بداية، ليسمح لي الشاعر البحريني علي الشرقاوي، ان أستلَّ مقولته البليغة من مقدمة مهمة كتبها الدكتور عدنان جواد الطعمة للمجموعة الشعرية الثالثة (ايقاعات امرأة شرقية) للشاعرة السعودية بديعة كشغري، لكي تكون مفتاحا لعزف ايقاعات انطباعية، المقولة هي: اذا كان المبدعون من ذهب لانهم نادرون فالمبدعات من ألماس، فهن اكثر ندرة! وسبق ان ألمحت الى هذه الندرة في سياق حوار معي (الرأي العام الكويتية بتاريخ 13/12/1989) بما يلي: ثمة قاسم مشترك بين النقد وشعر المرأة، هو الندرة! ولا أدري اسباب هذه الندرة رغم ما اتيح للمرأة من فرص للتعبير وان ما يوجد من شاعرات في سورية امثال: هند هارون، طلعت الرفاعي، عفيفة حصني، نبيهة حداد، عزيزة هارون، فاطمة حداد، هيام نويلاتي,, ينتمين على الغالب الى الجيل السابق ثمة اصوات ما تفتأ تظهر حتى تختفي هنا وهناك، اما بفعل الموت او بفعل الصمت! يقول د, الطعمة: رغم ان مشوار تعليم الفتاة في المملكة العربية السعودية لم يبدأ الا في اواخر الخمسينات من هذا القرن (الميلادي) الا ان كتابة المرأة الابداعية قد ظهرت في السبعينات وخطت بخطى واثقة، حتى اضحت في العقود الثلاثة الاخيرة والتسعينات خاصة، تضاهي كتابة زميلاتها المبدعات في أرجاء العالم العربي ككل وربما على مستوى عالمي اكبر, ويقول ايضا,, وفي عالم الشعر برزت اسماء عديدة لمبدعات سعوديات الذي يعد أكثر جرأة من سواه من الاشكال الادبية لانه يعتمد على البوح الذاتي ويكون فيه الافصاح عن الذات برغباتها وآمالها وتطلعاتها ومن هذه الاسماء: اشجان هندي، د,ثريا العريض، فاطمة القرني، فوزية ابو خالد، لطيفة قاري وبديعة كشغري، فالشاعرة بديعة كشغري واحدة مع اسماء هؤلاء، اضافة الى مبدعات جادّات أخر، يشكلن علامات مضيئة في الابداع العربي المعاصر, وان من الغبن بمكان الام نثق بالادب النسوي ومبدعاته وشاعراته على وجه الخصوص لاسباب لامجال لذكرها الآن، فان من العلامات الفارقة، المتميزة، في مسيرة الادب في النصف الثاني من القرن العشرين، اعطاء مساحة واسعة من مشهديّته الى المرأة المبدعة ، واتاحة الفرص امامها، جنبا الى جنب مع الرجل المبدع.
وبعيدا عن العُقد التي يعاني منها بعضهن تقول بديعة:
انا لست ضد الرجل، ولا اهاجمه، ولكني اؤمن بالثنائية في الحياة، فلابد ان يشعر الطرفان بوجودهما (من حوار مع الشاعرة - الحياة الحديثة: العدد 1643/ 3 مارس 1998).
وهذا ما حدا بها الى ان تقول في مستهل مجموعتها الثانية (مسرى الروح والزمن) يوما ما ,, قد اكف عن مساءلة يومي : كيف أوازن بين العقل والجنون، وبين الوجود والعدم؟، لكن مصابيح الروح سوف لن تكف عن إضرام اسفارها الموغلة في تضاريس المستحيل ، الرافضة لأنصاف الحقائق، والمتموسقة اجراسا : يُسرى بها ,, خارج زفرات التكوين؟! فان المصالحة مع الرجل، والمشاركة في صناعة الحضارة والمستقبل الخطوة الاولى التي تفضي الى توازن يضاء بمصابيح الروح على ما يعانيه الرجل والمرأة معا، من سلبيات!
بديعة كشغري شاعرة جادة، مسكونة بالوعي مثلما هي مسكونة بالحزن والألق، متواصلة مع الآخر قراءة وتناصّاً لتصوغ أناها المبدعة، فالشاعرة مشغولة بأسئلة مصيرية تتفجر من حدود الذات الى ساحة اوسع، منها ما ورد في قصيدة: مساءلة في كهف الروح ص 16 من ديوان (مسرى الروح والزمن/ دار الكنوز الادبية - بيروت - 1997) مايلي:
ما أهولها اسئلة
تجهش في عتمات النسيان!
أنقايض ذاكرة التاريخ
بذلِّ الروح؟
أنهادن آمالا تكسونا,.
بدماءٍ وجروح؟
كما هي مسكونة بهاجس التغيير كما في ص 25 قصيدة: سأعيد تكوين الكلام: هي صرختي/ فتنبهوا,,/ فأنا سأنثر حقنة من وهجها/ وأمسُّ وجه الارض بالملح القديم/ وتختتم القصيدة: سأعيد تكوين الكلام/ وأعيد ترتيب الحكاية/ وأعيد للقلب المعلق خفقه/ الخ
وكما هي مؤرقة لما آل اليه حضورنا، تتألم قائلة:
أيها العصر الهلامي القوام
يغيب حضورنا ,,أو يغيِّبنا
موكب الحدث الذليل
ويل لنا,, اليوم أصبحنا
بل وأمسينا حطاما
نحتفي بقدوم عصر يستبيح سيوفنا!
وهكذا,, تستمر الشاعرة بديعة كشغري بالبوح ترقص في اقفاصه اطيار تتململ ، تنشج او تصرخ بأسئلة التراب وهي اسئلة مشوبة بالغموض والقلق والألم، ترددت اصداؤها في قصيدة غامضة حملت العنوان (اسئلة التراب) ص 31.
وثمة مناخ نفسي يغلف معظم قصائد الشاعرة من اولى سماته ضيق بالمادة والتراب والعصر، ونزوع نحو الروح وبيداء الروح في قصيدة (قالت ناطقة باسم الروح ص 39) تجد في البحر معادلا موضوعيا لمعاناتها بعد ان اشعلت نقطة حزن في العمق بيداء الروح، فهي مثل البحر، مثل تصهال الجياد، والجمع بين البادية والبحر في قصيدة نجحت الى حد بعيد في تصوير توترات النفس الانسانية، المرهفة، والروح الناطقة علناً.
و,, سأنتثر الآن وأهمي
أتفجر برقا او رعدا
وسيعلو تصهال جيادي
لن اخشى جزرا او مدا
وان الفلسفة واسئلتها، تلقي بظلالها المحيرة، القاتمة، القانطة ففي قصيدة: بين نقطتين ص 65، نجد هذه الظلال في قولها: من نقطة شك عدت اخرج من اوزار دمي
كي ادخل في اروقة جنوني
لم أك اعلم ,.
ان الضوء احقاب توارت!
وفي قولها: هي ذي أجنحتي
تتراقص في منحدر
تسافر بارتداد
نحو المبتدا
فالنوسان بين نقطة الضوء ونقطة الشك اسفر الى ان تتمسك الشاعرة ب (الرؤيا) حيث تقول:
يا تلك الرؤيا
اعيدي الضوء المأسور لعيني
دعيني أرشف من سدرتك الاولى
بل وتطلب الغناء من هذه الرؤيا ، ومدار الغناء هنا هو ضمير المتكلم: غنّيني سنبلة تخرج من الف مدى ملحمة تسكن في اقصى العتمات
واقصى ذاكرة للاوطان!
ان وعي الشاعرة يصبغ دم القصائد وصورها فيجعل من بعضها ذا بناء درامي، هرمي، وبعضها الآخر ذا بناء ذهني، افقي، امتدادي، فضلا عن قصائد من النمط الومضي المختزل حققت فيه نجاحا رائعا مثل غياب ص 94 من ديوانها الثالث (ايقاعات امرأة شرقية): لم تكن غائبا,, في الاسبوع الماضي
لأن وجهك ,,كان يسكن بين عينيّ والافق
وقصيدة (غضبي) ص 96 وهي من القصائد القصيرة انما هي نموذج ناجح للشعر المموسق: لملم دمي
استقرىء وجعي
وفي قصيدة (ما أتيتك كي امضي ص 72) تحقق الشاعرة كشغري ما يصبو اليه الابداع الحقيقي في خطاب غاية في العذوبة والدفء.
وكذلك في قصيدة (رسالة خارج الزمن ص 102/ ايقاعات,,) برز التشويق لقارئها، لدفء مضمونها وبساطة صورها: حينما تنفلت دقات الساعة من يدي
ويطل الجرح من عمق الليل
المنكسر في جسدي
ألجأ الى عينيك ,,حين يطول السفر
ويشيع الصدأ
في أوراق الكتب وتوابل الجياع
أتجه الى قلبك
***
حينما تحزن الارض
بما حملت من معاصٍ
ويكتظ صدري بكثافة الغربة
أتجه الى روحك,, الخ.
وكما لمسنا بساطة الصور ودقتها وانسيابية كلماتها نجد الشاعرة في قصائد اخرى صورا مركبة، وغموضا مبهما في قليل من الاحيان، وغموضا شفافا على الاغلب وفلسفة تبثها الشاعرة هنا وهناك في ثناياها وأضرب مثالا على ذلك قصيدة(على ايقاع العمر ص 130 - ايقاعات): تسألني : ما العمر؟
فيتحرك ايقاع ارجواني من الداخل
ليحسب المسافة الممتدة
ما بين تنهدات الغيم
المحملة بأزمنة الوطن، الحلم
ولواعج ال أين وأل متى
الضاربة في جذور أرضك
المتجهة نحو أقاليم اللاحدود!
ان في توصيل شعرها مترجما الى لغات اجنبية، كما فعلت في ديوانها (ايقاعات امرأة شرقية) حيث كتبته بالعربية والالمانية وصدر عن دار البيان - ماربورغ - ألمانيا/ 1998 وقام بترجمته الى اللغة العربية د,عدنان جواد الطعمة، امر مهم سيرحب به القارىء الاجنبي لانه من المبادرات التي توسع من قراء الشعر العربي المعاصر، وتنتقل به الى آفاق العالمية.
وهذا الديوان كان اشبه بمختارات شعرية ارادت بديعة كشغري السعودية، العربية، المسلمة، الشرقية ان تعبر عنها احسن تعبير، واشمل ملامح ورؤى، فكررت نشر قصائد سبق ان ظهرت في ديوان.
الشاعرة كشغري تمتلك موهبة ومقدرة على الابداع والتخييل والتصوير وإنما لابد من الفصل بين كتابة وكتابة، بين قصيدة تفعيلة مثلا، وبين قصيدة نثر، ولكل من النمطين مواصفات ومزايا، وقصيدة النثر لا تقل اهمية - برأيي - ان كانت من النموذج الجيد ولو كانت خالية من الايقاع الخارجي - عن اية قصيدة موزونة, والخروج من التفعيلة الى النثر او بالعكس، لابد أن يضع الشاعر بيد قارئه المتربص، المترصد لتجديده وتحديثه، ذرائع لهجومه, وشعرية كشغري ستزدهر اكثر اذا ما وسعت من مضامينها ونزلت الى الواقع المعيش، ووسعت ايضا من عناصر عدة في تخلق قصيدتها مثل: الحوار والقص واللون والشخصيات والتاريخ,, وقد فعلت فأبدعت ، وإنا لمنتظرون المزيد.
|