نصف قرن على إنشاء حلف الأطلنطي,, وأى مستقبل؟! د, علي الدين هلال |
 في هذا الشهر، يكون قد مرخمسون عاماً على توقيع المعاهدة التي نشأ بمقتضاها حلف الاطلنطى، وهو الحلف الذي مثل علاقة التحالف الامني بين امريكا واوربا عبر المحيط الاطلنطى، كما مثل حجر الزاوية في استراتيجية الامن الغربي في مواجهة الكتلة الشرقية خلال سنوات الحرب الباردة, لذلك، فقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي وتحلل الكتلة الشرقية وتنظيمها العسكري (حلف وارسو) بمثابة تحد صريح لوجود حلف الاطلنطي ولدوره في مرحلة مابعد الحرب الباردة, وثار جدل واسع في داخل الحلف حول الوظيفة التي يمكن له ان يقوم بها بعد انتهاء المواجهة.
وكان اهم مظهر للاحتفال بمناسبة مرور نصف قرن على قيام الحلف هو تنفيذ القرار القاضي بقبول عضوية ثلاث دول جديدة هي: جمهورية التشيك، والمجر، وبولندا فيه، ومثل هذا الانضمام دلالة تاريخية بالغة، فهذه الدول التي كانت حتى سنوات قليلة ضمن معسكر ا لاعداء باعتبار عضويتها في حلف وارسو، اصبحت الآن جزءاً من التحالف الغربي، وعبر خافير سولانا، سكرتير عام حلف الاطلنطى عن دلالة توسيع عضوية الحلف، بأن ذلك: يثبت ان الحلف سوف يبقى بابه مفتوحاً امام جميع الديمقراطيات الناشئة في اوربا الوسطى والشرقية، التي تريد الانضمام الى المؤسسات الاوربية والاطلسية؛ والمستعدة لتحمل مسئوليات ذلك وفوائده ، مشيراً إلى ان انضمام الدول الثلاث ليس نهاية المطاف، ولاينبغي ان يعتبر امراً منعزلاً، وانما يندرج في اطار جهد اكبر لاقامة نظام امني جديد في القارة الاوربية .
والحقيقة ان موضوع توسيع حلف الاطلنطى ليضم دولاً من شرق اوربا جاء نتيجة حوار وجدل واسعين دار عبر السنوات الماضية، وجاء قرار قمة الحلف في مدريد عام 1997 بتوجيه الدعوة الى تلك الدول الثلاث للانضمام اليه؛ على ان يتحقق ذلك في ابريل 1999، بمثابة ختام لهذا الحوار الذي دار في اروقة وزارات الخارجية والدفاع بدول الحلف, كما كانت مسألة التوسيع محل نقاش على صفحات الجرائد وادوات الاعلام,, ففي 10 يناير 1994 نشرت جريدة الاندبندنت الانجليزية مقالاً يدعو لضرورة انضمام ليتوانيا الى الحلف, من ناحية اخرى، نجد مقالاً في جريدة الهيرالد تريبيون بتاريخ 5 ابريل 1995، يناقش موضوع توسيع الحلف، ويدعو الى التمهل في اتخاذ قرار بشأن ذلك.
اما المدافعون عن فكرة توسيع الحلف، فقد اشاروا الى ضرورة ايجاد دور جديد له بعد انتهاء دوره التقليدي الذي ارتبط بمناخ الحرب الباردة، وبعد اختفاء انقسام اوروبا بين شرق القارة وغربها, كما اشاروا الى ان توسيع الحلف يعني في واقع الامر توحيد اوربا في اطاره، وانهاء الانقسام الذي ظل واقعا تعيشه القارة طوال هذا القرن، واعطاء دفة لجهود الاتحاد الاوربي لضم اعضاء جدد, اما المعارضة الرئيسية لفكرة التوسيع، فقد نبعت من روسيا، التي اعتبرته تهديداً لأمنها القومي واضراراً بمصالحها الحيوية, وصرح وزير الخارجية، وقتذاك، يفجيني بريماكوف: اننا مازلنا نعتبر توسيع حلف الاطلنطى اكبر خطأ في اوربا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية , وتخوفت فرنسا من ان توسيع الحلف يؤدي به الى القيام بهمام رجل بوليس عالمي .
كما برزت اصوات معارضة من داخل الولايات المتحدة نفسها، وعبر عدد من كبار المتخصصين والخبراء في شئون الامن عن هذا الرأي ، في خطاب مفتوح الىالرئيس كلينتون، غداة انعقاد مؤتمر مدريد، وكان من بين موقعيه سام نان الرئيس السابق للجنة الاعتمادات العسكرية بمجلس الشيوخ، وبول نيتسه المفاوض الامريكي الرئيس في مفاوضات نزع السلاح مع الاتحاد السوفيتي قرابة عقد من الزمان, وبنى هؤلاء معارضتهم لتوسيع الحلف على اساس انه سوف يؤدي الى اثارة جو من عدم الاستقرار في اوربا, ذلك, ان من شانه اغضاب موسكو: في وقت تحتاج فيه واشنطن الى تدعيم عناصر بناء الثقة المتبادلة بين البلدين ، كما ان توجيه الدعوة لعضوية الحلف الى بعض الدول في شرق اوربا دون غيرها، سوف يخلق شعوراً بعدم الامن من جانب الدول التي لم توجه اليها الدعوة اضف الى ذلك ان هذا التوسيع ربما يؤثر على قدرات الحلف العسكرية، كما اثيرت مجموعة من القضايا الفنية، منها مثلا: طبيعة الضمانات الامنية التي سوف يقدمها الحلف للاعضاء الجدد، وعما اذا كانت سوف تتضمن مظلة دفاعية نووية ام لا, فإذا كانت الاجابة بنعم، فإن ذلك يتضمن مزيداً من انتشار السلاح النووي، وهو امريتعارض مع احد التوجهات المعلنة للسياسة الامريكية, واذا كانت الاجابة بالنفى ، فإن ذلك يقلل من صدقية الحلف ويقسم اعضاءه الى مجموعتين؛ احداهما تشملها مظلته النووية والاخرى خارجة عنها.
وجاء قرار قمة مدريد في 1997 ليحسم هذا الجدل, واكد الرئيس كلينتون على ان قرار توسيع الحلف من شأنه تعزيز الديمقراطية واقتصاد السوق في اوروبا والعالم, ومن هذه الزاوية، يمكن النظر الى هذا القرار على انه حلقة ضمن التحركات الامريكية لوضع اسس جديدة للأمن في اوربا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة؛ وتتضمن هذه الاسس: دعم سياسات التحول الديمقراطي، والتوجه نحو اقتصاد السوق الحرة في دول شرق اوربا، وابرام اتفاقية للتعاون بين الحلف وروسيا، وانضمام موسكو كعضو كامل الى مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في العالم، وتوقيع سلسلة من الاتفاقيات بين الحلف و28 دولة اوربية في اطار ماسمى مجلس المشاركة الاوروبية الاطلسية .
في هذا السياق، يمكن ان نفهم احتفال الحلف بمرور نصف قرن وتوسيع عضويته، فحلف الاطلنطي يسعى الى بلورة دور استراتيجي جديد ، يأخذ في اعتباره نوعية التهديدات ومصادر الخطر الجديدة، فلم تعد التهديدات تقتصر على حماية الحدود من الناحية العسكرية او منع انتشار اسلحة الدمار الشامل، وانما اتسعت لتتضمن دعم نمط الحياة في الدول الاوروبية وامريكا الشمالية، وتكريس التطور السياسي والاقتصادي في اوربا صوب هذا الاتجاه,وهذا المعنى عبر عنه ستروب تالبوت مساعد وزيرة الخارجية الامريكية، حيث أشار إلى أن توسيع عضوية الحلف يفتح الطريق نحو دعم الإصلاحات الديمقراطية واقتصاد السوق وبرامج التكيف الهيكلي في هذه الدول, هذا فضلا عن ان تلك الدول سوف تساهم بدورها في دعم القيم السياسية والاقتصادية عبر حدودها وارتباطاتها وتفاعلاتها مع الدول المجاورة لها, ويضيف بعض المحللين، ان قبول تلك الدول الثلاث سوف يقضي على بقايا ذكريات العداوة بينها وبين المانيا.
في مواجهة ذلك، عبر فريق اخر من المحللين عن تخوفهم من ان قبول بولندا وجمهورية التشيك والمجر قد يخلق تقسيما جدياً في اوربا، ولعل ذلك، مادفع قادة حلف الاطلنطى الى تاكيد سياسة الباب المفتوح ففي البيان الختامي لمؤتمر مدريد، وردت اشارة الى رومانيا وسلوفينا؛ دون وعد صريح بدعوتهما لعضوية الحلف، وتكرر معنى سياسة الباب المفتوح وامكانية ضم دول اخرى في الايام القليلة الماضية، عند الاشارة الى انه ليس هناك اي بلد في اوربا؛ بغض النظر عن تاريخه او جغرافيته، مستثنى من عضوية الحلف في المستقبل.
من جانبها، اكدت روسيا على مواقفها السابقة، ووصف وزير خارجيتها انضمام الدول الثلاث الى عضوية الحلف بأنه حدث مؤسف وانه خطوة في الاتجاه الخطأ ودعا الدول الاوربية الى بناء نظام امنى مشترك يتوافق مع مصالح كل الدول، وحذر وزير الدفاع الروسي من استمرار حلف الاطلنطى في التوسع لان ذلك يعني ضغط الفضاء الجيو- سياسي والعسكري لروسيا واذا اخذنا في الاعتبار، ان دولاً مثل استونيا واذربيجان قد اعلنتا رغبتهما في الانضمام للحلف والاستعداد لاستضافة قواته، فإن التخوفات الروسية تصبح اكثر دلالة, ولكن يبقى السؤال، عما تستطيع روسيا ان تفعله؛ في ظل ظروفها الاقتصادية والسياسية الراهنة، من اجل وقف هذا التوسع في المناطق التي تعتبرها لصيقة بأمنها القومي، ولاتوجد خطة محددة حتى الآن من جانب حلف الاطلنطي بشأن الدول التي سوف تدعى لعضوية الحلف، كما لايوجد جدول زمني محدد بشأن توقيتات انضمامها, ولكن الارجح ان سياسة توسيع الحلف قد اصبحت حقيقة واقعة، وقبول الدول الثلاث سوف يشجع دولاً اخرى على طلب المعاملة بالمثل، وسوف يكون على قادة دول الحلف التعامل مع هذه الطلبات.
من ناحية اخرى، فإن توسيع حلف الاطلنطى دعم التوجه الامريكي القائل بأن الامن الاوروبي يتحقق من خلال دعم الرابطة الاطلنطية ويبقى اخيراً، القول بأن توسيع الحلف سوف يكون مقدمة لترتيب العلاقة بين عالم الاطلنطى والمناطق المحيطة به، وهو مايطرح على الفور علاقة الحلف بدول البحر الابيض المتوسط، باعتبارها المنطقة الجنوبية المتاخمة مباشرة للحلف يؤكد ذلك، ان اعلان قمة الحلف بمدريد تضمن انشاء لجنة جديدة باسم مجموعة التعاون المتوسطية كما انعقدت عدة مؤتمرات وندوات لبحث العلاقة بين امن عالم الاطلنطى وأمن البحر المتوسط .
فهل تكون تلك التحركات بداية لروابط اطلسية اوثق مع دول جنوب المتوسط؟
|
|
|