Saturday 27th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,السبت 10 ذو الحجة


قراءة نقدية في المجموعة القصصية
رسوم غامضة للزمن المفاجىء للقاص سهيل مشوح
د, ياسين فاعور

* تقديم:
(رسوم غامضة للزمن المفاجىء) هي المجموعة القصصية الثانية للقاص سهيل مشوح تمتد على مدى خمس وتسعين صفحة وتضم عشر قصص قصيرة متفاوتة في الطول ومختلفة في البنية والسرد.
صدرت عن دار بردى للدراسات والنشر والتوزيع وتحمل المجموعة عنوان القصة الخامسة وتعكس صورة الغلاف بألوانها وظلالها وتشعباتها وتمازج الضوء فيها غموض الاحداث في الزمن المفاجىء.
يستنفر العنوان ولوحة الغلاف قارىء المجموعة يثير فضوله ويلهب تساؤلاته ليكشف غموض هذه الرسوم مستقرئا احداث الزمن المفاجىء.
يستنفر العنوان ولوحة الغلاف قارىء المجموعة، يثير فضوله، ويلهب تساؤلاته ليكشف غموض هذه الرسوم، مستقرئا احداث الزمن المفاجىء .
يسابق انامل القارىء شوق نفسه لتقليب صفحات المجموعة لتطالع القصة التي حملت المجموعة عنوانها مرة ولتطالع فهرس المجموعة مرة اخرى وعندها تطالعه عناوين القصص (الراقصون، موسيقا لأنشودة المطر، الريح تهب من المقبرة، النار في جسد السنابل، رسوم غامضة للزمن المفاجىء، فرح الاعشاب، جراح المدينة، نداء الساعة الخامسة، صور من الصو والحلم، ويأتي يوم آخر).
وعندما يبحث عن الرابط بين قصص هذه المجموعة يجد الانسان والزمن محوري هذه المعادلة الجميلة وبين الانسان والزمن تتجاذب الامور وتتنافر، تتأزم وتتهادن، وفي الحالين تلتهب المشاعر وتصحو الرؤى، تستقرىء المستقبل الغامض، محاولة رسم صور لهذا المجتمع الذي يجمع النقيضين في حناياه، حياة البذخ واللهو والترف وحياة الفاقة والجوع والفقر وكل من الفريقين يسعى لغايته و(الزمان صفقة رابحة في قاموس لغتهم الفجة) ص14.
كما يجد أن الرسوم التي تتصدر كل قصة هي جزء لا يتجزأ من جسم هذه المجموعة وهي الرسومات الغامضة - الواضحة لهذا الزمن المفاجىء رسومات رسمتها رؤى القاص وخيالاته ترجمتها ريشة فنان وتصدرت قصص المجموعة وقدمها يراع القاص فكانت صورة ونصا للقطات فنية، التقطتها إبداعات القاص الذي يملك حسا مرهفا ونفسا شفافة تتحسس همس النسمة ولفحة النار، وغنوة الروح، ونشوة الفرح، وحرقة الألم.
* المجموعة:
تضم المجموعة عشر قصص قصيرة تشي قصصها بمضمونها وتستحوذ على مخيلة القارىء فيسارع لتحليل اللوحة اولا ولقراءة القصة ثانيا فاذا اللوحة والقصة هيكل صورة حياتية نعيشها، نكتوي بنارها او نسعد لنتائجها نحياها ونعبر عنها لكن آلة القاص مكنت أقدر على التقاطها وتجسيدها او تكثيف الضوء عليها وتقديمها لنا بأسلوب ماتع ولغة شاعرية تستمد من انشودة المطر نغمها ومن قصص القرآن روحانيتها.
واذا شخوص القصص غنيهم وفقيرهم حكيمهم وساذجهم المنسي المغمور منهم والمعروف المشهور يتحركون ودولاب الزمن يدور معهم يقهرهم كثيرا لكنهم يتسلحون بالامل، الامل الذي يملأ حياتهم يلوح لهم في طيات الفقر ونسمات الهواء ورذاذ المطر, في عنفوان الصبي وبراءته وفي حكمة الشيخ وصرخة العجوز (ام الخير) في نمو سنابل القمح ورسوم شادي في خطوطه المنخية والمتوازية وفاكهة الانتظار (البرتقالة) برسم اللوحة الثائرة وبكتابة القصيدة الهادرة.
فاذا الزمن المفاجىء يذكي جذوة الثأر ويؤجج نار الحماسة في نفوس الصغار وتنفجر الانتفاضة وينتفص شادي مثل الاخرين فتبين خطوطه وتتضح كلماته وتنتشر رسومه بين الناس املا قريب المنال وتسري كلماته الهادرة بينهم نشيدا لذيذا (خطير,, خطر قد عاد اطفال الحجارة للحجر) ص 53 - 54.
كما يرسم الذكريات الوردية تدافع مخيلته على ضفاف الفرات وصور الفقر في بلده التي غاب عنها طويلا (الطفل لا يعرف شكل الموزة ليرسمها في حصة الفنون والتراث لا يكفي لشراء حذائه) ص 62، وحرب الطبيعة الضروس على الاشياء كافة.
ويرسم صورة الرحيل رحيل الانسان عن داره وابتعاده عمن يحب (وبشرى تزرع نظراتهاالمؤنبة في وجهي لتحفر ملامحي في ذاكرتها وشمس (دير الزور) ترسم حولنا ظلالها مشوهة واغنية بعيدة تخترق آذاننا عنوة) ص 1.
كما يرسم صورة الجفاف يقتحم المدينة وتنادي اهل السعة لتقديم العون والمساعدة وفرحة الاطفال بالمطر يعوض سني طفولتهم التي سلبها الجفاف وزغاريد النسوة تنبعث من كل الجهات.
ويرسم صورة الحبيبة والشوق والوداع والبحث عن كلمات تقال في الوداع ضيعتها القواميس ووقفة الزهو كالبرتقال والتمثل بالسنابل التي تعلم الكثير في طليعتها الموت الشهي وامل اللقاء ولو بعد حين الى ان تلتقي بعد حفنة صغيرة من الضوء انتظر بأمل) ص 87.
ويختم رسوماته بلوحة الامل الامل بالحياة السعيدة (في جزيرة صغيرة، في بقعة نائية من هذا العالم المزدهر، ونملؤها اطفالا يعشقون الحجارة والبرتقال والالوان الخضراء الزاهية، ونفطمهم باكرا عن الشعر والبكاء والكلمات البذيئة والكوابيس) ص 91.
وصورة اخيرة لدير الزور المدينة التي احبها في حله وترحاله وفي صحوة ونومه، وفي يقظته وذهوله.
معادلة الانسان والزمن معادلة القسوة والقهر والغالب والمغلوب والمعتدي والمعتدى عليه، التي يقدمها القاص في مجموعته من خلال شخوص يبدو لنا بصور متعددة في حركاتهم وسكناتهم وفي يقظتهم واحلامهم في بوحهم وفي اقوالهم وافعالهم وفي الامل الذي يملأ نفوسهم الامل الذي يشك ملمحا اساسيا في قصص المجموعة.
وتبدو معادلة الانسان والزمن والامل من خلال سمات عدة نلحظها في:
* الوصف الجميل:
والكاتب يمزج بين الوصف الخارجي والوصف الداخلي حتى في قصصه التي جاءت في حكم المطلق كما في قصة (الراقصون)، (الزمان صفقة رابحة في قاموس لغتهم)، (بطون النساء قادرة على الانجاب، والشوارع تضيق بالاطفال) ص15.
كما يصور الحركة والسكون (الانفاس تعلو وتهبط رتيبة، تتحد الاجساد ببعضها,, تزداد التصاقا,, تخفت,, تلتصق) ص15، ويصور الطبيعة الصامتة ويعمل قدرته فيها ليثورها(ابو هلال ينظر الى السماء البعيدة يتمنى لو انه يستطيع الوصول اليها ليمزق جسدها الكبير بخنجره لينزف ما شاء من مطر) ص25, او يستعطفها علها ترق له (ليتك تقتربين مني ايتها السماء، لأقص عليك حكايات بؤسنا وعطشنا كي ترقِّي وتغرق دموعك ارضنا الطيبة)ص26، ولا يمنعه ذلك من رسم صورته (رسمت غيمة حبلى بالمطر يا وليدي)ص27 وعندما يغلبه اليأس يعلو صوته بالدعاء 0ربنا هب لنا خبزنا اليومي والموت الجميل,, هب لنا مزنة سخية تعكر صفو ارضنا العطشى)ص27.
ويصور الطبيعية الهائجة المتحركة (السماء في أبشع صورها,, لا طير يؤنسها، ولا اطلالة شمس تبدو على خجل من بين الغيوم الداكنة ولا بصيص قمر يتحدى جنون الريح)ص57.
واما الرياح فهي (سياط قاسية تعاقب كل الاشياء على آثامها، والاشجار مخلوقات صابرة ما ملت الانتظار وابو هلال واجم كئيب تزهر في رأسه الكوابيس)ص26.
* اللغة الرشيقة:
فصيحة محببةمعبرة (يلتف بعضهم حول احمد المنسي يشاكسونه، ويرجمونه بالكلمات المبهمة، تسكنه نوبة من الحزن، فيجلس على الارض، يحفن بعض التراب,, يشمه بهيام، أهو أشهى من الموت؟,, لأتذوقه إذن) ص35.
وممزوجة بالحكمة (من يحب الناس يحب الفرح) ص 39 او بالتجربة (امسح دموعك يا ولدي,, فلا تدع الحزن يلوث صفاء عينيك) ص41, وقد تمازجها ألفاظ دارجة واهازيج شعبية مؤثرة (غير مسيرة الماي,, وانت برجا هواك) ص94.
ويزينها الفاظ شاعرية (تبحرين وقلبي شراعا يصير وروحي بساطا من الموج,, فلا تبحري,, قفي,, وامنحيني المنام الرقيق، اضمك بحرا وأغفو فبين المراكب والبحر حب نبيل)ص83 وعبارات شفاقة موحية احاورها بهمس المحبين,, اقرأها اشعارا,, تقترب مني بتوسل حنون) ص59.
وجمله قصيرة تارة تمثل في مجموعها احداثا متلاحقة متطورة للوحة متكاملة (حتى النسيم الخجول يحنث الوعد,, يأكل وجه الصيف,, يمحو التباشير السخية,, يرسم في السماء دوائر بيضاء عالية كالشفاه التي مزقها العطش,, ) ص33 وتكون جمله طويلة حين يكون الوصف لا سيما في وصفه تحلق القوم في وليمةابي عبدالله في قصة (الوليمة).
* الزمان والمكان:
يتعامل القاص مع الزمان والمكان تعاملا حيا الزمان والانسان قطبا المعادلة كما اسلفنا والتي يمثل فيها الزمن دور الغالب في اكثر الامور والانسان الذي يبدو لعبة هذا الزمن يقهره ويحقق فوزا عليه لكن هذا الانسان يتلذذ بمقارعته ويحقق من خلال ذلك نجاحات تشكل بؤر الامل المنشود لهذا الانسان الصلب امام تقلبات الزمن وغدره.
واما المكان فهو واسع يمتد من مدينة القاص (دير الزور) بشوارعها وبيوتها وسهولها وهضابها وفراتها بخصبه وجدبه بفيضانه وقحطه الى البحر والسماء وديار الغربة ومن المكان المرئي الى عمق النفس الانسانية باحاسيسها ومشاعرها واحلامها وآمالها وكلها اماكن تلف حياة القاص منذ الطفولة حتى الاعتراب وفي تعامله مع الاخرين وفي خلوته وتأملاته مع نفسه.
شخوص القصص:
شخوص قصصه قلائل عرفوا بصفاتهم وبأسمائهم اغدق عليهم القاص فكساهم صفات خلقية وخلقية وزاوج في وصفهم الخارجي والداخلي.
خلت قصته (الراقصون) من الاسماء وجاءت في حكم المطلق وجاء ابو هلال وحفيداه سالم وسعد قصته (موسيقى لأنشودة المطر) واحمد المنسي في قصته (الريح تهب من المقبرة) ونبيل وام الخير والاب في قصة (النار في جسد السنابل) وشادي والاب واطفال الحجارة في قصة (رسوم غامضة للزمن المفاجىء) والشخوص الذين عرفوا بأرقامهم (الرابع والخامس والسادس والسابع) في قصة (فرح الاعشاب,, جراح المدينة) والاب وبشرى في قصة (نداء الساعة الخامسة) وفارس وعبدالله وخالد في قصة (الوليمة) وهيفاء وماجد في قصة (صور من الصحو والحلم) وعهد وفادي والام في قصة (ويأتي يوم آخر) وكان القاص بروحه ومشاعره متماهيا في راويه العارف بأسلوب السرد المباشر بضمير المتكلم (انا) وغير المباشر بضمير الغائب (هو) الشخصية المحورية التي تجتذب إليها شخوص القصص، تتحاور معها، تؤثر فيها وتتأثر بها ومن خلال محاوراتهم تتطور الاحداث حتى لتبدو قصص المجموعة وكأنها (بانورامية) للقاص ومدينته وذويه وشعبه.
علامات مميزة للمجموعة وتبدو في:
عناوين القصص:
وهذه ميزة اولى تميز قصص المجموعة من غيرها من القصص يخيل لقارئها أنها عناوين مثيرة شاعرية مجردة، في صيغتها ومضمونها وسرعان ما يخرج بنتيجة مهمة بعد قراءتها وهي انها عشر لوحات متكاملة تمثل حياة القاص في حله وترحاله واقامته في مدينته وغربته عنها في مشاعره واحلامه ورؤاه وقد عبرت هذه العناوين الشاعرية عن مضمون القصص.
* الشكل:
الى جانب تصدير كل قصة بلوحة فنية تكاملت مع العنوان والمضمون اعتمد القاص في بناء قصصه نمطين معلمين: تمثل الاول في السرد المألوف راو عارف بكل الامور يروي ما يعرف وما يشاهد بضمير الغائب او المتكلم وقد يمزج السرد بالحوار على سبيل توثيق الحدث وتمثل هذا الاتجاه قصصه كلها ما عدا قصة (صور من الصحو والحلم) التي جاءت في ستة مقاطع، وقصة (النار في جسد السنابل) وجاءت في اربعة مقاطع اما قصته (صور من الصحو والحلم) فقد جاءت في اسلوب الرسائل المختصرة شكلت الرسائل والمتن البنية القصصية لهذه القصة كما جاءت قصة (النار في جسد النسابل) في ثلاث قصص متداخلة شكلت في مجموعها البناء القصصي لها.
وتفاوتت قصص المجموعة في طولها فكانت قصة (فرح الاعشاب - جراح المدينة) اطولها وجاءت في اثنتي عشرة صفحة تلتها قصة (الراقصون) وجاءت في عشر صفحات وجاءت كل من قصة (النار في جسد السنابل) ورسوم غامضة للزمن المفاجىء) في ثماني صفحات وجاءت كل قصة من قصص المجموعة الاخرى في سبع صفحات.
وان كان من كلمة اخيرة تقال في توصيف هذه المجموعة فهي مجموعة متكاملة من حيث الشكل والمضمون حفز غلاف المجموعة وعنوانها القارىء لدخول عالمها ومهدت اللوحات - الرسومات التي تصدرت كل قصة لمضمون قصصها ونقلت قصصها افكار القاص ومشاعره واحساسيسه ورؤاه وهو وان تماهى في شخصية الراوي فقد كانت روحه تشير اليه في كل لفظة وجملة وحدث.
هنيئا لهذا القاص المبدع والى مزيد من العطاء والنجاح.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved