاً بشدة مع العرب، فهذا يعني حدوث تغير كبير في المزاج السياسي العام في موسكو تجاه العرب واسرائيل، واذا صح ذلك فهو يعني اننا نحتاج الى جهد كبير في التعاطي مع الوضع الداخلي في روسيا, واذا كنا مستعدين لمثل هذا الجهد فلنبذله في حوار مع المجتمع الامريكي فيكون مردوده - اذا نجحنا فيه - اكبر بما لا يقاس او بحجم الفرق بين قوة الولايات المتحدة وضعف روسيا, فالمنطق البسيط يقضي بأن تستثمر حيث يكون احتمال الربح اعلى، وان تمتنع حين تكون الخسارة اكيدة, والحال ان اي جهد نبذله لاستعادة التعاطف الروسي مع قضايانا هو جهد ضائع بالنظر الى ما صارت عليه موسكو من ضعف وهوان.
وليست مذكرات بروتينتس هي المؤشر الأول على هذا التغير الذي يفترض ان يكون العرب المراهنون على موسكو في مقدمة من يعنون به، كي يعرفوا - ونعرف - عن اي روسيا نتحدث وفي اي اتجاه نضع اقدامنا التي يبدو انها ستظل مرتشعة ما بقيت قوالب التفكير القديمة سائدة ومنتجة لطروحات تنطوي على قدر من الميتافيزيقا السياسية.
وبسبب هذه القوالب ما زال لدى كثير منا استعداد لتأييد اي حاكم يزعم انه يخوض معارك البطولة والشرف ضد الاستعمار والامبريالية، فما بالنا اذا كان يقود الأمة في أم هذه المعارك، ويزداد هذا الاستعداد عندما يتعرض بلد عربي لاعتداء, وعندئذ يحتاج الامر الى جهد هائل لشرح كيف ان ادانة هذا الاعتداء لا تتعارض مع شجب النظام الاستبدادي الدموي ليس فقط لأن سياسته مسؤولة بمقدار ما عن هذا الاعتداء، ولكن ايضا لأن جلاديه يقتلون من ابناء شعبه المسكين اضعاف من يقضون في الغارات الجوية او حتى بفعل الحصار الظالم.
ويشارك قطاع يعتد به من اليساريين العرب في مقاومة هذا المنطق الواضح البسيط، وفي الاصرار على ان مواجهة الاستعمار تقتضي عدم توجيه اي انتقاد الى نظام الحكم الذي يقال انه صامد في هذه المواجهة ومن هنا اهمية ما يرويه بروتينتس عن الحزب الشيوعي العراقي الذي يرى انه احد ثلاثة احزاب شيوعية عربية كانت لها مواقع في بلادها (الى جانب الحزبين السوداني والسوري) قبل ان ينقض عليه صدام حسين بطشاً وتنكيلاً.
ورغم ان هذا التقويم ليس جديداً الا انه يشير مجدداً الى خلل يعانيه قطاع لا بأس به من الفكر العربي، وخاصة الفكر اليساري، وهو الاستعداد لتهميش المسألة الديمقراطية لمصلحة ما يعتبر قضية وطنية او قومية، وهو ما يذكرنا بافتخار بعض اليساريين المصريين بأن ما حل بهم من تعذيب واهانات في السجون في بعض فترات الخمسينات والستينات لم يؤثر في تأييدهم للزعيم عبد الناصر.
والحزب الشيوعي العراقي، الذي اشار بروتينتس الى مأساته، لم يكن فقط احد اكبر الاحزاب الشيوعية العربية، وانما كان ايضا من اكثرها استقلالا او بالاحرى اقلها تبعية لموسكو, فكان السفير السوفيتي السابق واضحاً في القول ان هذه الاحزاب كلها كانت موالية للدولة الأم, ومع ذلك لم تكن لدى هذه الدولة معرفة كافية بأوضاع الأحزاب الشيوعية العربية ويستلفت الانتباه هنا قوله، ان قادة هذه الاحزاب (كانوا يزودوننا بمعلومات محدودة بل ومزوقة لاغراض محددة في انفسهم) ويرقى هذا الكلام الى مرتبة اتهام رسمي من الرجل الذي كان مسؤولا في الحزب السوفيتي عن العلاقة مع الاحزاب الشيوعية العربية, وهو اتهام يقدم تفسيراً اقوى لأزمة هذه الاحزاب مقارنة بالتفسيرات التي وردت في مذكراته مثل عدم ملاءمة الظروف الموضوعية وعمق العقيدة الاسلامية,لقد افسد هؤلاء القادة احزابهم بسبب ضعف التقاليد الديمقراطية مثلما فعل غيرهم في احزاب ومنظمات ومؤسسات مختلفة رسمية وغير رسمية، وكانوا في ذلك خاضعين لأنماط متقولبة وجامدة من التفكير، وهذه ذهنية لا تختلف في جوهرها عن تلك التي ما زالت تراهن على موسكو او باريس وتتوسل دعماً من أية جهة الا لدى الشعوب العربية، لا لشيء الا لأن اصحاب هذه العقلية ليسوا ديمقراطيين فعلا مهما تحدثوا عن الديمقراطية، ولأنهم يستسهلون التصفيق لمن يواجه اعداء الأمة عبر الميكروفون بدلاً من العمل الجاد مع الناس لبناء قاعدة حقيقية لهذه المواجهة.
د, وحيد عبد المجيد