حين غنت الزرقاء 1 - 6 قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشجر؟ للشاعرة ثريا العريض د, محمد محمود رحومة |
عربية أنت يا سيدتي!! ويسكنك الحلم النبيل,, جئت إلينا يا زرقاء تحذرين وتصرخين,, رأيت ما لا يراه الغافلون، وكلنا غافل أو,, متغافل، يهرب من المصير، يفقأ عينيه كي لا يرى الاشجار تتحرك منذرة بالخطر القادم، يصم أدنيه عن سماع الآخرين، وكلنا يعجبه صوته كلنا نتكلم سيدتي وتساوى الصغير والنفير، كلنا حققنا انجازاتنا وصنعنا آمالنا في كلمات ولا أحد يهتم بالمصير!!
عربية انت يا سيدتي جئت تفتحين جراحنا، وتنكئين قلوبنا الثكلى، توجعين وتفجعين!! جئت سيدتي تصيخين السمع الى صوت الضمير، تعلمين أمتك العربية معنى اليقظة الجارحة، ومعنى البوح الجارح.
هذه هي الشاعرة ثريا العريض التي تعرفت إليها من ديوانها,, أين اتجاه الشجر؟،، وإذا بشعرها يبوح برؤى فنية جديدة، وإذا بي امام ظاهرة تستحق الدراسة، فهي المرأة الواثقة من رؤيتها، القادرة على تحريك الضمائر واعادة نبضها الحي من جديد، هي تملك سحر الكلمة ونقاء المعنى وطفولة الحرف,, استولدت معانيها من معاناة حقيقية عاشتها كامرأة عربية تفتش عن أحلام الوطن، وتنقش صورا محملة بالبراءة، بالطهارة، بالامل الجديد الذي لن يموت أبداً ما دام الانسان يحيا فوق الارض يسعى إلى الخير، ويحمل في اعماقه الامانة التي كلفه بها الله عز وجل.
ولما كان هذا الديوان يمثل قمة النضج الشعري للشاعرة ثريا العريض - فهو آخر أعمالها - استوجب ذلك منا دراسة متأنية لهذه التجربة الفنية الثرية التي تطالعنا في ثلاث عشرة قصيدة، اولها افتتاح موجه الى الانسان العربي لتسأله الشاعرة: هل تشتاق إلى الفجر؟! هل تبحث عن الامل؟! إذن اقرأ كلماتي لعلك تعثر على احزان انسان مثلك ترى نفسك فيه، وتلتقى أحلامكما معا, وآخر قصائد الديوان: النداء، نداء زرقاء اليمامة اخت ثريا العريض التي اعارتها عيونها ولسانها وطلبت منها ان تصرخ باسمها محذرة من الخطر الداهم، والتشرذم القائم، حالمة بالمستحيل، بموسم للشجر والمطر.
وهذه الدراسة تعالج موضوع الصورة الشعرية وتكوينها ومفرداتها لدى الشاعرة، وتنفرد عناصر الصورة بتعدد ابعاد الرؤية، وهي - كما في الديوان - ثلاثية الابعاد: المرأة - البوح - الصوت.
وفي العنصر الاول سوف نجد الشاعرة تتحول إلى الزرقاء، ترتدي اسمالها وتستعير عينيها لترى بها الواقع المشوه الذي تحذر منه، وتتلبس الشاعرة بالزرقاء، مرة هي ثريا بنت القرن العشرين ومرات هي أمنا زرقاء اليمامة التي سمل الاعداء عينيها عقابا لها على تحذيرها قومها, وفي الكشف عن عناصر التشكيل بالمرأة - الانثى - سوف نعثر على الصورة الشعرية للانثى في تشكيلاتها الجمالية وعناصر رؤيتها للواقع من خلال مفردات المرأة وخصائصها.
المرأة : ثريا العريض
المرأة : زرقاء اليمامة
ويأتي العنصر الثاني: البوح ويستخدم البوح كشفا تتوصل إليه الشاعرة، ورؤيا تكتنزها وحدها في كلمات، تصدرها إلينا بعد ان تعاين الواقع وتستبصر هشاشته وسوداويته, وفي هذا العنصر توظف الشاعرة - بمهارة - الصورة البصرية ومفردات العين والرؤية لتشكل بها على ارض الواقع عالما مشوها، تقدمه إلينا بأمانة، من خلال رؤية فنية بالغة الدلالة، تظهر فيها مهارة التلوين بالعين والتشكيل بالبصر:
بوح : رؤيا الواقع المشوه = التحذير
بوح : تشكيل بالعين (الصورة البصرية)
أما العنصر الثالث والاخير، فهو هدف الديوان الذي تسعى إليه الشاعرة، ان يصل صوتها الى كل انسان فهو النداء, ويستدعي النداء - الصوت عملية معقدة لفرز الاصوات حيث الكل يتكلم والكل ينادي، ولا أحد يسمع حتى اصبحت الحروف التي تلعب في حلوقنا وتعبث في مصائرنا مجرد خواء لا عمل، فرقعة جوفاء ولا أمل,, ونتوقف مع الصورة السمعية التي مارستها الشاعرة من خلال هذا العنصر الاخاذ لنرى ملامحها ونقيم دورها في البناء الفني للقصيدة، وضد الصوت الخائر، توقفت الشاعرة مع تجربة الصمت، وكان جديدا أن نعثر على ظاهرة اخرى اسميتها: التشكيل بالصمت:
صوت : النداء
صوت : الصمت
وفي الصفحات التالية تفصيل لذلك,.
أولاً : المرأة والتشكيل بالأنثى:
تطل علينا ثريا العريض معلنة بفخر انها امرأة، تتحدى الصمت وترفض السكوت، تنتظر الجياد العربية التي تحلم بالمستقبل لتحقيق الآمال، ويحفل الديوان بتصوير المرأة في مراحل الحلم والرؤيا والنداء، وحيرتها بين البوح والصمت، ونعثر على الانثى في المفردات وتشكيل الصورة الشعرية التي جادت بها الشاعرة.
لا تخفي ثريا العريض الانثى بل لعل ذلك موضع فخرها وانها حفيدة الزرقاء، تستطلع بعيونها الصقرية آفاق المستقبل، وفي أول قصيدة,, الفاتحة,, نعثر على صورتها - الانثوية، تبذلها امامك تتيه بما تملكه امرأة عربية ترفض الوقوف في طابور النساء العربيات الاخريات اللاتي تعجبهن الماديات والظواهر من ملابس وعطور وموضات، ولكنها امرأة اخرى كل فخرها أنها تشعر بالقادم، تملك حلم الافاقة، وحس التوجس من الآتي: تقول الشاعرة:
هل توجست حلم الافاقة - مثل اليمامة مشروخة الاجنحة؟
وعانيت - مثل الفراشة قبل الولادة - تغريبة الشرنقة؟
هل تفيأت ظلا من الحزن حين انتفضت صباحا؟
سيفا تبوأ عنقك,, خوفا قراحا,,؟! ص11
تطل علينا الشاعرة هنا موجهة خطابها إلى الانسان العربي تسأله إن كان قد شعر بما شعرت به وهي تمتلك المعرفة التي أتاحت لها حلم الافاقة، وتطلب من كل انسان ان يصبح مثلها,, هنا تصل الشاعرة إلى المرأة المثال الذي لابد من تقليده والتأثر به, المرأة التي تمتلك الرؤية اذن تغادر وظيفتها كامرأة عادية تصبح مثل زرقاء اليمامة مهمتها التبصير والتحذير، والصورة هنا متخمة بالثقة بالنفس والامتلاء بالزهو، انها المرأة الفراشة التي استدعت صورة المرأة المخصبة التي تلد الحقائق وتعاني من مخاض الواقع بينما تعزف عن السعادة البلهاء وتتجه إلى ظلال الاحزان تتفيأ تحتها آفاق المستقبل، وتستنبت جذور التمرد والرفض لتعلن بصوتها انها ضد حركة البشر الذين تشغلهم توافه الحياة عن ادراك الواقع.
تأتي، المرأة، ثريا العريض إلينا على هودجها معلنة التحدي:
هودجي ما اهتدى بعد
منفذه للمدى مغلق,,؟
ما اهتدى بعد
درب انعتاق الخُزامى
بعيني امرأة تتحدى الشجر, ص17
فالهودج الذي تعتليه يسير إلى طريق مغلق، ومن ثم تقرر التحدي ويكون التحدي عن طريق البوح بالحلم، ثم انها ليست ككل النساء:
هل خلتني جئت اعبر
مثل اليمامات للدوح
تعبر هادلة في المدى,,؟
أم خلتني جئت ابحث في ظل دوحك
عن عاشق ومنازل؟ ص19
لا ، ليست منهن ولا مثلهن، هدفها أكبر، ورؤيتها اشمل، وهودجها لا فارس يقوده، لان الجميع قد صاروا عميانا وهي وحدها القادرة على الرؤية، هل تمتلك الشاعرة شيئا من زهو المعرفة؟! لماذا جعلت من نفسها سيدة تختلف عن كل النساء؟! هل لانها تعرف !! في المعرفة حتفها إذن، وهي تدرك المصير، ولكنها شجاعة غير عابئة بالثمن، عليها ان تضحي من اجل وطنها، تقدم هذه المقاطع امرأة تتحدى المستحيل وتمضي في طريقها غير عابئة بالآخرين, الصورة هنا تتشكل بالانثى، الرؤية الفنية والمفردات والصورة الكلية, تصبح المرأة إذن عنصراً تشكيليا تنجح الشاعرة في اجتلائه وتعميق معانيه والوصول به إلى جماليات جديدة متفردة لم نحصل عليها من قبل, ان شخصية الشاعرة موجودة، وذاتها خيوط تشد الحروف إلى عالمها فتخرج مصبوغة برؤيتها ملونة بألوانها هي، ولنتأمل صوت البكاء - على سبيل المثال, لنجده صوتا نسائيا خاصا بالشاعرة لا يشاركها فيه احد في قولها (لا يحتوي صوتي الفظ نهنهة النوح)!!
يقدم الديوان صورة امرأة، تعتز بذلك وتفخر بتكوينها، وتستقي صورها وجماليات الصياغة الفنية لبعض اللوحات من عالمها، عالم الانثى التي تجيد الشاعرة التشكيل به.
ولانها سيدة وشاعرة واثقة من ادواتها الفنية فإنها تلجأ إلى الانثى في اعماقها، وليس معنى انها ترى وتعلم وتوقظ الغافلين، ليس معنى ذلك ان تغادر انوثتها وتصبح رجلا، إن نجاحها في اتقانها لدور المرأة والمعلمة معا، وتتكئ الشاعرة في مجمل ديوانها على ثلاثة ظواهر للتشكيل بالانثى.
( أ ) الظاهرة الاولى: التشكيل بأدوات الزينة:
جريئة هي الشاعرة سواء قصدت ذلك ام تسربت هذه الصورة الشعرية من معجمها الانثوي دون ان تشعر، فها هي الزينة لا تخجلها، وانما تتخذ منها صورا لتزويق كلماتها واثراء صورها تقول الشاعرة:
المدى نقش امرأة لاسمها
في السطور التي سوف تأتي
منمنة في الكهوف رقيقة ,,خطوطا دقيقة,.
مبتهجا طائعا، مثل حنّائها، ,,ومشتعلا وهجا
لا يشى بالذي يتخبأ بين اناملها
,,.
,, هي في النقش هاربةٌ تطلب الغوث
لاجئة من عصور الرماد
اقرأ الآن نقش الكفوف ,,وحدِقّ
ترى وشمها ,,والاصول الوثيقة
فهي في النقش اصل الحقيقة,.
كل الحقيقة,,!سفر مستمر,.
وعمر يبادل اشواقها بحروف,.
تكابد جمر انتفاءاتها في البلاد 20-21
النقش الذي تعتز به الشاعرة هو حروفها - زينتها التي تتباهى بها على اقرانها, هذه الحروف المضيئة بالخير والحب والجمال منمنمة في الكفوف، لا تخفيها الشاعرة وانما ترفعها في وجه الجميع، فحروفها ليست عورة وكلماتها لابد ان تصل إلى الجميع، وتحدث التأثير المنشود، هذه الحروف مبتهجة مثل الحناء، ملونة بالامل الذي يتراقص فوق الاكف، ليست مجرد نقوش صماء عمياء ولكنها حروف قادرة على التغيير والتأثير، وهدفها ان تعلن عن احلامها خارجة من عصور الرماد (وحدق ترى وشمها), إن كنت ممن يملكون الآذان الصاغية والعيون المتحفزة فسوف تتفهم رسالتها الى بني الانسان، وخاصة الانسان العربي من المحيط الى الخليج، إن هدفها كبير، وأملها اكبر من ان تحمله الكلمات وهي لا تنكر انها انثى، بل على العكس يمدها قاموس الانثى بجماليات أخرى تشكل منها رؤية اكثر عمقا، تبهر بجدتها، ،تعجب بجرأتها فلا تملك امام هذا الاصرار وذلك التحدي إلا ان تستجيب لعمق الصورة الراقدة خلف التزويق والتزيين الذي رسمته الشاعرة, ان هدفها ليس النقش والحناء والوشم، انها نفس مفردات الانثى، ولكن بمفهوم جديد يدخل بك عالم امرأة جديدة لها رسالة توجهها من خلال كلماتها الى العالم.
نجحت الشاعرة اذن في استخدام أدوات جديدة ادخلتها إلى عالم الصورة الفنية، ساعدها حسها الانثوي الذي اكدته ولم تهرب منه، بل كان معينا لها في موهبتها الفنية، ولم يكن عائقا يتطلب منها الجبن والخوف والخجل، ولتؤكد انها تعتز بكونها امرأة ومن هذا الموقع الذي خلقها الله عليه تحارب الكسل والجهل والغفلة.
وهناك صورة اخرى مثل (نقش حنائها لوحته الشمس,,) ص106 وفيها توظيف آخر بحس انثوي لصورة الطلول البائدة التي يجب ألا نستجيب لبكائها ونتوقف امامها كالاوثان, وتكفي هذه الامثلة للدلالة على ما نقول.
|
|
|