المفارقة التي تتكرر في كل الحروب ، وتكشف التناقض الذي تقوم به العديد من الأنظمة الشمولية، فالخطاب السياسي لتلك الدول يتركز في معظم عباراته على السعي الى التنمية والتطور وخدمة الانسان، وبالذات الفقراء، إلا أن الأقوال شيء والأفعال شيء آخر، فالدول التي تحكمها تلك الأنظمة التي تتحدث عن التنمية ليل نهار، ترتكب حماقات تقود البلاد من خلالها الى مغامرات تدمر من خلالها كل ما أنجز في العهود السابقة لتلك الأنظمة فتكون الخسارة مضاعفة، تدمير ما تحقق في السابق، ووقف مسيرة التنمية، وافقار بلادهم وزيادة الحالة البائسة لشعوبهم.
أمامنا الآن حالتان: يوغسلافيا والعراق,
فيوغسلافيا التي استطاع جوزيف تيتو النهوض بها من خلال اتحاد فدرالي بين جمهورياتها المختلفة الأصول والأعراق، وأقام فيها بنية اقتصادية صناعية، فصنع مجتمعا هو الأفضل بين المجتمعات الاشتراكية في أوروبا، وهو وان لم يكن مساويا لجيرانه في ايطاليا وألمانيا الغربية آنذاك، إلا ان تيتو استثمر امكانيات بلاده وطوّرها في ظل تعاونه مع الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يقدم لحلفائه بنفس المستوى الذي كانت تقدمه أمريكا للأوروبيين الذين اختاروا النهج الليبرالي، فمشروع مرشال الأمريكي أعاد بناء أوروبا الغربية في حين كانت أوروبا الشرقية تزاحم روسيا والجمهوريات السوفياتية وتتقاسم معها الامكانيات الاقتصادية التي لم تكن بمستوى التي كان يمتلكها الغرب فضلا عن أنظمة الادارة والاقتصاد والسياسة.
ومع هذا فقد ورث تيتو لخلفائه بلدا أفضل من غيره، وكان من الممكن ان تتطور الحالة للأفضل بعد هبوب رياح الحرية على الشطر الشرقي لأوروبا إلا أن رداءة أصول النظام تقود البلاد أي بلاد تبتلى بنظام شمولي يعتمد نظرية الحزب الواحد الى البلاء,, وهذا ما حصل في يوغسلافيا، فبعد سقوط أهم ركن استند عليه تيتو على توحيد البلاد، وهو مساواة الأعراق والقوميات وان فرض عليهم الولاء للحزب ولزعامته، فجاء الصرب فأرادوا ان يكون الولاء للصرب، عنصرا ومذهبا، وهذا ما فجّر يوغسلافيا فتوزعت الى جمهوريات، وبدلا من ان يتعامل الصرب مع الواقع الجديد كما فعل الروس، أرادوا الابقاء على الاتحاد اليوغسلافي بالقوة، فبالحرب والتطهير العرقي والابادة يحاولون الحصول على أرض وطرد سكانها، هكذا أرادوا ان يفعلوا في البوسنة والهرسك وهاهم يفعلون نفس الشيء في كوسوفو وبعدها في اقليم سنجق، ولن يكون ذلك اليوم بعيدا عن الجبل الأسود رغم حكم صرب آخرين له.
تلك هي طبيعة الأنظمة الشمولية المتسلطة، ولم يقدم حتى الآن دراسة عن المليارات من الدولارات التي أضاعها الصرب عليهم وعلى الشعوب الأخرى التي تورطت في حروبهم,, ولكن حتما لو استثمرت تلك المليارات على تنمية صربيا والجمهوريات الأخرى لربما وصلت الحياة فيها الى مستوى ما سبقها من جيرانها الطليان والألمان خاصة ان يوغسلافيا كانت ولا تزال تمتلك بنى اقتصادية وصناعية متطورة.
والمأساة ان ما فعله ميلوسيفيتش في صربيا والبوسنة وكوسوفو قد دمر تلك البنى الاقتصادية وهو نفس العمل التدميري الذي تسبب فيه حاكم العراق الذي أعاد العراق إلى الوراء عشرات السنين.
جاسر عبدالعزيز الجاسر
مراسلة الكاتب على البريد الإلكتروني
Jaser @ Al-jazirah.com