مخاطر العولمة على الهوية الإسلامية 2-5 د,محمد عمارة |
* أما العولمة ,, فإن تحرير مضمون مصطلحها لابد ان يبدأ بالتمييز بينها وبين العالمية,.
ذلك ان العالمية نزوع في الأفكار والفلسفات والآداب والفنون والثقافات والحضارات، يجعلها وان امتلكت وتميزت بالخصوصية فإنها تجمع بين هذه الخصوصية -وأحيانا المحلية- وبين النزوع الى العالمية والكونية,, فالادب العالمي هو الذي يتميز بالخصوصية الوطنية والقومية، وفي ذات الوقت تدخل به نزعته الإنسانية الى العالمية,, وفي الاسلام، الذي مثل الرسالة العالمية، على حين كانت الرسالات السابقة عليه محلية,, والذي تحددت عالميته منذ المرحلة المكية، وفي آيات القرآن المكية (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (9) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (10) (إن هو إلا ذكر للعالمين) (11) ,, في هذا الإسلام العالمي، تتعايش عالميته مع الخصوصيات التي تميز ثقافته، وتميز فقه معاملاته، الذي يراعى ظروف المكان ومقتضيات الزمان، والعادات والتقاليد والأعراف.
فالأصول المتمثلة في العقائد والعبادات ومنظومة القيم والأخلاق عالمية ومطلقة وخالدة، بينما الفروع المتمثلة في الفقه للواقع- سياسات وثقافات وقوانين- تتعايش فيها مقادير من الأصول العالمية ومقادير من الخصوصيات المحلية لأنها جامعة بين فقه الأحكام - وهو من الاصول العالمية - وبين فقه الواقع - وهو من الخصوصيات والمحليات,.
وكذلك حال عالمية الحضارة الاسلامية، فيها من العالمية صبغتها الاسلامية الضابطة لمنظومة القيم فيها، ومقاصدها التي تتفيأها لانسانها,, وفيها من الخصوصيات ما تقتضيه دواعي الزمان والمكان والمصالح المتغايرة والاعراف المختلفة باختلاف الزمان والمكان.
وعالمية الاسلام، كدين، تميزه عن انغلاق اليهودية، كدين,, وعالمية الحضارة الإسلامية، كنزوع وقابلية للتمدد والعطاء، عبر الزمان والمكان، وتميزها عن محلية حضارات مثل حضارات الهند والصين واليابان,, لذلك كان التنافس الحضاري، تاريخيا، بين الحضارتين الاسلامية والغربية العالميتين بينما وقفت المنافسة بين الغرب واليابان عند صادرات مصانعها وليس عالمية حضارتها ,؟
واذا كان الاسلام قد جعل عالميته خيارا واختيارا لا قسر فيه ولا إكراه، عندما اعلن قرآنه الكريم لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي ، لأن الايمان - فيه هو: تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين,, وهو ما لا يتأتى بالإكراه، لأن الإكراه يثمر نفاقا لا إيمانا,!!
إذا كان هذا حال الاسلام الدين، فكذلك الحال مع الحضارة التي اصطبغت بصبغة الاسلام الدين لأنها ثمرة لهذا الدين الذي لا إكراه فيه.
وكذلك الحال - او يجب ان يكون - مع ما تتوافق عليه الأمم والشعوب والدول والحضارات، مما يطلق عليه في عصرنا الشرعية الدولية والنظام العالمي والمواثيق الدولية والقوانين الدولية ,,, إذ يجب ان تكون ثمرة لما تتوافق عليه - بالحرية والاختيار - الأمم والشعوب والدول والحضارات، مما يمثل قاسما مشتركا بينها، أي القدر العالمي، الذي لا يقهر ولا يقسر ولا يدمر خصوصيات وتمايزات هذه الامم والحضاراتفالعالمية هي ثمرة للتفاعل الحر والاختياري بين الحضارات المتعددة والمتمايزة، تمثل القاسم المشترك والجامع لهذه الامم والحضارات,, اي المشترك الإنساني العام بينها، والذي لا ينفي تمايزها في الخصوصيات والمحليات.
***
لكن العولمة التي يدور عنها الحديث الآن - تعني شيئا مغايرا لهذه العالمية ,,, وإن شئنا الدقة، فإنها القسر والقهر والاجبار على لون من الخصوصية، بعولمة القهر ليكون عالميا,!
فالمنظومة العالمية، هي حاصل جمع خصوصيات حضارية تصبح عالمية بالتوافق والحرية والاختيار، بينما العولمة هي قسر وقهر يعولم خصوصية حضارية بعينها، عندما يحتاج خصوصيات المقهورين,, ففي العالمية يختار الانسان، وفي العولمة لا خيار للإنسان، الذي يُحشر ويُشحن في القطار الذي صنعه ويقوده الأقوياء,!!
بل إن مصطلح العولمة ذاته شاهد على أنها قسر وقهر لا حرية فيها ولا اختيار,, فهو مثل غيره من المصطلحات التي أتت وتأتي على وزنه الصرفي - فَعلَلَة - من مثل: (القولبة) - أي القسر والقهر على قالب غير ملائم - ,,, والفَرنسة ,, - اي القهر على ان يصبح غير الفرنسيين فرنسيين,, ومثل الروسنة - جعل غير الروس روسا -,, والجلنجزة - جعل غير الانجليز انجليزا - ,, والامركة ,, وكذلك الفبركة ,, والعكننة ,, والشوشرة ,, الى آخر ما يأتي على هذا الوزن الصرفي من مصطلحات.
ان العولمة هي اجتياح الشمال للجنوب,, اجتياح الحضارة الغربية - ممثلة في النموذج الامريكي - للحضارات الاخرى,, وهي التطبيق العملي لشعار نهاية التاريخ ، الذي ارادوا به الادعاء بان النموذج الغربي الرأسمالي هو القدر الأبدي للبشرية جمعاء، وهو تطبيق يستخدم - في عملية الاجتياح - اسلوب صراع الحضارات ، الذي يعني - في توازن القوى الراهن - ان تصرع الحضارة الغربية ما عداها من الحضارات.
***
نظرة تاريجية على الجذور والخلفيات
لكن,, وبعد هذا الضبط والتحرير لمفاهيم مصطلحات الثقافة والهوية والعالمية والعولمة ,, هل نحن، بإزاء هذا القسر والقهر والاجتياح الغربي لثقافتنا وهويتنا، امام امر محدث وجديد؟,, أم ان لأمتنا وثقافتنا - الشرقية,, والاسلامية,, تاريخا طويلا وقديما مع هذا القهر والقسر والاجتياح؟
* لقد عاش الشرق تحت هيمنة الغرب عشرة قرون، بدأت بفتوحات الاسكندر الأكبر (356 - 323 ق,م) وانتهت بفتوحات الاسلام التحريرية في القرن السابع الميلادي,, وفي ظل تلك الغزوة حدث تغريب لثقافة الشرق، وقهر حتى لعقائده الدينية، وساد الفكر الهليني بمدارس الشرق الفلسفية طوال تلك القرون، وكانت الحاكمية للقانون الروماني حتى جاءت الشريعة الاسلامية فحررت العقل القانوني الشرقي من قوانين جستنيان (527 - 565م) بعد ان حررت جيوش الفتح الاسلامي أوطان الشرق من جيوش الروم البيزنطيين.
* ولما عاد الغرب تحت أعلام الصليب (489ه - 1096م) ليستعيد الشرق من الإسلام، لم تكن لدى الغرب يومئذ حضارة مزدهرة تغري بالاستلهام,, بل كان فرسان إقطاعه - كما وصفهم الامير الفارس أسامة بن منقذ (488 - 584ه، 1095 - 1188م) - مثل البهائم، ليست لديهم سوى فضيلة القتال !!,, فكانت غزوة عسكرية صرفة، طويت كل صفحاتها، وزالت كل آثارها عندما انهدمت قلاعها وحصونها، واجليت حامياتها العسكرية,.
* لكن الغرب عاد مرة ثالثة ، في الغزوة الاستعمارية الحديثة، التي بدأت الالتفاف حول العالم الاسلامي في نفس العام الذي سقطت فيه غرناطة (897ه 1492م) وتم فيه اقتلاع الاسلام من غرب أوروبا,, ثم اقتحمت قلب عالم الاسلام - الوطن العربي - بحملة بونابرت على مصر (1213ه - 1798م).
وفي هذه الغزوة الحديثة - التي تصاعدت بلواها حتى عمت بمعاهدة سيكس - بيكو (1334ه - 1916م) ووعد بلفور (1336ه - 1917م) واسقاط الخلافة الاسلامية (1342ه - 1924م) - كان لدى الغرب من الحضارة والثقافة ما يغري فمارس غواية الشرق، في الثقافة والقيم - مع حرمانه من العلم الذي يحتاج,!! لكن ظلت العلاقة بينه وبيننا في حدود (الغواية) والترغيب والترهيب، فلم نفقد حريتنا في الاختيار.
ولقد بدأ الغرب غوايته من ثغرات الاقليات.
فبونابرت (1769 - 1821م) قد اعلن - وهو في الطريق الى مصر - انه سيجند عشرين ألفا من أبناء الاقليات ، ليكونوا جنوده ومواطئ لأقدامه في بناء امبراطوريته الشرقية,, وفي سبيل ذلك أصدر نداءه الى يهود العالم - وهو على ابواب عكا سنة 1799م - ليعقدوا معه الشراكة، التي بدأت وتطورت واستمرت بين اليهود والغزوة الغربية حتى الآن,!
وفي سبيل هذه الغواية كوّن بونابرت من شباب الأقباط والنصارى الشوام والاروام - بمصر - فيلقا حربيا بقيادة المعلم يعقوب حنا (1158 - 1216ه، 1745 - 1801م),, الذي عهد اليه خليفة بونابرت - الجنرال كليبر (1753 - 1800م) - بأن يفعل في المسلمين ما يشاء,, حتى تطاولت النصارى، من القبط والنصارى الشوام، على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم، واظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكانا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين - كما يقول مؤرخ العصر عبدالرحمن الجبرتي (1167 - 1237ه، 1754 - 1822م) (13)
* وحتى بعد جلاء الحملة الفرنسية عن مصر (1216ه 1801م) كانت غواية الترغيب والترهيب قد جعلت للتغريب جماعة - من أنصار المعلم يعقوب حنا - خرجوا في ركاب جيش الاحتلال، واخذوا يلحون على بونابرت - في باريس - ان يستعملهم في تغريب مصر وإفريقيا، فكتبوا اليه يقولون: ان الوفد المصري، الذي فوضه المصريون الباقون على ولائهم لك، سيشرع لمصر ما ترضاه لها من نظم عندما يعود اليها من فرنسا (14) .
فكانت هذه هي بداية الغواية بإحلال النظم والتشريعات الاوروبية محل نظائرها الإسلامية، منذ ان تحرر الشرق من النظم والقوانين الرومانية، بالفتوحات الإسلامية، في القرن السابع للميلاد,.
* وفي مرحلة غواية الترغيب والترهيب هذه نجح الفرنسيون في جعل لبنان الماروني وكأنه مدرسة إرساليات تضخ التغريب في محيطه العربي والإسلامي,, وتحدثت عن هذه الرسالة مراسلات قناصلهم في بيروت، فقالت: ان حكومة فرنسا ستخلق بين هذه العائلات المارونية، من خلال نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين نقاط اتصال جديدة معها ومع البلد، ورموزا جديدة وثمينة للاعتراف بفضلها,, وان خدمة المصالح الدينية يعني خدمة الحضارة، التي هي في الوقت نفسه مصالح السياسة الفرنسية,,, في جعل سوريا حليفا اكثر أهمية من مستعمرة,, وتأمين هيمنة بلدنا على منطقة خصبة ومنتجة,, وتكوين جيش متفان لفرنسا في كل وقت، وذلك حتى تنحني البربرية العربية لا إراديا امام الحضارة المسيحية لأوروبا,, (15) !
هكذا أفصحت مراسلات القناصل عن مقاصد مدارس الارساليات الفرنسية، في تكوني جيش ثقافي ماروني ، يحقق - الى جانب الميزات المادية للاستعمار - التغريب، الذي يجعل حضارتنا,, (البربرية - كما قالوا) - تنحني لا إراديا - امام الحضارة المسيحية الاوروبية,.
ولقد حققوا ,,, بفعل الغواية,, والترغيب والترهيب - بعضا من هذه المقاصد التي حددوها,.
- فأول من نادى باحلال اللهجات العامية محل اللغة الفصحى - وذلك حتى تنقطع أوصال الأمة,, وتقوم القطيعة المعرفية بينها وبين دينها وتراثها، فتفقد إسلامية هويتها، وذاكرتها التاريخية - اول من نادى بذلك هو، امين شميل (1243 - 1315ه، 1828 - 1897م),, وهو ماروني، من خريجي هذه المدارس التي اقامتها هذه الارساليات,, نادى بذلك في مصر - سنة 1881م,, ويومها رد عليه العالم المجدد عبدالله النديم (1261 - 1313ه، 1845 - 1896م) بمقال في صحيفة التنكيت والتبكيت جعل عنوانه إضاعة اللغة تسليم للذات ,!
- واول من نادى بالمادية والالحاد هو شبلي شميل (1276 - 1335ه، 1860 - 1917م) - احد خريجي هذه المدارس الإرسالية,.
- واول من نادى بعلمانية الدولة والقانون، واحد من خريجي هذه المدارس - هو فرح أنطون (1291 - 1340ه، 1874 - 1922م).
- ولقد اقام هذا الجيش الماروني المتفاني في خدمة الحضارة المسيحية الاوروبية لتحقيق هذه المقاصد - مقاصد انحناء حضارتنا، لا إراديا، امام الحضارة الاوربية - اقام مؤسسات ثقافية وفكرية وإعلامية,, من مثل صحيفة المقطم (1306 - 1371ه، 1889 - 1952م) التي وصفها عبدالله النديم بأنها: الصحيفة الانجليزية التي تصدر في مصر !,, ومن مثل المقتطف (1293 - 1371ه، 1876 - 1952م) - التي كانت ديوان التبشير بنظريات العلم المادي الغربي,,, حتى لقد وصف عبدالله النديم الجيش الذي يحرر صفحاتها، بأنهم: اعداء الله وانبيائه، الذين انشئوا لهم جريدة جعلوها خزانة - لترجمة كلام من لم يتدينوا بدين، ممن ينسبون معجزات الأنبياء، الى الظواهر الطبيعية والتراكيب الكيماوية، ويرجعون بالمكونات الى المادة والطبيعة، منكرين وجود الإله الحق، وقد ستروا هذه الاباطيل تحت اسم فصول علمية، وما هي الا معاول يهدمون بها عموم الاديان, (16) .
* ولقد تتلمذ على يدي هذا الجيش التغريبي المتفاني مثقفون بلغت بهم الكراهة للإسلام، والاستهانة بمطلق الايمان الديني، حد العمالة الحضارية للغرب ,, من مثل سلامة موسى (1305 - 1377ه، 1888 - 1958م) - الذي لخص مذهبه فقال - لكلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة,,، توضحت امامي اغراضي,, وهي تتلخص في أنه:
- يجب علينا ان نخرج من آسيا (17) وان نلتحق بأوروبا فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني,, وكلما زادت معرفتي بأوروبا، زاد حبي لها، وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها,, فالرابطة الشرقية سخافة,, والرابطة الدينية وقاحة، اريد تعليما اوروبيا، لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه.
وحكومة كحكومات اوروبا,, لا كحكومة هارون الرشيد والمأمون.
- وأدباً أوربياً,, ابطاله مصريون, لا رجال الفتوحات العربية.
- وثقافة اوروبية,, لا ثقافة الشرق,, ثقافة العبودية والتوكل على الالهة.
- واللغة العامية - لغة الهكسوس - لا العربية الفصحى لغة التقاليد العربية والقرآن.
- والتفرنج في الازياء، لانه يبعث فينا العقلية الاوروبية.
هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سرا وجهرا فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب) (18) .
* وانبهر بهذا النموذج الغربي - الذي بشر به هذا (الجيش المتفاني) مثقفون عادوا عن (اجتهادهم الخاطىء) في مرحلة النضج الفكري,, من مثل الدكتور طه حسين (1306 - 1393 ه، 1889 - 1973م).
- الذي كتب في مرحلة انبهاره يقول: (ان كل شيء يدل على انه ليس هناك عقل اوروبي يمتاز عن هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها,, وانما هو عقل واحد,, مرده الى عناصر ثلاثة:
1- حضارة اليونان وما فيها من ادب وفلسفة وفن.
2- وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه.
3- والمسيحية وما فيها من دعوة الى الخير وحث على الاحسان.
واذا صح ان المسيحية لم تخرج العقل الاوربي عن يونانيته فيجب ان يصح ان الاسلام لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت متاثرة بالبحر الابيض المتوسط,, فجوهر الاسلام ومصدره هما جوهر المسيحية ومصدرها، والقرآن انما جاء متمماً ومصدقا لما في الانجيل,, فالسبيل واحدة فذة ليس لها تعدد وهي ان نسير سيرة الاوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم انداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومراها، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب,, ولقد التزمنا امام اوروبا ان نذهب مذهبها في الحكم ونسير سيرتها في الادارة ونسلك طريقها في التشريع) (19) .
|
|
|