Sunday 21st March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 4 ذو الحجة


حول النواة الأولى للتعليم النظامي بعنيزة
د, عبد العزيز الخويطر *

أتشرف، وأنا التلميذ الذي ترك السنين خلفه، بالوقوف امامكم, في هذه الدقائق المباركة، أستعذب خطو الزمن، وأتمتع بصدى وقع أقدامه، وبما تركته هذه الخطوات من ذكريات، ذكريات ملأى بعبق فواح، يجتر الذهن بمتعة مرورها اليوم به، وما لم أصطده من صدى وقع اقدام بعضها اغبط عليه جنبات عنيزة، يلثم هذا الوقع يمينا الجال، ويقبله يسارا الضاحي، يشهد على ذلك الصنقر عند شروق الشمس، والغضا عند غروبها، وتبتسم له نخلات طلعها هضيم، وأثل متعانق كثيف, حفيفه هزيج الأصالة، وأنشودة الوطن.
صاحب السمو، أيها الإخوة:
أيام الصغر مضيئة، ولها بهجة، وبهجتها غامرة، النهار فيها نشاط بريء، والليل هدوء وسكينة، يتخلل النوم فيه احلام هي اماني النهار، بطموح محدود، لايعدو النصر على القرناء، والربح منهم، وإتقان الأذى، والنجاة من العقاب.
لهذا، ولغيره ، صور، اللعب في الأسواق صورة، والعراك صورة، والتحزب صورة، وفي كل شبر في المدرسة صورة، وفي غير المنهج الثابت صور، جمل يركل طفلا صورة، جمل يعترض طريق الصغار صورة، مناسبة عرس صورة، مناسبة ختان صورة، وليمة لمسافر عاد صورة، وليمة لحافظ للقرآن صورة، حرب بين حيين صورة، يدخل تحتها صور، من بينها شروط الحرب، ونتائجه من شجاج، ودماء، وفقد عين، أوإحداث عاهة اخرى؛ وفي مواسم العجاوي، والكعابة، والملعية، والبعة، والصقلة، والسبت سبوت، صور تتكرر.
أجل ذكريات، ذكريات تخص الاماكن، ومن فيها، ومافيها: ذكرى المداق، او المغرنة، اوباب الخلا، ومافيها من ثروات لبعض الصغار، منها طوقان، وام اربع عيون، ومنذا، جراء يختش لها الصغير كريات من الحنيني، ينجح في إخفائها، ولكن جيبه بعد يومين او ثلاثة يفضحه، إذ يبرز منه الدسم وقد اختلط بالغبار ، فيتبين المخفى، ويفتضح الجرم، ويأتي العقاب مصعة أذن من الوالدة، أو صفعة على الخد من الوالد، او مطرقين من الاستاذ صالح أمام أعين الطلاب، وهم بين غابط على حيازة الجرد، ومتشف لسوء علاقة بسببه، أو مشفق لصداقة أو خوف من اكتشاف جرم لم يكتشف بعد.
أجل ذكريات تتزاحم عند الالتفات إليها، ذكرى الطلاب، وقد فتح لهم باب المدرسة، ليخرجوا، قبل صلاة الظهر، فاندفعوا كقطيع، يركضون عبر الشوارع الضيقة، التي تردد جنباتها اغانيهم، المعبرة عن حالتهم في هذه اللحظات، وهم يرددون:
واويل الجصة وان جيته واكل عشر قبل اسمي
نعم ذكرى بارزة، تلك هي تشجيع الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لمدرسة الاستاذ صالح الخاصة في الأعوام التي سبقت إنشاء المدرسة السعودية، إذ كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يصرّ أن يكون من ضمن برنامج زيارته لعنيزة حفل في هذه المدرسة، وهو حفل مشهود، برنامجه مملوء بالترحيب، والاناشيد والتمثيليات، وقد شدته - رحمه الله - تمثيلية هارون الرشيد, أجل شدته، وبحق، فقد كانت متقنة نصا، وإخراجا، وتمثيلا، وكأني أرى المشتركين فيها، أمامي الآن، يمرون بسوق الهفوف، بملابس العصر العباسي المتخيلة، اثناء حكم هارون الرشيد, وأحدنا لا يسعه اليوم إلا ان يقدر بإكبار الاستاذ صالح - رحمه الله - وإتقانه إخراج الزي، وإقناعه أهل الطلاب بتفصيله، والصرف عليه، في وقت لم يكن يلتفت إلا إلى ضرورات العيش.
والمداد له ذكرى، والتلاميذ يتعمدون ان تملأ بقع المداد ثيابهم، يمسحون القلم بالثوب مرات ومرات، حتى لايكاد يرى بياض الثوب في بعض اجزائه، وبهذا اتخذ الثوب إعلانا ناطقا صامتا بأن هؤلاء الصغار تلاميذ في مدرسة ابن صالح، بؤرة الشرف، ومحط الفخر، وهم يأخذون من هذا بنصيب واف.
وهناك ذكرى فتح المدرسة السعودية الرسمية ابوابها في عام 1356ه، مبتدئة بثلاثة فصول تحضيرية، وسنة ابتدائية، استقبلت الفصول الثلاثة من سبق ان درسوا القرآن في الكتاتيب عند المطاوعة؛ والفصل الابتدائي، وهو أعلى فصل في المدرسة، حظي به من سبق ان درسوا عند الاستاذ صالح في مدرسته المتميزة، وكانوا قد قطعوا فيها شوطا.
ذكرى هذه المدرسة: حوش صالح العلي - رحمه الله - وعلى جوانبه غرف العلف، والأشدة، والخروج، والمزاود، والسياح، والارسنة، والميسم، والقيود؛ غرف بلا ابواب، ولا نوافذ، اكرمها الله، ورفع قدرها، فأضحت فصولا للدراسة، وطلب العلم، يتزاحم فيها التلاميذ جلوساً على الأرض، على الرمل، يزاحمهم في هذا البرد في الشتاء، والحر في الصيف، يغلبون صفير الريح بصوت اصطكاك أسنانهم, وركبهم، وارتعاش اجسامهم الهزيلة.
ذكرى تنافس التلاميذ على الأولوية سليمان الزامل - رحمه الله - وعبدالعزيز الخويطر، وعبد الله الفالح، وعلي السيوفي - رحمه الله - وتتساوى درجاتهم في كل اختبار، وكل واحد منهم ينال الدرجة القصوى وهي تسعون من تسعين، ويتقرر ان يكون جلوسهم حسب حروف الهجاء، فيتقدمهم - على هذا - سليمان العبد العزيز الزامل - رحمه الله - ويصبح رئيس الفصل.
ذكرى هيئة التدريس بهذه المدرسة عند انشائها، وعددهم ثلاثة، على رأسهم الاستاذ صالح الناصر الصالح ومعه أخوه عبد المحسن، والشيخ سليمان المحمد الشبل، أسكنهم الله فسيح جناته, ووقع عليهم عبء الإنشاء، من تقسيم الفصول، وفرز التلاميذ، وتحديد الاوقات، وحلُّ معضلةٍ برزت في الوسيلة التي يُدخل بها التلاميذ الفصول عند بدء الدروس، والتي يُخرجون بها، وفي الحجاز لم يكن لهذه المعضلة الكبرى وجود، فقد كان الطلاب يدخلون على صوت الصفارة، ويخرجون عليه، ولكن هذا غير مقبول في نجد، لأنه يدخل حيز المكاء والتصدية، ووقع الشيخ سليمان - تغمده الله برحمته - على الحل، وجاء بصيغة مبتكرة، يملأ ساعةالمنبه الخراشة ثم ترن، فيحدرها من نافذة غرفة المدرسين، فيسمعها القاصي والداني، في حالة الدخول والخروج، وبهذا زالت الحيرة، وارتفع العجز.
هذه المدرسة هي النواة الأولى للدراسة الحديثة المنتظمة، في هذه المنطقة، ومعها بدأ غرس الثقة في هذا التعليم، وتوالى ازدياد عدد التلاميذ سنويا، وبانتظام، مما أكد ان النفوس كانت عطشى إلىمثل هذا، وكان بعض التلاميذ قد ذاقوا طعم العلم على الطريقة الحديثة في مدرستي القرزعي، وابن صالح - رحمهما الله تعالى - ورأى اهلهم استفادة الملك عبد العزيز من خريجيهما عندما التفت يبحث عن موظفين مؤهلين لحمل العبء معه في مقابلة متطلبات التنمية في المجالات المختلفة، فكانوا من أول من استفيد منه.
إحساس الملك عبد العزيز - رحمه الله - بأهمية التعليم كان قويا، وكان هذا واضحا في اقواله وافعاله، فإذا اهتم بمدرسة ابن صالح الصغيرة - كما رأينا فإنما ينطلق من مبدأ آمن به، وأدرك فوائده، حاضراً ومستقبلا؛ ومن يعرف فقد يكون في تلك اللحظات يتصور، وهو العبقري، ماسوف يصل إليه التعليم في بلاده مع الزمن.
وقد رأى - رحمه الله - عن كثب، فائدة التعليم في المدارس النظامية في مكة المكرمة، على تشعب هذا التعليم واختلافه، وقرر ان يوحد اتجاهه، وان يدفع سيره، وان يزيد انتشاره، وقد قال، وفعل، ونجح, ومارآه في الحجاز اراده لبقية مناطق المملكة، فأصدر امره بالبدء في إنشاء عدد من هذه المدارس في بعض المدن الكبرى، ومن اولها عنيزة، والمجمعة والاحساء، ثم تلتها مدارس أخرى في مدن اخرى، وسرعان مابسقت دوحة التعليم، وازدهت اغصانها، وأينع ثمرها، لأنها بذرة طيبة، في ارض خصبة، سقيت بنية حسنة، وتعهدت بيد حانية، وجهد مخلص.
وذاق التلاميذ طعم العلم، فأقبلوا عليه ، ولهثت الإمكانات الرسمية، مالية وبشرية، لتقابل هذا الطموح، وتتجاوب مع هذه الرغبة، وكان جهد، وكان إنجاز، غطيت المدن، والقرى والهجر برداء المدارس الضافي، وراحت المدارس تتبع اصغر التجمعات، حتى أماكن الرعي في بعض الأحيان، ولم يقف الأمر عند مجانية التعليم، بل تعداها إلى الإعانات.
وكان لابد لهذا الصرح من قمة، ولابد لهذا الرأس من تاج، وتاج المدارس الجامعات، فأنشئت الجامعات، في أول الأمر على استحياء وحذر، ثم انفتح الباب، وزادت الثقة، وتعددت الجامعات حتى وصلت الى ثماني جامعات، مع كليات إضافية تزين أديم المناطق هنا وهناك، وتستعد لتكون جامعات في المستقبل.
والعمل للطلاب يواكبه العمل للطالبات، والعمل للمدرسين يسايره العمل للمدرسات، ولم يعد الحديث عن عدد الطلاب والطالبات بالمئات، أو بالآلاف، بل اصبح بالملايين، ممايري مدى القفزة، يتبع هذا نمو المدارس والمكتبات، والوحدات الصحية، والملاعب.
رحم الله الملك عبد العزيز على الغرس الذي غرس، ورحم ابناءه سعوداً وفيصلاً، وخالداً، الذين رعوا هذه الغرسة بصدق وأمانة، وابقى الله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز وولي عهده الامين الامير عبد الله بن عبد العزيز، اللذين يسعد التعليم اليوم بتشجيعهما له، والتفاتهما إليه، ودفع عجلته إلى الأمام، وتوجيهه في الطريق السليم، وتعضيدهما الذي لايحد لانملك إزاءه إلا ان ندعو الله العلي القدير أن يجزيهما خيراً، وأن يأخذ بيدهما، في مجال التعليم وغيره، الى ماينفع ويرفع، انه جواد كريم.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
منوعــات
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved