حدثتكم يوم أمس الأول عن المصيبة التي وقع فيها نسيب صديق سعد التنكة المتلخصة في القاء القبض عليه وهو يفحط, وطلب صديق سعد التنكة من سعد التنكة المساعدة على إخراج المراهق من التوقيف, خصوصا قبل الساعة الثامنة صباحا، وهو موعد إطلاق سراحه النظامي, وطلب سعد التنكة مني المساعدة بصفتي أمون على ضابط في الشرطة, وطبعا لم استطع ان ارفض ان أمد يد العون خاصة عندما علمت ان والدة المراهق وأخت المراهق التي هي زوجة صديق سعد التنكة تنتظران على أحر من الجمر نتائج الواسطات التي تجرى, فبدأت أقود سعد التنكة في سيارته الى بيت ضابط الشرطة, يمين شمال، شمال يمين اخترقنا شوارع وتجاوزنا اشارات ومشينا عكس السير.
وفي وقت قياسي وصلنا إلى بيت صديقي الرائد سليمان ضابط الشرطة.
لقد بلغت الساعة الرابعة إلا ربع فجراً وكل دقيقة لها ثمنها الباهظ, وتركت سعدا يقوم بنقر الباب بحكم خبرته في ايقاظ الموتى من قبورهم القديمة, ليوقظه كما أيقظني, ويمكنكم تخيل صديقي ضابط الشرطة وهو ينحدر من درج بيته, فلا يمكن ان يقرع بابه في هذا الوقت المتأخر إلا حمال المصائب وخصوصا انه ضابط في الشرطة, ولكم ان تتخيلوا أين ذهب خياله وهو ينخرط من الدور الاول إلى الدور الارضي, ثم وهو يجري في الحوش ويصيح طيب طيب جاك جاك, دقيقة الله يرحم أمك وأبوك, وأخيراً فاض ضابط الشرطة مبعثراً مع الباب, وضعت نفسي في مقدمة الركب حتى يراني ويأنس بي, ولم يتسن له ان يسأل حتى بدأت أشرح الموقف برمته, وبعد ان تماسك قليلا قال: ولكن يا جماعة انا كما تعرفون ضابط في الشرطة وليس لي علاقة بالمرور ولكن سعد التنكة عاجله كما عاجلني قائلا: يا أبو مشعل (وهذه كنية صديقي ضابط الشرطة) نبي فزعتك تشوف ضابط في المرور يقدر يطلع الولد ولم يكمل فقد نقل الحديث إلى نسيب المراهق الموقوف: فانبري النسيب قائلا: فيه دورية مرور متبلية الشباب في حارتنا وقد قبضوا على نسيبي واودعوه التوقيف, ثم أكمل القصة معززة بالتفاصيل الكاملة عن زوجته التي تنتظر على احر من الجمر وعن والدتها التي تتقطع من الحزن على ولدها المسكين الذي أودع غياهب السجون, وامام نظراتي المتوسلة واضطراب سعد التنكة الواضح ركض ضابط الشرطة, وبعد دقائق عاد إلينا لابسا كل شيء على عجل, شماغ معفولة وعقال محيوس ونعال بيت, المهم إنقاذ الولد من التوقيف قبل ان تنجن امه وقبل الساعة الثامنة.
ركبنا السيارة أنا وصديقي ضابط الشرطة وسعد التنكة ونسيب المراهق, ولكن دوري القيادي تراجع إلى الصف الثاني فأخذ الرائد سليمان يقود الركب الى منزل صديقه ضابط المرور, اربعة رجال من خيرة ابناء هذا البلد المعطاء في آخر الليل عيونهم منتفخة من قلة النوم تحيطها هالات من الغمص, نبتهل إلى الله ان يوفقنا ويكون ضابط المرور في بيته, وبعد اقل من ساعة دخلنا جنوب الرياض, ومن مطب صناعي إلى طبيعي, ومن جرف الى دحديرا توقفنا أخيراً أمام بيت ضابط المرور, فترجلنا جميعا وقرع ضابط الشرطة الباب بمعاونة سعد التنكة الخبير في ايقاظ الموتى ولا اطيل عليكم دخل ضابط الشرطة في حديث عبر الانترفون مع زوجة ضابط المرور, وبعد دقائق قال ضابط الشرطة ان صديقه ضابط المرور يناوب الليلة في مخفر النسيم, ويمكننا ان نذهب إلى البيت ونتصل به ولكن سعد لا يحبذ أبداً الاجهزة الالكترونية فقال ارجوك يا أبو مشعل خلنا نروح له في النسيم, فالتفت ابو مشعل عليّ وشاهد رجائي اليائس, فقال الشكوى لله, يا الله نروح للنسيم, قفزنا مرة اخرى في السيارة وكان سعد التنكة في غاية اللطف والمجاملة والحرج فقال لي آسف يا أستاذ عبدالله تعبناكم انت والرائد سليمان معنا الليلة, فقلت أبدا يا أخ سعد لا تعب ولا يحزنون إذا ما فزعنا اليوم متى نفزع, فقال صديق سعد نسيب المراهق (حتى الآن لا أعرف اسمه!) كثر الله امثالك يا أخ عبدالله انت والرائد سليمان, فقلت المهم يطلع الولد قبل الساعة الثامنة بمشيئة الله تعالى, امامنا الآن ساعتان بالتمام والكمال يجب استخدامها بكل دقة وفعالية ونحن الآن في الظهرة وسنتجه إلى النسيم، ونعود مرة اخرى إلى الناصرية, يا لها من رحلة عبر المدينة الساكنة، وطرقاتها الخالية إلا من بعض السيارات التي توزع اللبن والجرائد, ودوريات الامن وبعض السيارات العادية المستعجلة ربما كانت في طريقها إلى مستشفى او إلى مخفر كما هي حالنا الآن لانقاذ نسيب لصديق سعد تنكة آخر.
ما أجمل العالم لحظات الشروق, وخصوصا عندما تكون بصحبة رجال من امثال سعد التنكة وصديقه الذين يمنحونك الفرصة لتعبر عن مرجلتك ونخوتك لتستيقظ من نومك وتترك عيالك الساعة الرابعة فجراً لتتوسط في اخراج مراهق مفحط لا تريد امه ان يكمل النصاب القانوني ليطلق سراحه مثله مثل عيال الناس.
بدأنا نقترب من النسيم وبرزت لنا لوحات حراج السيارات تمطرها شمس الفجر بأشعتها الزاهية الصفراء, لم أشاهد النسيم في حياتي دون ضجيج السيارات وتزاحمها وصراخ المحرجين, شكراً سعد التنكة على هذه الفرصة التاريخية التي دفعت بنا إلى حي النسيم لنكتشف جماله وهدوءه الرائعين, وخلال دقائق برزت لوحة مركز المرور مما يعني ان رحلتنا الفجرية دخلت مرحلة حاسمة من مراحلها.
كانت أكبر مشكلة تقلقني ان يكون ضابط المرور لا يعرف ضابط الخفر الأمر الذي يعني ان عليه ان يجد ضابطا يعرف ضابط الخفر مما يوسع سلسلة التوسط الذهبية, وفي لحظة خاطفة طاف بذهني ان كل السعوديين في هذه الحالة عندهم واسطة.
وصلنا ولكن هذه المرة لم نحتج إلى خبرة سعد في قرع الابواب الموقظة للموتى فقد سألنا الجندي المناوب على الباب, وأخيراً إلتقينا ضابط المرور, شرح له ضابط الشرطة القضية, فقال لماذا لا نؤجل اخراجه حتى الصباح, فقلنا معا بصرخة رجل واحد أي صباح طال عمرك؟ ان صراعنا هو مع الصباح نفسه, نحن نريده ان يخرج قبل الساعة الثامنة ولو حتى بدقيقة واحدة, المهم الا يخرج وفقا للنظام, ولم يبق أمامنا الا اقل من ساعتين والمشوار من النسيم إلى الناصرية يتطلب على الاقل نصف ساعة, ولكن يجب ان نعمل حساب المفاجآت غير المتوقعة, فنحن في حاجة لكل دقيقة فهدفنا محكوم بالزمن.
ومن باب اللقافة المعتادة سألت ضابط المرور: أليس لديك مراهقون موقوفون فقال اكثر من عشرة, فصمت سعد التنكة وصمت صديقه, فقد أوقعنا سؤالي الملقوف في مأزق, فقبل قليل كنا نشتم المرور ومن اخترع المرور لأنه يوقف الشباب وهم يوسعون صدورهم ويسهرون امهاتهم ينكدون على سعد التنكة والرجال من أمثاله والآن نحتاج إلى مساعدة واحدة من هؤلاء المعتدين الآثمين, ولتفادي الخوض في هذه المسائل قال ضابط الشرطة لا تضيعون الوقت في حكي ما فيه فائدة، يا جماعة الولد ينتظرنا في غياهب سجون الناصرية, وبالفعل فكلها دقائق وأصبحنا في داخل السيارة لقد اصبحت سلسلة المتوسطين لاخراج المراهق سبعة اشخاص.
كان صديق سعد التنكة يقود السيارة بكل السرعات المتوفرة فيها, (معنا ضابط مرور) ولكن الله ستر أن الموظفين المتجهين الى اعمالهم معظمهم في الاتجاه المعاكس وأخيراً وصلنا إلى مرور الناصرية, الساعة الآن السابعة بالضبط, فتوزعنا كل فيما يخصه, ضابط المرور دخل غرفة ضابط الخفر، وسعد التنكة اتجه إلى غرف التوقيف ليطلع على الامر عن كثب وليبشرنا بسلامة المراهق، وصديق سعد التنكة راح يبحث عن تليفون ليبشر زوجته باقتراب انفراج الازمة اما انا وضابط الشرطة فقد بقينا في السيارة نبتهل إلى الله ان يمد في الوقت حتى لا يخرج المراهق حسب النظام وتضيع جهودنا ونتحول في نظر نسواننا إلى خمة رخوم, ولأول مرة أشاهد الرائد سليمان قلقا يطقطق اصابعه, وفي لحظة خاطفة من الزمن برز في الافق سعد التنكة وعلى وجهه ابتسامة لم أرها عليه منذ كنا في الحارة, وإلى جانبه شاب صغير (ما أروعه!) تعتلي رأسه طاقية كطربوش تركي لابد ان هذا هو المراهق المسكين الذي بدد اكثر من اثنين وعشرين ساعة في قبضة رجال المرور الحاقدة, جلسنا في السيارة متحاشرين ولكن سعداً بلطفه ومجاملاته المعهودة قال: يا جماعة ترى الضيق في القبر فأيدناه جميعا وبعد ان سارت السيارة المظفرة,, التفت ضابط المرور إلى ضابط الشرطة وسأله: من هذا؟ فقال ضابط الشرطة هذا صديقي عبدالله بن بخيت فالتفت ضابط الشرطة وسألني من هذا؟ فقلت هذا صديقي سعد التنكة، فالتفت إلى سعد التنكة وسألته من هذا؟ فقال هذا ابن عمي ناصر التنكة، وبعد صمت قصير سمعت ضابط المرور يقول لزميله ضابط الشرطة ألم أقل لك - عندما كنا في الكلية - ان الحياة العملية ستكون تنك في تنك!!!
|