ان القصيدة التشكيلية التي بدأت في الظهور في شعرنا العربي المعاصر مظهر حداثي، وهي في الوقت نفسه ظاهرة قديمة في موروثنا الادبي تبلورت بمقدمات مهيأة لها منذ القرن السادس والسابع الهجريين.
الكتاب محل العرض القصيدة التشكيلية في الشعر العربي للدكتور محمد نجيب التلاوي استاذ ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة المنيا وقد صدر نهاية عام 1998م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ويقع في نحو 420 صفحة من قطع فوق المتوسط وهو عبارة عن دراسة يتعدد مسعاها في استقصاء ظاهرة القصيدة التشكيلية في الشعر العربي قديما وحديثا فهي - من جانب - تحاول ان تطرق ظاهرة شعرية مهمشة في الدرس النقدي العربي الحديث، وتعيد - من جانب ثان - الاعتبار الى تحليل شكل القصيدة (لا سيما التشكيلية) الذي ظل محض عرض بنائي لدى جل النقاد العرب المعارضين, ومن جانب ثالث، تقدم الدراسة مراجعة نقدية لكثير من الاحكام الطائرة، واكثر نتائجها بروزا، تبعات الحكم التاريخي على مرحلة ما بعد العصر العباسي، والتي وسمت ب عصر الانحطاط مما ادى الى تجني البحث النقدي على نتاجاتها الادبية، دون الاقتراب من نصوصها، واعتصار نماذجها، واختبار قيمتها الابداعية في سياقها الزمكاني وتعاطي التحليل مع بواعثها ومعطياتها وملابستها التاريخية.
واكتناه علاقاتها بالعمق الحضاري الذي استنبتها، وبعمق الذائقة الثقافية الاجتماعية الشعبية التي استقبلتها، واسهمت في انتاجها,, الخ.
وقد تصدر الدراسة مدخل بحثي او مقدمة يعرف فيها الدكتور التلاوي كيف ان الادب يجدد نفسه ويتكرر فغالبا ما تكون التيارات والاتجاهات الفنية عامة، والادبية بصفة خاصة بلورة لمناخ العصر، واذا حدث احياء لمذهب قديم ، فربما يكون مناخ عصره قد عاد الى الحياة وفرض نفسه باسلوب جديد.
وقد عبر ويليك عن هذا المعنى عندما قال : لابد للادب ان يجدد نفسه على الدوام بالعودة الى البربرية ولذلك فقصائد بوشكين الغنائية مستمدة من اشعار قديمة، وقصائد بلوك افادت من اغاني الغجر وقصائد ماياكوفسلي اخذت من الكتب الهزلية، وروايات دسنوفسكي سلسلة من روايات الجريمة المبكرة، واتصور ان فكرة توظيف الاسطورة والتراث تمثل عودة نوعية، وحنينا الى جذور تحقق احد اطراف المعادل الموضوعي، والامثلة اكبر من ان تحصى بعد إليوت، ويقول ويليك بان كل عصر يماثل الاخر,, وكل عصر يحمل مفهوما زائفا عن التفرد والاصالة يتجاهل الدوائر الحضارية المغلقة التي تتطور ضمن ضرورة قدرية فهي منغلقة على ذاتها ولو انها تتوازى بشكل غامض.
ولقد ارجع بعض العلماء هذه الفكرة الى ما يسمى ب التكرار الدوري وكان فيثاغورث من اوائل المتنبهين لتكرار الظواهر الفنية ، ثم جاء ونكلمان فطبق هذه الفكرة الدورية على الفن عندما ابرز العلاقة بين اليونانيين قبل الكلاسيكيين المعاصرين، بين كلاسيكية فيدياس وكلاسيكية مطلع القرن السادس عشر، بين مفهوم النغمة في القرن الرابع، ومفهومها في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، واخيرا بين الفن الهليني القديم والفن الحديث.
وبقدر ما تشغلنا القصيدة التشكيلية الآن في ابداعاتنا الشعرية المعاصرة بقدر ما حرمت هذه الظاهرة من حقها الطبيعي في البحث والتحليل قديما وحديثا وهو امر يثير العديد من التساؤلات التي تترادف في الاستفهام السببي: لماذا؟
ويجيب المؤلف عن هذا التساؤل بقوله انه يعتقد ان عدم العناية بدارسة هذه الظاهرة يعود الى ثلاثة اسباب هي:
أولا: ان عناية الدارسين قديما وحديثا قد انصبت على دراسة مضمون القصيدة اولا ثم موسيقى القصيدة آخرا، ولم يجد الشكل عناية مستحقة ومن التفت اليه - وهم ندرة - نظر اليه كتابع للتغيير الموسيقى، وقد ساعد ثبات الشكل التقليدي للقصيدة العربية على الانصراف عن الدراسة والتأريخ لتغيره وتشكله، ودوافع ذلك، وهو ما تحاوله هذه الدراسة في واحدة من طموحاتها.
ثانيا: كان مركب النقص الحضاري سببا مهما، حيث تعودنا الا تنكشف قدراتنا الا من خلال غيرنا، وقد عبر ادونيس عن هذا المعنى بقوله: انني لم اتعرف على الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقافي العربي السائد، فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شاعريته وحداثته، وقراءة ما لارميه هي التي اوضحت لي اسرار اللغة الشعرية، وابعادها الحديثة عند ابي تمام، وقراءة وبريتون هي التي قادتني الى اكتشاف التجربة الصوفية، وقراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني.
ثالثا: وجاء تعميم الاحكام التأريخية والنقدية كأحد ابرز الاسباب لاسيما ان الخطورة اصبحت مركبة عندما بنى الكثيرون على تلك الاحكام العامة والتي اكتسبت بالترديد ثباتا ومصداقية على غير اساس واعني تلك الاحكام التي وصفت فترة ما بعد السقوط العباسي بفترة الانحطاط، واصبح الانحطاط عنوانا لفترة طويلة تمتد زمنيا ومكانيا، هذا الامتداد لم يشفع لها، واختصرت الاحكام العامة المسافات الزمنية والمكانية بوصفهم (عصر الانحطاط) وهو وصف اشاع الظلم لمنتوج تلك الفترة ويذكرنا ذلك بما روي عن ابي الفتح البستي الذي شغف بالتجنيس في القرن الرابع الهجري، وقالوا - وقتها - انها الطريقة الانيقة ، والتجنيس الانيس، واستظرفوها، ولم ينكروا عليه ما ننكره نحن على اهل هذه الطريقة المتأخرين، لان معدة اللغة يومئذ كانت تسيغ ذلك في حماية التطور الحضاري، اما عند المتأخرين بعد السقوط العباسي فاننا نجهض حتى محاولات التنظير البديعي تحت مسمى الابتداع والتخلف والصنعة، حتى ان بعض النقاد حاكم (البديعيات) محاكمة الشعر، واسقطوا ما استطاعوا من: التخلف والصنعة والجفاف، وتناسوها انها محاولات نظيمة نظرت لانواع البديع تنظيرا مشفوعا بالتمثيل، واتخذت المدائح النبوية وسيلة.
والغريب في الامر اننا نطلق هذه الاحكام، وما زالت اكثر اشعار عصر المماليك والفاطميين مخطوطة! واذا اضفنا لهذا ان مكتبة الفاطميين قد حرقت، فكيف نقدر قيمة الكم الشعري وغير الشعري الذي ضاع.
شكل القصيدة العربية
(من الإنشاء إلى التحرير):
يؤسس الشاعر وظيفته الشعرية على اساس تشكيل الرسالة اللغوية، معتمدا على وحدة الاختيار، وزاوية الرؤية الفنية، وذلك بتوزيع محور التعامل مع اللفظ على نحو وثيق الصلة بين حدث الكتابة، وفعل التلقي، الامر الذي يبرز لنا حجم التلقي واثره في توجيه العملية الابداعية، لان القارىء طرف فاعل في معادلة الابداع الشعري (نص - مرجع - متلقي) ومن ثم ففعل القراءة او السماع (تلقي) حاضر في زمنية الابداع، قابع في تجاويف الشاعر، وكثيرا ما توجه صورة المتلقي الشاعر توجيها ابداعيا يتناسب مع حجم المتلقي، لكي يتمكن من توصيل رسالته الشعرية واحدث التأثير المقصود، ولاسيما مع الشعراء القدامى.
والشاعر العربي القديم كان يخلق نصه الشعري من رحم الحياة في ابسط ممارساتها، وكانت الخصيصة الشفوية الابداعية للقصيدة الجاهلية تتوافق مع قدرات المتلقي حيث تماثلت البنى الشعرية مع البنى الذهنية لفئات المجتمع الجاهلي، وكانت اللغة الفصحى بالفطرة، ومن ثم تناسل النص الشعري في البيئة الجاهلية، وشاع لان المتلقي العربي - آنذاك - وجد فيه مفردات حياته وقضاياه، فحقق له النص الشعري لذة وانفعالا زادهما الالقاء الشفوي بل والتمثيلي، واصبح النص الشعري فضاء منشودا - بفل التلقي الشفوي - بين المخيلة وفعل التذكر الطللي.
وشيوع الاداء الشفوي تناسب مع الذهنية العربية في وسط الجزيرة بخاصة حتى ان لغة الاعراب التي تمددت بعد الاسلام لم تعتن بالدور الحاسم للتحرير، قال حسان بن ثابت
تغن في كل شعر أنت قائله ان الغناء لهذا الشعر مضمار |
ومن ثم كثرت اللزمات التعبيرية بفعل الانشاد والتلقي الشفوي مثل (ياصاحبي/ قفا نبك,) ومثل هذه اللزمات تكررت في الملاحم التي استهلت بالغناء ايضا ففي (جلجامش): (,, فغنى يذكره يا بلادي).
وكذلك في الالياذة وفي الادويسا وهذا ليس مصادفة وانما فرض بسبب الانشاد الشفوي، وكان الاداء البليغ Actio ضرورة متعلقة بمسرح التعبير الشعري الشفوي، وكأننا ازاء كتابة بصوت عال تعتمد في تأثيرها بالقاء المحمول الشعري على القدرات الصوتية والنبر، واصبحت القافية ضرورة لا تقل عن انتظام عدد التفعيلات.
والشاعر العربي منذ الجاهلية قد ادرك ان الصورة جزء من اللعبة الشعرية، غير ان الالزام الشفوي التطريبي قد حجم تلك الصور، ولكنها عادت بكثرة وببعد تجريدي في العصر العباسي, وفي العصر العباسي، وجد الرسم مكانة ومكانته، ويذهب محمد صدقي في كتابه الفن والقومية العربية لأبعد من هذا؛ لانه يرى ان التجسيم والتصوير لم ينقطع عبر العصور الاسلامية لاسيما في بلاد فارس والهند والترك، وان التصوير بمخطوطاته موجود منذ القرن الثاني للهجرة، ويتحدث عن المصورين الذين زخرفوا قصر تغريد زوجة المعز لدين الله 366ه بانواع من الصور التجسيدية، وكان لمثل هذه الزخارف اثرها على الشعراء فيما بعد.
واذا كانت المرحلة الأولى هي الرسم بالكلمات، والتي بلغت اوجها عند العباسيين كقول المتنبي.
أتوك يجرون الحديد كأنما سروا بجياد ما لهن قوائم |
فان المرحلة الثانية، كانت كتابة قصيدة بتأثير لوحة مرسومة، وتلك المحاولة التي سماها حديثا عبدالغفار مكاوي ب (قصيدة الصورة) وسماها ابو شادي (الشعر التصويري) وكان من ابرز المساهمين فيه ببعض اشعاره.
والعرب قديما كان لهم السبق في هذا المجال الذي اصبح غرضا شعريا بارزا في اوروبا في عصرنا الحديث، ويأتي ابو نواس في سينيته، ليصور لنا اطلال الاكاسرة في المدائن.
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس |
أما في الشعر العربي الحديث فقد استأثر درس المضمون الشعري بأكثر الجهود النقدية قديماً وحديثاً، وقد ساعد الثبات الشكلي لتحرير القصيدة العربية على استئثار المضمون بجهود النقاد القدامى، لاسيما وان الفلسفة الجمالية اكتفت بحدود معطيات الفطرة القائمة على تذوق التماثل التنائي للانسان/ (عينان/ يدان/ ذراعان/ قدمان,,,) فكان البيت الشعري (شطران) ثماثلا في الطول والايقاع وعدد التفعيلات ، وتركا بينهما مساحة (بيضاء) تكفي لراحة النفس، ولاظهار التماثل والتكرر الايقاعي للتفعيلات، الامر الذي اعلى الصوت الموسيقي في البيت الشعري التقليدي.
حقا قد كان العربي قديما يشكل نفسه من خلال الطبيعة، فاستجاب لمزاج فطري مكنه من قرض الشعر دونما معرفة مسبقة بالتقنين العروضي، ثم عاد ليشكل الطبيعة من خلال نفسه عندما جسدها محسوسة في ألفاظه الشعرية.
اذن كان ثبات التشكيل الخارجي مع التقسيم التقليدي الجاهلي للمطولة قد صرف النقاد عن الشكل والتشكيل ليصبوا جهودهم على المعنى والمضمون، فاذا بنا امام النقاد اللغويين والبلاغيين وجهودهم المكثفة على المضمون، ومنهم من ينظر للشكل على انه مجرد وعاء حتى الآن، وهذا عبدالواحد لؤلؤة وهو يتحدث عن شعر الحداثة مازال يردد هذا المعنى (,, وسيبقي الشكل مسألة وسيلة او وعاء للصورة الشعرية والفكرية).
وحديثا لم يكن المضمون اقل حظا، فقد وجدت مسارب جديدة دفعت النقاد الى العناية بالمضمون على حساب الشكل او التشكيل، ومن اهم هذه المسارب انتشار النقد الايديولوجي الموجه، ومن ثم كثرت الدراسات الوصفية ، وقام بعضها بمهمة الاسقاط على النصوص الشعرية، وتحول الواقع الشعري الى تدليل سيىء، لان الناقد كان يفرض على النص معياراً للقيمة غريبا عليه غالبا.
ولما تجاوز اللغويون حدود الجملة وقع الاسلوبيون في شرك العمليات الاحصائية والتي تركزت بشكل مكثف حول المضمون والصياغة ايضا ، وفي كل نلاحظ تمهيش الشكل والتشكيل في العملية النقدية، حتى ان رفض الغموض والتعتيم الشعري كان لانه قد صعب على بعض النقاد مهمة درس المضمون الشعري من خلال قنوات منطقية وعقلية تعلي من شأن العلة والمعلوم ولما اصبح اللاشعور مصدرا للابداع الشعري بدرجة تزيد عن مرجعية الشعور، ولما استعان الشاعر بمعطيات الفنون الاخرى واستغل امكاناتها لصالح التجربة الشعرية، لاسيما الرسم والموسيقى، كان من الطبيعي ان تتولد للقصيدة الشعرية معمارية جديدة وبمنظور جمالي جديد، قد فرض اهمية التشكيل الشعري بقدر لا يقل عن المضمون الشعري، وتعالت النداءات النقدية المجددة، والرافضة لفكرة تقسيم العمل الشعري الى شكل ومضمون، فكان النص الشعري بكل معطياته هو سبيل النقاد.
وكما رأينا فقد استهل الدكتور محمد التلاوي مساره البحثي بالتوقف عند الظرفية الاولية للظاهرة، ثم يحدد مصادر الظاهرة، ويزمن بداياتها، ويكشف عن ابعاد الرؤية الفلسفية التي خرجت من رحمها، وعن حدود التقائها بالفنون الاخرى التي انعكست في صياغتها التشكيلية، وعن الوسائط المعيارية التي اثرت في عملية التشكيل للقصيدة، ثم تحلل الرؤية الفنية التي دفعت بالقصيدة التشكيلية القديمة الى حيز الوجود الجمالي.
وفي القسم الثاني تعرج القصيدة الدراسة على استقصاء مماثل للقصيدة التشكيلية في الشعر الغربي، والتي ترافقت مع ظهور حركات فلسفية فنية في المجتمعات الغربية، ويمثل هذا الاستقصاء مفتتحا ومهادا لتقدير ابعاد ومعطيات القصيدة التشكيلية العربية المعاصرة، التي تنطبق عليها المعايير التحليلية السابقة نفسها، وان اختلفت المداخل، وحصيلة النتائج، تبعا لظهور القصيدة التشكيلية المترافق مع تطور الشعر العربي، غير انها لم تسهم بدور فاعل في حركة تطور الشعر العربي المعاصر، حيث تواصلت القصيدة التشكيلية بعدد قليل من الشعراء، ابرزهم علي احمد سعيد (أدونيس)، ومحمد بنيس، وفي نهاية الكتاب ملحق فوتوغرافي يضم لوحات تشكيلية تمثل عددا من الفنون والمدارس، وهي تمنح فهما اعمق لكثير مما ورد بهذه الدراسة، التي نعدها اضافة نوعية الى حقل الدراسات الادبية.