Wednesday 7th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الاربعاء 21 ذو الحجة


الحكمة بين النثر والشعر في كتاب الكشكول للعاملي
محمد إبراهيم أبو سنة

التقط بهاء الدين العاملي فرائد من الحكمة العميقة وضمنها كتابه الكشكول, وكما كان الشعر العربي حافلا بالنظرات النافذة في شئون الحياة الانسانية وقضايا الوجود الكبرى فان النثر لم يتخلف هو الآخر عن الشعر في هذا المضمار، واذا كان الايجاز من خصائص الشعر والاستطراد من خصائص النثر لان الشعر ليس مجرد اداة لابلاغ المعاني وانما هو كينونة فنية غاية في ذاتها فقد لجأ النثر في بعض اساليبه الى التكثيف الشديد وذلك في الامثال السائرة, وهي امثال وردت كذلك في الشعر ولها مورد ومغرب غير انها اكثر شيوعا في النثر من الشعر, وقد اورد العاملي في كتابه نماذج من هذه الامثال التي يسميها نصائح, وهي مقولات شديدة التركيز بالغة العمق ليس لها طابع زمني لأنها في غوصها الى اغوار الحقيقة تنفذ من زمن الى زمن حتى ترددها كل الازمان, وهذه الكلمات الحكيمة تتناول مختلف اغراض الحياة وشئونها وتصعد بالتأمل من الوضع الاجتماعي والعلاقة بين البشر الى الوجود كله ومن هذه الكلمات الحكيمة (من اعز نفسه اذل فلسه) اي ان الجود يصنع العز (ومن سلك الجد أمن العثار) ومن كان عبدا للحق فهو حر ومن بذل بعض عنايته لك فابذل جميع شكرك له, لايقوم عز الغضب بذل الاعتذار، ومعناه ان الغضب يدفع الى التجاوز مما يوجب الاعتذار بعد ذلك وما يجلبه الغضب من وهم القوة والعزة لايعادل بالضعف والذل عند الاعتذار, ويقول المثل ما صين العلم بمثل بذله لاهله, وربما كانت العطية خطية والعناية جناية وذلك اذا لم تكن العطية والعناية في محلهما، ولولا السيف كثر الحيف بمعنى ان القوة تصون الحق، ولو صور الصدق لكان اسدا ولو صور الكذب لكان ثعلبا لان الصدق يخفي وراءه شجاعة والكذب يخفي الجبن والاحتيال, ولو سكت من لا يعلم سقط الخلاف لان الحقيقة ستظهر ولا مجال للنزاع حولها ومن قاسى الامور فهم المستور وهذا تأكيد لمعنى ان الامور تعرف بنظائرها, ومن بلغ غاية ما يحب فيتوقع غاية ما يكره والشاعر يقول لكل شيء اذا ما تم نقصان - وتقول الحكمة من لم يصبر على كلمتة سمع كلمات ومن عاب نفسه فقد زكاها اي طهرها واثنى عليها والفقر يخرس الفطن عن حجته والمرض حبس البدن والهم حبس الروح والمفروح به هو المحزون عليه والدهر انصح المؤدبين واسرع الناس الى الفتنة اقلهم حياء من العزار المنية تضحك من الامنية والحر عبد اذا طمع والعبد حر اذا قنع ذلك لان الطمع والتهافت على المغانم يذل النفس بينما الرضا والقناعة يصونان النفس ويضمنان لها العزة, والفرصة سريعة الفوت بطيئة العود, الانام فرائس الايام, اللسان صغير الجرم عظيم الجرم - يوم العدل على الظالم اشد من يوم الجور على المظلوم كلب جوال خير من اسد رابض قد تكسد البواقيت في بعض المواقيت لاتشرب السم اتكالا على ما عندك من الترياق وهذا مصداق للقول الشائع الوقاية خير من العلاج ويقول المثل لاسرف في الخير ولا خير في السرف اي ان الكثير من فعل الخير لا يعد اسرافا كما ان الاسراف لا خير فيه.
اما الحكمة في الشعر فقد اورد منها صاحب الكشكول كثيرا من النماذج البديعة يقول ابن خفاجة:
لا العطايا ولا الرزايا بواق
كل شيء الى بلى ودثور
فاله عن حالتي سرور وحزن
فالى غاية مجاري الامور
فاذا ما انقضت حروف الليالي
فسواء كل الاسى والسرور
وقال العزوي
وجدت القناعة اصل الغنى
فصرت بأذيالها ممتسك
فلاذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به منهمك
وعشت غنيا بلا درهم
امر على الناس شبه الملك
ويقول ابو الفتح البستي في قصيدة يتراسل فيها مع قصيدة ابي الطيب الرندي الاندلسي التي يقول في مطلعها
لكل شيء اذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش انسان
هي الامور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته ازمان
اما البستي فيقول
زيادة المرء في دنياه نقصان
وربحه غير محسن الخير نقصان
وياحريصا على الاموال يجمعها
انسيت ان سرور المال احزان
احسن الى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الانسان احسان
وان ساء مسيء فليكن لك في
عروض زلته صفح وغفران
وكن على الدهر معوانا لذي امل
يرجو نداك فان الحر معوان
واشدد يديك بحبل الله معتصما
فانه الركن ان خانتك اركان
ثم يقول متحدثا عن البخل والكرم
من كان للخير مناعا فليس له
على الحقيقة اخوان واخدان
من جاء بالمال مال الناس قاطبة
اليه والمال للانسان فتان
من عاشر الناس لاقى منهم نصبا
لأن اخلاقهم بغي وعدوان
من استشار حروف الدهر قام له
على حقيقة طبع الدهر برهان
ولاشك ان مثل هذه القصائد التي تنحو ناحية الحذر والخوف من الناس والدعوة الى الزهد انما تشير الى عصور ساد فيها الظلم وشح فيها المال فتقاتل الناس عليه حتى فسدت القيم جميعا, وهذه القصائد تقترب من النثر في اسلوبها المباشر الذي غلب عليه تقرير الحقائق المجردة ولذا فهي اقرب الى النظم من الشعر ومن اجمل ابيات القصيدة حديث الشاعر عن العلم والجهل حيث يقول
يا أيها العالم المرضى سيرته
ابشر فأنت بغير الماء ريان
ويا أخا الجهل لو اصبحت في الجحيم
فأنت ما بينها لاشك ظمآن
لا تحسبن سرورا دائما ابدا
من سره زمن ساءته ازمان
والواقع ان البستي قد اخذ الكثير من قصيدة الرندي المعروفة.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved