Wednesday 7th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الاربعاء 21 ذو الحجة


الفكاهة في شعر طاهر أبوفاشا
د, مصطفى رجب

في عام 1989م, رحل عن عالمنا آخر ظرفاء العصر من جيل شعراء ابوللو وهو الشاعر طاهر ابوفاشا رحمه الله، وقد كانت البسمة والدعابة صفتين ملازمتين له لا تفارقانه, وكنا نسمع منه في أخريات حياته عبارة يرددها كثيرا، وهي أنه أنفق عمره كله في الهواء، يشير بذلك الى اربعين عاما قضاها في العمل بالاذاعة، فقد كتب مئات الحلقات من مسلسله الاذاعي الشهير ألف ليلة وليلة فضلا عن عشرات الأغنيات والأوبريتات والبرامج.
ويبدو انه ندم على ذلك الوقت الطويل الذي لو كان استثمره في التأليف المطبوع لكان أبقى اثرا واطول عمرا, وبخاصة انه كان راوية وحافظا وهاضما لتراثنا الأدبي بعصوره المختلفة، وكان ذا ولع خاص بأخبار الظرّاف والمتماجنين من الشعراء مما يدل على تلاقي روحه بأرواحهم على طول العهد، برغم انه كان طاهر السلوك وكان من لوازمه الفكهة اذا وقف متحدثا أو خطيبا ان ينهي كلامه بهذه العبارة الظريفة مع تحيات أخيكم الذي قال للخَنَا: حاشا، طاهر أبوفاشا .
والفكاهة في شعر طاهر ابوفاشا متنوعة، منها ما يقوم على السخرية بظاهرة اجتماعية،ومنها ما يقوم على السخرية من أفراد بأعيانهم، ومنها ما يمثل نقدا لأوضاع مستهجنة, فمن ذلك قصيدته التي أسماها الحجاب وألقاها في مناظرة أقيمت حول موضوع السفور والحجاب وقد كانت المناظرات علامة مميزة في حياتنا الأدبية في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين, وتعتمد المناظرة على قطبين كبيرين من أعلام المفكرين أو الكتاب أوالصحفيين يتبنى كل منهما أحد جانبي المناظرة ويدافع عنه، وتكون مهمة الآخر تفنيد آراء صاحبه ومحاولة اقناع الجمهور بالرأي الآخر, ومن أشهر تلك المناظرات تلك المناظرة التي أقيمت حول العلم والأدب وأيهما أنفع للناس؟ وكان الذي يدافع عن أهمية العلم في حياة الناس عميد الأدب العربي الراحل د, طه حسين، وكان الذي يقلل من قيمة العلم ويدافع عن أهمية الأدب العالم الراحل الكبير الدكتور علي مصطفى مشرفة، وقد أبلى كل منهما بلاءً حسنا فيما عهد اليه به.
والقصيدة التي نحن بصددها تبنى فيها أبوفاشا الدفاع عن الحجاب وأيد دفاعه بحجج كثيرة منها ما لبس ثوب الفكاهة، فهو يتساءل: هل يأتي يوم تنقلب فيه كل الأوضاع وترأس المرأة فيه الرجال؟ وتتولى جلائل الأعمال، فهذه امرأة تؤم المصلين في المساجد، وهذه امرأة تلعب المصارعة، وهؤلاء نسوة يعملن في دواوين الحكومة ويتركن اطفالهن في بيوتهن ويربينهم من خلال المكالمات الهاتفية!!.
رباه ان القوم قد
سفهوا وباءوا خاسرين
لهمُ عيون يبصرو
ن بها ولا يتبصرون
ولهم قلوب يشعرو
ن بها ولا يتدبرون
قد ضيعوا مجد الجدود
وأخلفوا أمل البنين
وإذا أضاعوا الخالدا
ت فما عساهم يحفظون
***
فدعوا الى نبذ الحجا
ب وشوهوا خلق اليقين
وتغمطوا نور الهدا
ية وازدروا الحق المبين
فسطت ذئاب الغي تع
بث بالفضيلة في العرين
وعدت بغاث الفسق تل
هو بالحمى مستنسرين
يا قوم رحماكم فقد
عاد الهدى منكم غبين
مسخت يد التقليد ما
زانت يد البلد الأمين
هدمت مساحي الجهل
ما شادت عقول المصلحين
حتى إذا اشتد الأسى
وسجت خطوب المفسدين
طعنت شبا التقليد ما
نعتز من وطن ودين
يا ليت شعري هل تسو
د الفاتنات الفاتنين!!
وتستمر تساؤلات الشاعر الساخرة وتتمادى خيالاته الى اليوم الذي يرى فيه الرجال يطبخون في المطابخ ويكنسون المنازل ويلبسون البراقع والحجاب، في حين تخرج النساء سافرات أو متطربشات
فترى الحمير الناطقا
ت على متون العاملين!!
وترى النساء الناعما
ت بكل شغل يرتضين
هذي إمام في المسا
جد تنصح المتهتكين
والقوم بالطرف الكحي
ل عن النصيحة ذاهلون
هذا: وتلك مصارع
بطل كرأي الحاكمين
ان رجرجت أكفالها
قالوا لها عضل متين
فترى الأنوثة قد أشا
حت وجهها في أي هون
وترى النساء على المكا
تب عاملات في مجون
فإذا بكى أطفالها
طلبتهم بالتليفون
في حال أن ذوي الشوا
رب في الأزقة عاطلون
ياليت شعري هل تسو
د المرهفات اللاعبين
فترى الرجال بكل بي
ت طابخين وكانسين
وترى النساء مطربشا
ت والرجال مبرقعين
بالله يا أرض ابلعي
هم إنهم لا يعقلون
بالله يا شهب ارجمي
هم إنهم لا يفقهون
وتبلغ السخرية عند طاهر أبوفاشا ذروة روعتها في قصيدته أديب التي يتناول فيها بالتهكم اللاذع واحدا من أدعياء الأدب والفلسفة فيسأله اسئلة مفحمة تذكرنا بتلك الاسئلة التي وجهها الجاحظ الى صديقه أحمد بن المدبر في رسالته الشهيرة التربيع والتدوير ويعتذر ابوفاشا للأديب المغرور مقدما عما قد يقع فيه من خطأ وهو يوجه أسئلة
نديد أرسطو ضريب هوميرو
أجبني فمثلك ما أجدره
وان أنا لم أحسن السؤل لكنّ
مثلك من يقبل المعذره
رويدك حدّث فمنك الحديث
على ما رأيت، وما لم تره
فداؤك باقل ماذا رأيت
بأبجد من معضل لم نره؟
أفي العلم أن الفطير لذيذ؟؟
وماذا ترى في رغيف الذرة؟!
مسائل حيرت الباحثين
وأعيت عقول ذوي المقدرة!!
ويصور أبوفاشا صاحبه على حقيقته فهو يسأله لماذا تتعاظم اذا كنت في موقف تافه، وتتصاغر وأنت بين العظماء حتى كأنك كرة صغيرة؟ ولماذا تنفتح كالأسد إذا أحسست بالأمان فإذا جدّ الجد صرت كالدجاج الرعديد؟:
سألتك لم أنت بين السفاس
ف ثبت وبين العظام كرة؟؟
أيوم النزال ترى الدجاج
ويوم الأمان ترى قسورة؟؟
إذا الديك صاح على ربوة
تأمله يوماً على مجزرة!!
ومن أشهر قصائد أبوفاشا قصيدته رجعة الى مويس ومويس هذا نُهير يمر بمدينة الزقازيق، كانت للشاعر على ضفافه ذكريات أيام الشباب حين كان طالبا يدرس بمعهد الزقازيق الديني الأزهري في أواخر عشرينيات القرن العشرين.
وقد نظم أبوفاشا هذه القصيدة في سنوات عمره الأخيرة حين مرّ على هذا النهر في احدى سفرياته فجاشت نفسه بذكريات الشباب فتحدث عن هذا النهر حديث المحب الواله
وصل الرَّكب يا نديم فهات هذه رملتي وتلك رباتي
الرياض اللفاء والرفرف الخضر ومغنى الصبا وملهى اللدات
ومغاني عمّاتك النخل فرعاء صموتا كعهدها قائمات
ومويس السهران راوية الحب وساقي لحونه الثملات
وعلى صدره بغام حنين، وعلى شطّه عرام سقاة
أنا أيضاً من الساقة ولي في ذلك الشط قصتي ورواتي
فوق هذا الثرى سكبت من العمر سنيناً عصرتها من حياتي
وعلى هذه الرمال تناولت كتاب المأساة والمسلاة
ثم يتذكر الشاعر أيام طلب العلم في شبابه بما فيها من حلو ومر، فهو يتذكر شموخ المعهد الديني وأساتذته العظماء الكبار الزاهدين الثقات, ثم يتذكر أحد رفاقه الذي كان ثقيل الظل كأنه هامش من تلك الهوامش التي تثقل على قارىء الكتب، وكان من لوازم رفيقه ذاك اذا تكلم أن يثور ويتصايح وينفعل ويجادل جدالا عقيما وتكثر حروف القاف في كلامه:
يا سقى الله بالزقازيق أيام صباي النواضر العطرات
وسنيناً كأنها طرفة العين خفافاً مررن كاللحظات
يسترقن الخطى الى شاطىء النسيان في موكب رهيب الصمات
من تُرى أيقظ الخواطر حولي وأثار المطويَّ من صفحاتي
وأعاد الأيام والمعهد السامق مسروج بالنجوم الهداة
الفحول الأعلام أمثلة الزهد وشيخانه العدول الثقات
ورفيق كأنه هامش الشرح اذا صات يمضغ القافات
جبليٌّ كأنه الجمل الأورق صخابة كثير اللتات
وكان طعام طلاب الأزهر آنذاك - وكانوا يلقبون بالمجاورين- مضرب المثل في الرداءة والحطة، فكان الريفيون منهم يأتون معهم من الريف بالمش ويضيفون اليه الشطة والكمون والفلفل الأسود والخل، ويضربون هذا الخليط حتى يسمك قوامه فيجعلونه إداما لهم, وكان أبوفاشا - رحمه الله - يحدثنا عن هذا الخليط العجيب الحارق ويسميه بغيره إشارة الى قول الشاعر
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
وهو في قصيدته السابقة لا يفوته ان يذكر لنا كيف هذا الطعام النضيج المفلفل يسحر المجاورين فيتناولون ويتصايحون إذا مدت المائدة ويتركون المتون
والحواشي وينهالون على طعامهم ذاك فيلتهمون التهاما
ونضيج مفلفل لاذع الطعمة يشوي أصابعي ولهاتي
هو زاد المسافرين بلا زاد وقوت المحتاج للأقوات
يتصبى المجاورين فننقضُّ عليه كالفاتحين الغزاة
اترك المتن واطو حاشية السعد وأدرك شيخون قبل الفوات
أنا من مازن ومازن مني والليالي القمراء من صدحاتي
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved