في الحلقة السابقة ذكرت أن الجنون الشعري مصطلح نقدي في الغرب،, ويقابله في العربية جن الشعراء ، أو شيطان الشعر ، ولكنه لا يرتبط عندهم بذلك المفهوم المتعلق بالشيطان والذي نجده في تراثنا الشعري العربي, فالفكرة الغربية تربط إلهام الشعر بالمقدس، والعبقرية بالجنون المرتبط بالقمر بصفة خاصة, ومن المهم ان نركز على هذه النقطة في الحلقة الراهنة, فكلمة العبقرية )genius( في الانجليزية تعني تميز شخص ما بقدرات فوق عادية، كما تعني أن الشخص يتمتع بالقدرة على التأثير على الآخرين، وقد يكون هذا التأثير وسوسة شيطانية، وفي هذا الجانب بالتحديد تنتمي الكلمة الانجليزية إلى اصل عربي, وهي تكتب احيانا بشكل مختلف هو )genii(، من العربية (الجن)، وتعني، بهذا الشكل الاخير في الاساطير الرومانية الروح التي تنزل بالمرء من الميلاد إلى الموت، او الروح الحارسة لمكان ما، او مجموعة من البشر، أو مؤسسة ما, كما تعني بالشكل نفسه، في الاساطير العربية، حسب المعجم الانجليزي، (وهي هنا بصيغة الجمع عادة، ومفردها ( jinn) روحا شريرة أو شيطانا، أي )demon( ويعطي القاموس معنى لمفردة )jinn( من خلال التصور الاسلامي، اي ذلك الكائن الذي يمكن ان يظهر في صورة إنسان او حيوان ويمارس قدراته فوق الطبيعية على الانسان العادي.
فكما نلاحظ انتقلت الكلمة من العربية إلى الانجليزية في صورتين: العبقرية والجنون، والقدرة على التشكل والتأثير على الآخرين, أما الجنون في الثقافة الغربية نفسها فيأتي اساسا من جهة القمر الذي يأتي اسمه )luna( من اللاتينية، وأطلق على إلهة القمر عند الرومان، ثم أصبحت الصفة منه )lunatic( لتطلق على الانسان الذي فقد عقله، أي المجنون، ولكن ليس على الشاعر.
فإذا نظرنا في التراث العربي الاسلامي وجدنا أن ارتباط الشعر بالمقدس والجن (ومنه الجنون كذلك) موجود على نحو اصيل, وقد اشرنا في الحلقة السابقة إلى هذه العلاقة، ونستطيع ان نتذكر هنا ان الربط بين الشعر والجنون واضح في القرآن الكريم، كما ان الربط بين الشعر وروح القدس، او جبريل، ورد كذلك في بعض الاحاديث الشريفة التي تحث حسان بن ثابت على هجاء الكفار ومعه روح القدس، أو جبريل, فالجانبان إذن موجودان في التراث الديني, ولعل هذا هو ما شجع الشعراء بعد الاسلام على التحول من الجانب الشيطاني في العملية الابداعية إلى الجانب المقدس بمعنى الجانب الخير للعملية الابداعية, لقد رأينا في الحقلة السابقة ان سويد بن أبي كاهل اليشكري (وهو شاعر مخضرم) رفض الاستجابة لشيطان شعره من اجل الاستعانة به على هجاء حاسده, ولكننا نتوقع ان يظل الجانب الشيطاني مختلطا عند بعض الشعراء بالجانب المقدس ، وقد يكون ثمة صراع بين الجانبين في نفس الشاعر، كما هو الحال في نفس الانسان العادي الذي توسوس له نفسه بأشياء وتنهاه نفسه الاخرى عنها.
المهم اننا نريد ان نرصد وعي الشعراء انفسهم بالجانبين داخل شعرهم وكيف تحول شيطان شعرهم الى عروس شعر، وكيف ظل الشيطان يتصارع مع العروس في نفس الشاعر في بعض الاحيان, وتنهي موسوعة برنستون للشعر والشعرية مدخلها عن الجنون الشعري بقولها: "إن الجنون الشعري بالنسبة إلى اليونان كان اسطورة, ولا يزال كذلك, كما ان الابداع الشعري كان لغزا, ولا يزال", ولذلك لن نخشى من فك اشكالية هذا اللغز لأنه سرعان ما يعود إلى لغزيته، إذا جاز التعبير.
وقد ختمنا الحلقة السابقة بتعليق على استخدام الشعراء الجاهليين مادة "طوف"في شعرهم، وهي المادة التي نرى ان اولئك الشعراء كشفوا فيها عن وعيهم بمصدر الفن في نفوسهم, وكان هذا التعليق يقول: ترى لم كان على الشعراء الذين "طوفوا"من اجل الحياة، كل بطريقته، ان يصطدموا جميعا بالموت، ويروعوا بظلام المصير الانساني؟ وهل كان مصير مادة "الخيال"افضل من مادة الطيف حتى الآن؟ لا يزال للمعجم الشعري للطيف والخيال قدرة على وضعنا وسط العملية والتأمل المباشر فيما يحدث من حولهم.
لقد كان الشاعر الجاهلي يبدأ، كما يذهب استاذنا مصطفى ناصف، من نقطة "ان الفن ليس إلا ضربا من لعنة الكلمة على هذا الموت, كل ما يملكه إزاءه هو قوة الكلمة او الشعر، إنه يريد من خلال القوى اللغوية، شبه السحرية ان يزيل التوتر الناشىء عن الشعور بالموت", ولنا ان نتساءل: ألا يمكن ان تكون نشأة الفن بهذا المعنى نوعا من محاولة الوصول إلى سرِ الموت الذي يخطف الاحبة، وذلك بالاستسلام لقوى فوق طبيعية (خيرة او شريرة) تنتمي إلى ذلك العالم الذي يأتي منه الموت "المكتوب"؟ ولعل ما نسميه بالوعي الكتابي لدى الشعراء (حتى قبل تعلمهم الكتاب) يأتي من هذه الجهة.
في مادة الخيال في الشعر الجاهلي والمخضرم نلاحظ معاني الخيلاء والتكبر التي تساور الانسان الجاهلي من واقع احساسه بالقدرة على الفعل والتأثير في الآخرين والاشياء، ومواجهة الصعاب والمخاطر, وكما ترامت مادة الطيف الى افق الحرب في النهاية، كذلك سكنت مادة الخيال في المعنى نفسه عبر صيغة بعينها، كما في قول الاعشى
لنقاتلنكم على ما خيلت ولنجعلن لمن بغى وتمردا |
بل سكنت فكرة الهول المرتبط بالجن، والشؤم في مادة الخيال عبر طائر يسمونه "الأخيل", وأما السحاب "المخيل"فكان من مفردات الابداع الشعري لدى الشعراء قبل الاسلام، وهو ذلك الذي نهى عنه الرسول الكريم في سياق تفسيره للعارض الممطر, وكان المطر رمزاً معقداً لدى الشعراء الجاهليين، ينطوي على الموت والحياة معا.
وقد جمع الشعراء الجاهليون بين مادتي الطيف والخيال ضمنيا من خلال السحاب والمطر وتذكر الاحبة والبكاء عليهم, ويمكننا ان نعطي مثالا نادرا يجمع بين المادتين ويوحي بالعملية الابداعية من جهة، وبوظيفة الابداع الشعري من جهة اخرى، قال كعب بن زهير
ألمَّ بكَ الخيالُ يطيفُ ومُطافه لك ذكرةٌ وشُعوفُ يسري بحاجات إليّ فرُعنني من آلِ خولة كلها معروفُ فأبيتُ محتضراً كأنني مُسلمٌ لجِنِّ ريعَ فؤادُهُ المخطوفُ فعزفتُ عنها إنما هو أن أرى ما لا أنالُ فإنني لعزوفُ لا هالكٌ جزِعاً على ما فاتني ولما ألمَّ من الخطوبِ عروفُ |
(المشعوف في البيت الأول اي الذاهب الفؤاد، ويقال: الشعف: الولوع بالشيء حتى لا يعقل غيره, ومعروف: أي معروف عندي, والمحتضر هنا أي الذي احتضرته الجن ومسلم متروك قد يئس منه, والمخطوف الذي يخطف عقله, والخطوب: الأمور, عروف: صابر).
فمن الواضح ان الخيال الطائف في ابيات كعب ليس خيال محبوبة تقليدية تبخل بودها في اليقظة وتزوره في المنام على نحو ما نجد فيما بعد لدى شعراء أمويين وعباسيين, فآل خولة رمز أعقد من هذا، والتذكر وذهاب العقل والروع والاحتضار للجن ومحاولة التماسك والصبر كلها عناصر اكثر خطراً وعمقاً, ان كعباً يكاد يصارع "الجن"في سبيل استخلاص القصيدة التي يقاوم بها الماضي الذي يعيه من خلال التذكر والحاضر الذي يحاصره بحاجات مروعة, ان القصيدة هنا هي "الصبر"الذي ينطوي على "المعرفة", وهي القدرة على العزوف وعدم الهلاك جزعا على ما فات.
ومرة اخرى نجد المطر والخيال او الطيف، لأنه يسمى هنا "الزور"، يصبان في "حديث النفس"، الذي يتشكل شعرا في النهاية، قال جران العود النميري
سقياً لزورك من زور أتاك به حديث نفسك عنه وهو مشغول |
والمحبوبة هنا، مرة أخرى، ليست امرأة عادية من الجيران، اومن غير الجيران, إنها مخلوق يقع بين عالمين، ويربط بينهما في الوقت نفسه, إنها زور، ولكنها قد تكون زوراً، او غولا، قال كعب بن زهير نفسه عن "سعاد"في قصيدته المشهورة
فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول |
فسعاد غول متشكلة مبدلة أثوابها، من قبيل الجن, ومن المهم ان نلاحظ هنا ان كعب بن زهير قال هذه القصيدة في لحظة تحول من الجاهلية الى الاسلام، وكأنه ينتقل من دائرة "شيطان"الشعر إلى مرحلة جديدة، لا يحتضر فيها ولا يسلم إلى الجن, وقد احتفظ الراعي النميري، وهو شاعر بدوي اموي قتله بيت شعر، بالجمع بين الطيف والخيال، وبما ينطوي عليهما من توتر بين "شيطان"الشعر و"عروس"الشعر، وقصيدة بينهما، فقال في مطلع قصيدة مدح، متلاعبا بالفعل "غال"بمعنى "أهلك"، و"مغلغلة"بمعنى الرسالة/ القصيدة المحمولة من بلدٍ إلى بلد
طاف الخيال بأصحابي فقلت لهم
أأمُّ شذرة زارتنا أم الغول لا مرحبا بابنة الاقيال إذ طرقت كأن محجرها بالقار مكحول سودٌ معاصمها جعدٌ معاقصها قد مسها من عقيد القار تنصيل أبلغ سعيد بن عتاب مغلغلة إن لم تغلك بأرض دونه غول |
وثمة امثلة اخرى نجد في احداها حسان بن ثابت يرى في "محبوبته"جنية، قال
جنيةٌ أرقني طيفها تذهب صبحا وترى في المنام |
وقد "يختلط"هذا الارق بالطيف الذي يمر على جسر من التعب والحيات على نحو ما نقرأ في بيتي تابط شرا، قال
يا عيدُ ما لك من شوق وإيراق ومر طيف على الاهوال طراق يسري على الاين والحيات محتفيا نفسي فداؤك من سار على ساق |
(والمحتفي أي الحافي), وصحيح اننا يمكن ان نؤول الطيف في بيتي تأبط شرا في سياق القصيدة كلها بأنه صورة للشاعر نفسه، ولكنه من الملاحظ ان الشاعر يقدم نفسه فداء لهذا الطيف الذي يسري على ساقين، اي اقرب للكائن البشري, فالمسافة الفاصلة بين الشاعر والطيف والواصلة بينهما كذلك هي التي تبيح لنا القول بأن الشاعر يرى مصدر إلهامه "مختلطا"بين كائن فوق طبيعي، ذي قدرات خارقة، من جهة، وكائن إنساني (مذكر أو مؤنث) فيه من نفسه بعض طبيعتها.
ومن هنا كذلك يمكن ان نتذكر البيت الذي أوردناه في الحلقة السابقة
إني وكل شاعر من البشر شيطانه انثى وشيطاني ذكر |
فهذا البيت الذي ينسب لأبي النجم العجلي، الراجز المسلم، ّيرتد"إلى "الذكورة"أو "الفحولة"في مفهوم الشعر عند العرب بعد الاسلام، كما انه يوحي بالفرق الذي لحظناه بداية في شعر المجنون وأصحابه من اعتماد ليلى "عروس"شعر مؤنثة اكثر منها "شيطان"شعر مذكر, وعند هذه النقطة نرى اقدامنا تكاد تنزلق إلى تلك المنطقة التي دخلها صديقنا العزيز الدكتور الغذامي, لقد أنهى كتابه (ثقافة الوهم) الذي عرضنا له باستفاضة في هذا المكان، بتناول هذا الموضوع، اي فحولة الشعر في مقابل "كبت"الانوثة في الثقافة العربية بعد الاسلام، اي عند الفرزدق بخاصة, ولكنه تكلم عن قبيلة عذرة بوصفها مخرجا للموضوع, وقد علقنا على ذلك, وسوف نعود في الحلقة القادمة لفحص المسألة من داخل اخبار المجنون في الاغاني مرة اخرى.
د, حسن البنا عزالدين