Thursday 18th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 1 ذو الحجة


(ساحر الصحراء) الرواية والروائي -2
حين تمضي الحكاية بالراوي إلى أرض تعرفها!
إبراهيم نصر الله

إن تلك اللغة الخفية التي تكونت بين الراعي وبين اغنامه في رواية (ساحر الصحراء) ستتطور فيما بعد (هناك لغة تتجاوز الكلمات عرفت ذلك بالفعل، ولو توصلت الى معرفة كنه هذه اللغة التي تتجاوز الكلمات لتوصلت الى معرفة كنه العالم).
لكن هذا الاكتشاف محفوف دائما بمخاطر القعود والاكفاء البليد بما يفرح ظاهريا طوال رحلته باتجاه كنزه,, واذا كان الحلم يدفعه الى الامام باستمرار فان الانتصارات الصغيرة التي يحققها اثناء رحلته تغويه لان يلوي عنق حلمه ويكتفي، فبعد ان يعمل لدى بائع كريستال مغربي ويحقق ثروة لا بأس بها يفكر في العودة لشراء قطيع شياه اكبر لكنه يدرك المكيدة (شعر في تلك اللحظة بدفقة حماس هائلة: يستطيع دائما ان يرجع راعيا يستطيع دائما ان يرجع تاجرا للكريستال, ربما كانت الحياة تخفي كنوزا اخرى ولكنها وهبته حلما متكررا، وهذا لا يحدث للناس جميعا).
تتحرك احداث الرواية في خط مستقيم متنام متسلسل كل حلقة توصل الى الحلقة التي تليها وليس ثمة لعب واضح في مجال البناء الشكلي للرواية فبنيتها بسيطة كحكايات ما قبل النوم والحكايات الشعبية وكذلك فان الشخوص تحضر كما لو انها محطات في رحلة البطل يتوقف عندها قليلا تؤدي دورها لينتقل بعد ذلك الى محطة اخرى فالعين دائما تبحث عن علامة في آخر الافق وهناك يمكن ان تختتم رحلتها وتروي عطشها.
يقول بهاء طاهر في مقدمة الرواية: كلمة (الكنز) هي المدخل الصحيح للرواية.
انها رواية لكل الاعمار، رواية يستطيع ان يأخذ او يغرف القارىء منها حسب قدرته وطاقته، فكما يمكن ان تشفي غليل فتى باحث عن قصة مشوقة يمكن ان تشفي غليل قارىء مثقف, ان الدرس الذي يتعلمه الراعي الشاب: ان ليس من السهل اكتشاف حجر الفلاسفة لقد قضى السيميائيون في مختبراتهم سنوات عديدة يراقبون تلك النار التي تنقي المعادن ومع طول تحديقهم في النار كان يتسرب الى اعماق قلوبهم شيئا فشيئا زهد في كل اباطيل الارض الى ان وصلوا ذات يوم الى ادراك ان تنقية المعدن قد نقت ارواحهم هم في واقع الامر.
من هنا، يصبح البحث عن الكنز ذاته فهو يقول للسيميائي بعد ان ادرك هذا: ارني الحياة في قلب الصحراء فلا يكتشف الكنوز من يستطيع ايضا ان يكتشف الحياة ولا توجد سوى طريقة واحدة للتعلم: هي العمل, ويقول له السيميائي: كل ما كنت بحاجة الى ان تعرفه علمتك الرحلة اياه.
حكم الرواية كثيرة وغنية ولا تكاد صفحة فيها تخلو من كنز كما نرى ان كل اولئك الذين مضى اليهم الراعي لتفسير حلمه او لإرشاده الى الطريق لا يعطونه الكثير فالعجوز قالت له وهي تفسر حلمه: يجب ان تذهب حتى اهرام مصر، انا لم اسمع عنها من قبل قط، ولكن ان كان من دلك عليها طفل فلابد ان لها وجودا في الحقيقة وهناك ستجد كنزا يجعلك ثريا.
عندها شعر الشاب اول الامر بالدهشة ثم اعقبها الغيظ فلم تكن هناك حاجة الى ان يأتي لمقابلة هذه المرأة.
هذه النتيجة المخيبة للامال ان يصل الى حقيقة مفادها: ان كل شيء فيه هو وحين يلتقي السيميائي يؤكد له هذه الحقيقة: إصغ الى قلبك فهو يعرف كل شيء لانه آت من روح العالم وسيرتد اليها ذات يوم.
واذا كانت الكائنات الخرافية العجيبة تقف عادة في طريق ذلك الذي يسعى الى هدفه فان الروائي يستبدلها هنا بكائنات جميلة تجعله يحس ان الواقع الذي وصل اليه هو كنز الكنوز هذا يحدث حين يلتقي الفتاة الصحراوية في الطريق: ادرك عندما رأى عينيها السوداوين شيئا اسمه الحب: شيئا اعمق من البشر ومن الصحراء ذاتها.
لكن الحب الكبير يلعب دورا كبيرا ويغدو قوة دافعة, تقول له فتاته: ان كان ينبغي ان تنتظر حتى نهاية الحرب فهذا حسن جدا اما ان تحتم ان ترحل قبل ذلك فارحل نحو اسطورتك الذاتية ان كثبان الرمال تتغير بفعل الرياح ولكن الصحراء دائما هي الصحراء وهكذا سيكون حبنا.
تستحيل كل لحظة من البحث الى لحظة غنية عندما كنت ابحث عن الكنز كانت كل الايام بديعة لاني كنت اعرف ان كل ساعة تشكل جزءا من حلم العثور عليه وبينما ابحث عن كنزي اكتشفت في الطريق اشياء لم اكن احلم قط بأن اصادفها , الا ان الحكمة الكبرى تنبت في ارض تلك الحادثة حين يقطع طريق الشاب والسيميائي ثلاثة رجال, سألوهما عما معهما فقال السيميائي حجر الفلاسفة واكسير الحياة هما العمل الكبير للسيميائيين.
من يشرب من هذا السائل لا يمرض ابدا وشذرة صغيرة من هذا الحجر تحيل اي معدن الى ذهب فضحكوا وتركوهما.
- هل انت مجنون؟ لماذا اجبتهم هكذا, يقول الشاب.
فيرد السيميائي: لكي أظهر لك احد قوانين العالم قانون بالغ البساطة، عندما تكون امام اعيننا كنوز عظيمة فنحن لا نلقي لها بالا وهل تعرف السبب؟ لان الرجال لا يؤمنون بالكنوز! وستفضي هذه الحادثة الى نهاية الرواية وحكمتها الاكبر فيما بعد.
لكن الشيء الحقيقي ان ذلك النداء في اعماق الشاب، هو نداء ازلي لا يمكن كبحه, طلب اليه السيميائي ان يقرب القوقعة من اذنه وكان الشاب قد فعل ذلك عشرات المرات في طفولته وسمع صخب البحر.
فال السيميائي: ان البحر يعيش دائما في هذه القوقعة لان تلك هي اسطورتها الذاتية وهو لم يغادرها ابدا الى ان تغمر الامواج من جديد هذه الصحراء.
الرحلة: قطيع الاغنام الحلم، لقاؤه بالعجوز، لقاؤه بالشيخ - الملك، عمله عند بائع الكريستال، حبه لفاطمة الصحراوية، لقاؤه بالسيميائي الشاب، بالسيميائي الكبير، والوصول الى الاهرام، وحيث يكون قلبك يكون كنزا، ولقاؤه عصابة تفاجئه وهو يحفر قرب الاهرام حيث يضرب بشدة لكي يعترف بانه دفن كنزا في المكان الذي يحفر فيه.
وقول رجل للذين يضربونه - اخيرا - اتركوه فليس معه شيء آخر - بعد ان اخذوا ماله.
لكن هذا الرجل - الزعيم يرجع ويقول له: لن تموت، ستعيش وستتعلم ان الانسان يجب الا يكون غبيا الى هذا الحد فمنذ قرابة عامين وهنا بالضبط حيث ترقد انت الان، حلمت حلما وتكرر , رأيت أنني يجب ان اذهب الى اسبانيا وان افتش في الريف عن كنيسة محطمة، كثيرا ما يذهب الرعاة للمبيت فيها مع اغنامهم وتنمو في موضع هيكلها شجرة جميز، وهناك سأجد كنزا مطمورا لكنني لست من الغباء بحيث اعبر الصحراء لأني رأيت الحلم نفسه مرتين.
يعود الشاب الى الاندلس فالمكان الذي وصفه الرجل كان هو نفسه ينام فيه ويحفر تحت شجرة الجميز ويجد الكنز!!
دلالات كثيرة تحملها هذه الرواية الجميلة مفتوحة على اكثر من قراءة لكنها تبدو احيانا على وضوحها كالموسيقى تسمعها ولا تستطيع لمسها.
ويجدر القول هنا ان الروائي لذي تأثر الى حدكبير بلاشك بالحكايات العربية الشعبية قد تأثر ايضا ببورخيس - ونحن نعرف ما يوليه بورخيس من اهتمام في كتاباته لألف ليلة وليلة - لكن تأثره ببور خيس واضح وخاصة بقصته (المبارزة الاخرى) التي تصور لاعبي ورق تقودهما السكاكين لمعركة لم يكونا قد فكرا بدخولها ابدا لان هذه السكاكين لم تنه معركة قديمة وهكذا يتحول الرجلان الى خبيرين خلال اشتباكهما الدامي وفي حقيقة الامر فان السكاكين هي التي تتقاتل.
ويجيء في الرواية: الاسلحة لا يمكن ان تخرج الا لكي توجه للقتال لانها لها نزواتها مثل الصحراء واذا ما اخرجناها عبثا فقد ترفض بعد ذلك ان تطلق النار,ولد الروائي باولو كويلهو في ريو دي جانيرو عام 1947 و(ساحر الصحراء) هي روايته الثانية كما اشرنا وله (حاج من كومبوستلة) فوق ضفة نهر بيدرا، جلست وبكيت، وآخر اعماله رواية عنوانها (الجبل الخامس).
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved