كل كتاب لا يستحق ان تقرأه مرتين هو كتاب لا يستحق ان تقرأه مرة واحدة,, مقولة اطلقها (تولستوي) صاحب الحرب والسلام وغيرها من الروائع التي بهرت العالم,, واحسب ان هذا الاديب العالمي كان يعني ما يقول جيدا فما اكثر ما قرأنا من كتب كان الملل منها يحفزنا على عدم استكمالها وما اندر الكتب التي أرغمتنا- بما حوت - على اعادة القراءة,, مرات ومرات.
* حدث هذا لكل منا واخر ما تعرضت له في هذا الصدد,, تلك الرواية الاسرة (المراهقون) الفائزة بجائزة احسان عبدالقدوس ,, للاديب جمعة محمد جمعة والصادرة عن مكتب النيل للطبع والنشربالقاهرة عام 1998م.
* طالعت هذه الرواية لا للكتابة عنها وانما للوقوف على آخر ما ابدع هذا الصديق وهل يستحق ابداعه وهو المغمور مثلي - كل هذه الجوائز التي يسيل من اجلها لعاب الكبار؟,, لقد هالني ما رأيت حقا,, فمنذ الصفحات الاولى,, اجد نفسي في طريق كثرت تعاريجه وتعددت منحنياته واصبح السير فيه غير مأمون,, ذلك ان العمد التي اقيم عليها صرح الرواية تختلف كثيرا عما الفت من الروايات حتى عند كبار الأدباء وان الاحداث لكثرتها والوجوه لتنوعها تحتاج الى اليقظة والحذر حتى لا تختلط علينا الامور,.
* ولقد جرت العادة ان تحكي القصة او الرواية حكاية عائلة ما او تصور حدثا نشأ عن موقف محدد ثم تطور الى نهاية معينة,, لكننا في هذه الرواية ما نكاد نبدأ الصفحات حتى نكتشف ان الطريق الذي سلكناه ليس سهلا ولا ميسورا وان هذه الرواية ما هي الا روايات تشابكت خيوطها وتداخل نسيجها لعائلات من قاع المجتمع، جمعت بينها الحارات الضيقة والمزدحمة بصنوف من البشر يختلفون ثقافة وميولا وعادات وان كانوا يتفقون طموحا وغايات في ذلك الحي الشعبي حيث يعيش الكاتب ويعايش ابطاله معايشة كاملة ومن ثم يجسد آمالهم ويصور طموحاتهم,, ولعل هذا كان وراء اختيار هذه الشريحة من المجتمع واختيار اللغة الجديدة التي حاول الكاتب ان يعبر بها عن ابطاله كما حاول - بها - ان يقترب من القارىء وييسر له سبل الاستيعاب.
* ليس من الضروري كما يقول (موباسان) ان يتخيل الكاتب مواقف او شخصيات غريبة ليخلق قصة ما,, بل على العكس يكفيه ان يصور افرادا عاديين في مواقف عادية كي يفسر لنا الحياة تفسيرا سليما,, ويبرز ما فيها من معان خبيئة.
* واحسب ان هذا بعينه هو ما حمل كاتبنا على تصوير الحارة بما يمور فيها من احداث بواقعية,, لا احسب ان للخيال ولا للحرفة دوراً فيها سوى الربط بين الاجزاء.
* في الصباح,, ومن البداية,, يقطع بائع اللبن الشارع، يتململ عزوز في رقدته على الطوار والمعلم شفيق يدب بقبقابه الضخم لينال قسطه من اللبن قبل ان يرفع باب مقهاه بينما أم عبدالله تلقي عليه تحية الصباح بعد اراقة الدلو المملوء بالماء والصابون وصوت الحمَّار الواقف بعربته الكارو امام بيت ام عزوز يرتفع: صباح - بت يا صباح.
* كل ذلك في الصفحة السابعة فقط لتتوالى الفرشة في الرواية - بعد ذلك - مع حزم الفجل والكرات والبقدونس والكزبرة والشبت,, وهنا ينهض عزوز شاحب الوجه، ينادي على مقصوفة الرقبة,, زينب,, بينما ام سماح تشمر عن اكمامها وترص حزم الخضر فوق اقفاص الجريد المقلوبة على الطوار وهنا يخرج المعلم بدر من الباب الموارب ليدلف الى المقهى بينما صوته القوي ينادي على ابنته نجاة,.
* وتبدأ طريحة العمل اليومية,, الام تأتي بالماء والصابون، نجاة تخرج الحصان من البيت اختها نجوى ترفع باب الدكان الملاصق لباب البيت وتشد الكارت الانيقة الفاخرة.
وفي جانب آخر,, عزوز يسرج الحمار في عربة الزهور وزينب ترش الماء عليها والحمار يرفع حوافره ويدق الارض بها لينفض عن جسده الذباب الذي يعف ويلدغ.
* يدلف الى المقهى الاستاذ حسني الموظف بالمنطقة التعليمية وعضو هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي والمعلم عيد الجزار زوج سعاد اخت ام عبدالله يرفل في جلبابه الابيض وحذائه الاسود.
* بصوته الجهوري يسأل المعلم بدر عديله المعلم عيد عن احواله.
يتنهد المعلم عيد وهو يرد: حياتي مع سعاد تقصر العمر.
* تخرج سماح متألقة في جلبابها الاصفر المشجر بورود خضراء املا في نظرة محبة من الاستاذ كامل الذي يخرج الى عمله من البيت المقابل لبيتها دون اكتراث بها.
* هذا بالاضافة الى شخصيات اخرى مثل: علي كشك وسعيد وبطة واحمد كشري وعزيزة وامها الضريرة,, وسماح الطاهرة النقية التي هبطت الى الحارة وكأنما هي آتية من ارض لم تعرف الخطيئة بالاضافة الى منصورة عزت المشلولة الحاصلة على دبلوم الفنون الطرزية والتي ارسلت الى هذه الحارة لتأخذ بيد بناتها ثم لتنقل هذا الحشد من زمن فيها الى مصاف الاحياء الراقية,, خارجها.
* وهكذا تتعدد الشخصيات في الرواية وتتناثر الاحداث تبعا لذلك مما يجعل كل شخصية من الشخصيات تصنع رواية مستقلة داخل الرواية الام.
* فمثلا سعاد امبراطورة الحارة التي لا تتورع عن عمل قبيح ولا تستحي من فعل مرذول,, يتضح ذلك من تصرفاتها الشائنة على طول الخط,, والتي تتناقض مع الاخلاق والقيم والعادات الحميدة المألوفة - سعاد هذه,, وابنتها بطة وزوجها المعلم عيد,, رواية وحدهم,, ثم بعد ذلك تتلاحم روايتها مع غيرها وتتداخل وتتشابك لتكون في النهاية الرواية الاساسية وهنا يبرز سؤال هام!!
ألهذا أرهق الاديب نفسه وبدد جهده واستنفد طاقته في اعداد هذا المسرح,, ليعرض عليه المغيبون بعض ما اقترفوا من آثام في هذه الحارة الموبوءة؟
* نحن نعلم ان الحدث ينشأ في كثير من الاحيان من موقف معين,, ومع ذلك يظل الحدث ناقصا,, اذ ان تطوره من نقطة الى نقطة,, انما يفسر لنا كيف وقع الحدث,, ولكي يستكمل الحدث وحدته، يجب ان يجيب عن الاسئلة الاربعة المعروفة,, وهي: كيف وقع الحدث,, واين,, ومتى ثم,, لماذا وقع هذا الحدث؟
* من هنا ندرك ان الرواية ما كانت - في الاصل - الا لتصور ما عشناه من حرب خاسرة كانت السبب الرئيسي في الاحداث التي تلاحقت على صفحاتها والتي كانت السبب الرئيسي في الاحداث التي تلاحقت على صفحاتها والتي كانت السبب المباشر في اندحار القيم، واندثار الفضيلة مما جعل الخروج عن المألوف مألوفاً، والشاذ في المواقف قاعدة من قواعد الحياة مما اكدته تصرفات كامل مع عزيزة وسعيد مع بطة ورجل الاعمال مع النقية الطاهرة سماح.
* ان المؤلف بما قدم في هذه الرواية,, انما يؤكد ان الادب رسالة قبل ان يكون وسيلة استمتاع وان الاديب الحق مطالب بمعايشة تجاربه قبل ان يسجلها على الورق,, هذا اذا كان من المهمومين بقضايا البشر.
ان مهارة المؤلف في تقطيع المشاهد ثم عرضها متلاحمة بطريقة ال(فلاش باك) قد اتاح لنفسه فرصة الرحابة والتقصي في ابراز كل جوانب الشرائح المختارة مما يؤهل الرواية لان تكون عملا سينمائيا او تلفزيونيا - ممتازا.
* واحسب ان ما عرضته في هذه العجالة هو قليل من كثير مما اراد المؤلف توصيله للقارىء بهذه الرواية المعبرة (المراهقون) ومن ثم فان ذكر البعض لا يغني عن الكل مما يؤكد انه لكي تتحقق الفائدة ويصل المضمون المستهدف كاملا,, فلابد من قراءة الرواية قراءة استيعاب وتأمل لا قراءة قتل للوقت ذلك انها تصور حيوات متكاملة,, يعجز العرض الموجز,, والتلخيص المضغوط عن تقديمها.
* عضو اتحاد كتاب مصر