Thursday 18th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 1 ذو الحجة


مساقات
المساق 124
وظلال يبست أغصانها,.

ولما وصلنا الى هذه الغاية,, قام احدهم فصاح بصاحب الجرجاني منشدا:
- ان تكن ثلاجة تعمل بالزر,.
فاني,.
لست قنّينة ببسي!
-؟,, ببسي؟!,.
- أجل,, اعني تراك طولتها,, يا جماعة الخير وكأنكم قد أنسيتم الغرض الذي حضرنا من اجله الى جرجان,,وهو ان نتدارس نظرية (الجرجاني، عبدالقاهر) كي نعود مستعينين بها لدخولنا الى حيّان بن ماضي الحديثي في قصره؛ لان فيها - كما وعدتنا يا صاحب الجرجاني، وان كانت في بلاغة اللغة تصورا نظريا لفهم المركّبات الذهنية والابنية الفنية - ما لعلنا تستلهم منه مفاتيح دخول القصر,, لكنكم خوضتم في يهماء من الاستطرادات تكذب فيها العين والاذن، وضيعنا مهمة الزيارة الاصلية,, وها انت ذا ستشرع بنا في الحديث عن (سوزان بينكني ستيتكيفيتش) وكتابها عن (التفسير الطقوسي لقصيدة المدح) بعد ان امضيت بنا شهورا من (حجاب العادة) لسعيد بن مصلح,, اتق الله فينا، واعتقنا من هذه الاستطرادات والعود على البدء,.
- قال صاحب الجرجاني: اما ما ذكرت من الاطالة فصدقت,, واما ما زعمت من استطراد فلا,.
ثم نفض الكتاب الذي كان بين يديه,, فتناثرت منه خرز ملونة بدت كحبات مسبحة,, قال:
- أرأيت الى هذه الحبات؟؟,.
- اجل!,, ام تظننا عميانا ايضا؟!,.
- لقد,, لا لا,, لقد كانت في سلك واحد، وكذلك هذه الموضوعات والنصوص التي تراني اخرج فيها من موضوع الى موضوع دون رابط,.
- يا سيدي,, خرزك هذا متناثر,, فمتى ستجعله عقدا,.
- أبشر بخير ان ساعدتنا الرياح والقلوع,, فما كل ما يتمنى المرء يدركه,, تجري الرياح بما لا تشتهي السُّفُن,,.
- السَّفِن (بفتح السين وكسر الفاء),, (فخفخ في وجهه عجوز عقيم من رعاع لغويي الرحلة),.
- أفّ,, ما ذبح اللغة والبلاغة الا ما تفعل انت وامثالك,, استكثرتم على السُّفُن ان تشتهي كما استكثرتم على المتنبي خياله,, ما لكم وللشعر!,.
تتشربون هذا الهراء منذ نعومة تلقّنكم البلاغي، في صيغته الفسيفسائية المدرسية، وداؤكم لا شفاء له وإلا كيف يأتي واحد في العصر الحديث بقامة طه حسين لينسب الى صورة شعرية موحية كهذه (لعبدالله الفيصل):
وظلال يبست اغصانها
وأمان لم تزل فيك تجول,,.
التكلف قائلا: فانظر الى هذه الظلال التي يبست اغصانها الى ما فيها من تكلف وأحسب الشاعر اراد ان يضع جنانا مكان الظلال فأخطأه اللفظ,, (من ادبنا المعاصر: مقالة (وحي الحرمان) 131 - 132 ط, 3-، دار الادب - بيروت: 1979م).
يا سبحان الله!,, متى يستريح ماء الشعر من نقيق النقاد,, ام متى يصفو صوت البلابل من نعيق الغربان,, أَوَ كان الشاعر في حاجة الى بصيرة الناقد كي يعرف ان اغصان الجنان هي التي تيبس لا ظلالها؟!,, أما كان لناقدنا ان يهتدي الى القيمة الدلالية لتخييل اليبس في الظلال؟!,, ان تجديفا نقديا ضالا كهذا كفيل بأن يفقد المبدع الرجاء في شيء يذكر مما يصدر عن ناقد,, ولست اصادر على القارىء قراءته ولا على الناقد موقفه ومن هنا يستمد النص حياته، كما تستمد مطوية البئر العتيقة نبعها المستجد,, لكن ناقدا يعطّل البئر اللغوية هو ضرب من القراء: متحجر المزاج,,, وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ,, متكلّس الروح,, بليد اللغة,, معوق,.
حينئذ نفض فينا اللغوي عباءته وخرج عن المجلس,, يتعقبه (قنينة الببسي),, ذلك الذي اعترض على استطرادات صاحب الجرجاني,, اما نحن فكنا قد استمرأنا سوالفه الاستطرادية,, نسينا القصر وحيان بن ماضي الحديثي,, والناس في رحلتنا تلك كانوا فريقين,, فريق نفر من استطرادات صاحبنا وآخرون يدفعونه اليها دفعا منكرين ان تكون استطرادا,, وهم الاكثر,, فقام احدهم قائلا:
- نود ان نسمع منك قصة سوزان لا قصة طه حسين,.
- تعني (التفسير الطقوسي لقصيدة المدح، (تر/ حسن البنا،ط, الهيئة المصرية للكتاب: 1998م),, تتحدث المؤلفة (سوزان بينكني ستيتكيفيتش) في الفصل الاول تحت عنوان قصيدة المدح وطقوس الفداء في الجاهلية عن بائية علقمة الفحل
طحا بك قلب في الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلّفني ليلي وقد شط وليها
وعادت عواد بيننا وخطوب
منعمة ما يستطاع كلامها
على بابها من ان تزار رقيب,.
منتهية الى ان القصيدة هذه نموذج للمديح بوصفه مقايضة طقوسية مستدلة بسياق القصيدة من قصة افتداء علقمة اخاه من اسر الملك الغساني الحارث بن جبلة مع عدد من بني تميم قبيلة الشاعر,, ولا غرو فالشعر كان يؤدي مهمّات جلى كثيرة في ذلك العصر لا تعرف له في غيره,, ذلك ان التاريخي والفني والطقوسي في ثقافة العصر الجاهلي كانت شيئا واحدا او كالواحد,, وما لم نقرأ شعر العرب اذ ذاك على هذا الكيف فلن نفهم الشعر ولن نفهم العرب ولن نفهم مجتمع الجزيرة,.
ومع ان الباحثة تدهشك قراءتها المقارنة التي ترى في ادبنا ما لم تره عينانا قط ومع ما تحمله قراءتها من دليل على طقوسية الكرم ايضا، الذي تحدثت عنه المساقات السالفة من حيث هو الآخر سلوك اجتماعي يتداول في وظيفة طقوسية مرعية - عرى اساسها بيت وانا لنجفو الضيف,, السابق الكلام عليه - مع ذلك فان منهجها في تلك القراءة بدا الاسقاط عليه طاغيا، من حيث قامت النظرية - التي اشتقتها عن البحث الرائد في مجال التبادل الطقوسي، لمارس موس Marcel Mauss مقال عن الهدية، الاشكال القديمة للتبادل ، الذي يفسر فيه مميزات التبادل الطقوسي ووظائفه - كأساس جاءت القراءة تلتمس نظائره في النص، وكان المنهج ان يأتي النص اولا ليستدعي نظريته,, لا العكس.
ولذا ذهبت تفهم القصيدة فهما خاصا لا يتساوق ومنطق الضمائر في النص العربي، وكما يفهمها قارىء عربي,.
وأدرك صاحب الجرجاني الصباح فسكت,,.
د, عبدالله الفيفي

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved