Saturday 27th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,السبت 10 ذو الحجة


صوت القمر

* لأجل ذلك الطيف تحول انينها الى عويل,.
لاجل الليل الذي يتسلل بالأرق,,وحفنة من الهواجس ,, والعذاب، عذاب يشعل الشوق في حناياها,, عذاب يدثر قواها الخائرة ، فتنطوي على ذاتها كطفلة اذابها الاعياء,, كطفلة ينهكها الحزن والملل، فتتقلب على فراشها بتذمر وتستدير صوب الجدار باحثة عن ركن أكثر صمتا، لكن الصمت يمزقه مواء القطط المنبعث من الازقة الغافية,, يبدده أبواق بعيدة لعربات هائمة على وجه الليل,, ومن قلب الشرفة المشرعة تهب نسمات ساحته مقتحمة الحجرة الحالكة بفيض من الاختناق في حين أخذت هي تكور ساعدها تحت رأسها وتبكي بلا انقطاع، وعندما حاولت ان تدفن رأسها في صدر الوسادة كي تكتم نحيبها، انسدلت خصلات من شعرها الغجري تغطي كتفها المنتفض, فبدا الجسد الهزيل بين ثنايا العتمة وكأنه رعشة اخيرة للموت.
هكذا يمر بها الليل رتيباً بلا معنى,, كئيبا بلا فرح، وفيما اعماقها تتفجر بالويل، كانت تضع كفا على ثغرها حتى لا يتملص جرحها بالصراخ، غير ان صراخاً اخر هب من قاع الطريق الساكن,, صراخاً,, واصواتاً مبهمة,, وجلبة عشوائية، كأنه عراك لأجساد ومصائر تتدحرج في آماد الحيرة كأنه نذير الشؤم الذي يظلل حياتها، لذلك رفعت رأسها المثقل بالهموم متجهة بوجهها الذاهل نحو النافذة,, مستندة برؤى واهية على أهداب مقرحة كانت تصوبها فوق سور الشرفة وتتابع بها تطورات الحدث الذي نهض ضجيجه فجأة، سأل رجل اجش النبرات يعنف احدهم:
- ما الذي تفعله ايها الاحمق,, اين تحديك لمجابهة الدنيا!؟
اجابه صوت تعصره رجفة اليأس.
- لقد هزمتني الدنيا يا هذا,, لقد دمرتني.
اجل يا أنوار,, هزمتك وهزمته الدنيا,, تراتيل العشق قد صمتت في بقاعك، كانت ايادي الغدر تلجمها كي لا تصدح بالاحلام، اجل,, دمرتك الدنيا، وهذا المستلقي على الارصفة ببقايا شجنه,, هذا المبعثر في جوف الدمار، ليس الا كائنا من زمرتك التعيسة,, زمرة الذين خاضوا التجارب بلاحصاد,, زهرة المتسكعين على هامش الدنيا اولئك هم يجوبون القوارع المجهولة ,, اولئك هم المهزومون حيث وحيدة تتعثر خطاهم,, وسقيمة تمضي قواهم، فقط,, شواطىء مهجورة ما تبتلع اطيافهم,, شواطىء وأمواج تلطمهم، فتنحت على جباههم الكسيرة بغضون الحسرة ألماً وندماً,, ندماً يقزم قامتك ويأكلها,, فبان الجسد الهزيل بين ثنايا العتمة وكأنه رعشة أخيرة للموت,, قال لها يوما ذاك الذي يتنفس الحلم في صوته:
ظروفي وغربتي، اريدك زوجة، لكني لن اكون كما تهوين.
اجابته ترمي بخفقاتها الجامحة على انتباهته:
معك ايها السندباد، سأصنع من الارض التي تطؤها أقدامك,, موطني .
تأملها في ذلك المساء مطولاً,, ثم همس باندهاش الذي يقرعه العشق لاول مرة:
طفلة عنيدة, وسندريلا ساحرة,, هذه هي انت يا أنوار .
ثم اردف يلون اسماعها بعبارات الامل القادم
ولكنك تبقين حلمي الذي افتش عنه منذ ازمان,, ياذات القامة الفارعة .
ها هي قامتها في ثنايا العتمة تبدو كشبح انهكه التجوال ,, وها هو طيف، احمد ينهمر على ذاكرتها بسطوة لم تستشعرها من قبل، فتلملم عزيمتها الواهنة وتخطو بها نحو المرآة,, حيث تقف لحظات تحدق في توهج الدموع على خديها فيظهر وجهها خاليا من النضارة والاشراق يبدو كمحيا نهشته الذكرى بمخالب الذهول,, فاصطبغ بأصباغ باهتة هي ليست صبغة الدماء، تنظر الى قدها المنكمش,, المترنح على حافة السقوط,, تنظر الى يديها الذابلتين,, ثم تغرق في نشيج آخر,, بينما الجسد الهزيل بات بين ثنايا العتمة وكأنه رعشة اخيرة للموت,.
قبل شهور فقط كان يحدثها عن الحلم الآتي,, ويلون تفاصيله بحديثه الطفولي,, همس اليها:
عندما نتزوج يا أنوار,, سأسمي طفلتنا باسمك .
صرخت به وهي تلكز رجولته بعبارة مرحة:
أيها المجنون,, هل تريدني ان نحمل انا وابنتي ذات الاسم
قال لها بدهاء العاشق الذي لا يملك قراراً:
اجل,, حتى يكون لك مكانين في قلبي .
وضحكتما يا أنوار، وتألق العالم ببريق فرحكما,, ضحكتما وانتظرتما ، لكن الغريب لم يتبدل ,, لم يحاول السندباد ان يردم فجوة الغربة التي تفصلكما,, لم يقو على جمع شتات امره,, لم يقدر على تحقيق الحلم، فزاد بعده,, وكثر جفاؤه، لم تعودي ترينه الا في الجوار، خطواته دائما بعيدة عن اعتابك , وقريبة من القوم الذين ينتمي اليهم,, من المرأة التي حاكت الدسائس بينك وبينه,, دسائس الكذب والنفاق,, دسائس المكر والقطيعة,, فكانت الكارثة,, رأيتها يا أنوار وهي ترسم ملامح الشماتة على شفتيها الحاقدتين ,, رأيت فاطمة وهي تطعنك بيده، ثم تتوارى مثل ابليس وراء قسمات البراءة، رايتها وهي تتلوى مثل الافعى امامك لتقتلك وعندما كنت تسقطين,, وحين داهتمك سكرات الموت,, صرخت تستغيثين بالسندباد,, رجل بلا كبرياء آنذاك,, رمقك ومضى,, رجل كالقمر الذي يتوشح الظلام الآن ويتوهج ، كان صوته مجردا من الرجولة وهو يقول ببرود.
الافضل لنا,, ان نبتعد يا أنوار .
تحدج القمر وتفر بأحاسيسها الهائجة الى استدارته الناصعة,, تناجيه بلوعة المكلومين,, تناجيه وهي تبكي كجسد في ظلمة القبور يعانق اضواء الحياة، لكن القمر يتحدث ,, هل تصدق ذلك! اجل ,, انه يتفوه بعبارات منعشة,, فتنصت الى صوته العميق يقول من الفضاء.
انت نجمة يا انوار والنجوم لا ينطفئ تألقها لمرور سحابة شحيحة في الآماد.
في تلك الليلة نامت بعمق ، ورأت في منامها آفاقاً ونجوماً واقماراً,, فبدا الجسد الهزيل بين ثنايا العتمة وكأنه رعشة جديدة للحياة.
سحر الناجي

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved