 قراءة وتحليل : محمد المنيف
عند استعراضنا لمسيرة الفن التشكيلي المحلي,, تبرز أمامنا العديد من الاسماء التي كان لها دور هام وفاعل في بدايات انطلاقتها او ما يمكن ان نسميها المحاولات الاولى خصوصا في مجال اقامة المعارض الشخصية ويأتي اسم الفنان عبدالجبار اليحيا ضمن تلك الاسماء بل مع من هم في المقدمة في وقت لم يكن هناك الا عدد قليل جدا يحسب على الاصابع ولهذا فالفنان اليحيا يعد من رواد هذا الابداع واحد مؤسسيه والمؤثرين في مسيرته ورغم هذا فهو بعيد عن الاضواء ولم يكن له ما كان لغيره من الفنانين الرواد من فرص اعلامية كشفت البعض وتجاهلت البعض الاخر رغم ان هذا الفنان لا يقل باي حال عن زملائه الرواد امثال الفنان عبدالحليم رضوي والفنان محمد السليم يرحمه الله والفنان عبدالله الشيخ والفنان احمد فلمبان والفنان ضياء عزيز ولعلنا عبر هذه الصفحة نقدم هذا الفنان للقراء الاعزاء وللوسط التشكيلي انطلاقا من اهميته وريادته واستحقاقه ايضا للتكريم.
الفنان عبدالجبار اليحيا من مواليد الزبير عام 1351 تلقى تعليمه في العراق وفي المملكة العربية السعودية اقام معرضه الشخصي الاول عام 1393ه ومعرضه الثاني عام 1404ه شارك في معظم معارض الرئاسة العامة لرعاية الشباب ومعارض جمعية الثقافة والفنون وفي معرض الفن السعودي بالهند,, ومهرجان الجنادرية الاول ومهرجان الفنون التشكيلية لدول الخليج بدولة الامارات العربية المتحدة عام 1405ه ساهم في المشاركة في معرض المملكة بين الامس واليوم في ألمانيا الغربية ولندن وباريس والقاهرة حتى عام 1407 ومثل المملكة في معرض فانكوفر للنقل بكندا اكسبوا 86 ومعرض روشان الاول للفن السعودي المعاصر بجدة 1406ه حصل على العديد من الجوائز وله مقتنيات في الرئاسة العامة وفي جمعية الثقافة والفنون وفي كلية الاركان بالرباط وبعض الافراد من رجال الاعمال.
رسام وأديب
عرف الفنان عبدالجبار اليحيا عن غالبية التشكيليين ومحبي الفن التشكيلي كفنان يتعامل مع اللوحة كما هو ايضا في الاوساط الثقافية والادبية معروف بالابداعين -التشكيلي والادبي- فهو صاحب قلم متميز في المقالة والقصة ويساهم كثيرا في الابداع الادبي والثقافي عبر الملاحق الادبية بالمحاورة والمداخلة في العديد من القضايا الثقافية ويشارك في العديد من الندوات الثقافية والتشكيلية وتأتي تلك المساهمات نتيجة للحصيلة الثقافية التي يتمتع بها هذا الفنان فجمع بين القلم والفرشاة ومازج بين الابداعية لتحقيق الفكرة وقدمها في طبقين لكل منهما مذاقه ومتذوقوه.
اليحيا - والفن التشكيلي
والحقيقة ان الحديث عن هذا الفنان يحتاج لمساحات اكثر ليعطى كل ابداع من ابداعاته حقه الكامل وبما ان الصفحة تشكيلية فالامر اصبح اكثر التزاما بهذا الابداع,, والذي اخذ مساحة ليست قليلة من جهد وعمر وخبرات هذا الرجل,, وجعلته مرجعا ابداعيا في الاداء وفي تاريخ الفن ومالكا للقدرة على تقييم وتقويم الاعمال الفنية والحكم عليها ارتكازا على خبرات تراكمية في كل المدارس الفنية - والتقنيات الادائية في العمل الفني والفنان عبدالجبار اليحيا ولدت معه موهبة الرسم وتبلورت في فترة طفولته وصباه وكان للمحيط البيئي الذي عاش فيه هذا الفنان اهم مصادر الالهام ولهذا جاءت اعماله الاولى مرتبطة بالواقع ارتباطا حسيا,, واداء فنيا,, فرسم القرية والنخيل والسوق وكان اختياره للزوايا الجميلة في ذلك المحيط هو ما يلفت النظر عند المتلقي اضافة الى الحبكة اللونية واستشفاف ألوان الطيف عبر آفاق الصحراء وجمال القرية.
دراسة أكاديمية وخبرات الرسم
تلقى الفنان عبدالجبار اليحيا تعليمه اكاديميا في مجال الفنون واتبعه بدراسات شخصية عبر تجارب يمكن ان نسميها (مخبرية) في مرسمه للعديد من الاعمال الناضجة والمكتملة البناء - مضمونا وشكلا ابداعيا - كان كما قلنا في بداية مشواره استلهامه للواقع الا ان ما يقدمه من اعمال لم تكن لمجرد النقل او محاكاة بقدر ما تحمل في ثناياها ملامح خاصة واحساسا مفعما بالبعد الانساني والجمالي معا اكثر منه تسجيلا لشكل يمثل معلما اثريا او لموقع سياحي,, وانما تعامل مع عناصر البيئة باحساس عاطفي جعل اللوحة كائنا يتحدث معه ويروي له حكايات الصبا ومراتعه المملوءة بالحب ونفحات العشق المؤطرة بالمودة والالفة فاصبح كل جزء من اللوحة يعني شيئا ما ويعبر عن ابعاد وجدانية فأخرجها من دائرة المجاملة والتقليد وانغمس عبرها نحو الفكرة وكيفية ان يجعل منها هاجسا تشكيليا وقلقا ابداعيا تتفتح اساريره حينما يختتمه بامضائه.
مرحلة الرمزية
تلك المرحلة (الواقعية) غير المباشرة كما قلنا حتى ولو تقمصت اولبست في مظهرها شكلا مباشرا الا انها عند الفنان تعني وضعا آخر لا يمكن فصله عن عقله الباطني مشحونا بكل تفاصيل وجزيئات نموه الجسدي والذهني والعاطفي,, ولهذا جاءت مرحلة الرمزية مرحلة هامة عند الفنان وعند متابعيه تلك المرحلة كشفت ما كان مغلفا بالمباشرة في التكوين الى شفافية المعنى وقوة الرمز وتنوعت عبرها الاعمال والعناصر ولعل ابرزها (المرأة) بما تعنيه من علاقة اسرية فهي الام والزوجة وهي الارض والعطاء والكفاح والصبر,, وهي العاطفة بكل معانيها - يجمعها الفنان اليحيا - في المعنى والرمز وتتنوع في التعبير وفي الصورة النهائية في العمل الفني - واللانهائية في التحليل والبحث والايحاء - اذ خرج لنا الفنان عبدالجبار بالمرأة بغير ما خرج به الآخرون من بحث عن جمالها وفتنتها والتفنن في اظهار زوايا وجوانب الجاذبية فيها بل جاءت المرأة في اسمى صورها واعظم ادوارها ولهذا نجد ان اغلب اعمال الفنان اليحيا خالية من ملامح الجاذبية المغرية.
وفي مقدمتها ملامح الوجه باستثناء عدد قليل من اعماله تؤكد قدرته الفائقة على التعبير عن تلك السمات او المقاييس الجمالية.
واستشهادا مع اعمال الفنان عبدالجبار اليحيا يمكن لنا التعرف على تلك الابعاد والتقنية من خلال بعض النماذج ولتكن لوحة وداع المحارب,, احداها - اذا ابرز الفنان المشاعر الانسانية في اللوحة وفي مقدمتها احساس المرأة كونها الاطار الحقيقي للاسرة وما تمتلكه من حنان وعاطفة فجعلها في رأس الهرم,, وشمل البقية بايحاء الترابط,, كما هي ايضا في لوحة الاطلال او بقايا في الذاكرة جعل المرأة جزءا من هذا الاحساس القوي والمؤثر في وجدانه والمتعلق بحبه لكل شيء فكيف اذا كان الوطن او كان الماضي بما يحمله من عناصر ملموسة ومحسوسة فكانت المرأة اكبر واعذب تعبير.
وتتنامى ابداعات هذا الفنان ورمزيته المتألقة ويبحر بنا في عالمه التشكيلي عبر لوحاته دون غموض يقدم لنا ابداعا راقيا ومتمكنا.
محطات جمالية أخرى
وإذا كنا قد اعتبرنا استلهام الفنان عبدالجبار للمرأة في اعماله هو الابرز فهناك ايضا اعمال اخرى لا تقل بأي حال من هذه المرحلة او هذا التخصيص عبر مسيرته الابداعية,, اذ قدم العديد من اللوحات والمرتبطة بالانسان بالارض بأنماط مختلفة وعديدة كانت مثار جدل فني بين التشكيليين والمثقفين وجه فيها الكثير محاور للنقاش والبحث قلّ ان يحدث عند العديد من الاعمال التي تقدم في المعارض الجماعية او الفردية لاسماء معروفة وهذا يعني وصول الرسالة الابداعية بشكل خاص نتيجة لوضوح العنوان,, ويمكن لنا ان نضيف جانبا هاما عند هذا الفنان الرائد وهو انه له في كل عمل ايحاء وقضية مما جعل اعماله غير مكررة وتحمل ابعادا ادبية وثقافية اكثر منها لوحات جمالية (ديكورية) ورغم هذا التميز والخصوصية المعاصرة في اعماله والتي تحقق المنافسة العربية والعالمية الا ان نصيبها مازال قليل الحضور في المعارض والبيناليات او الترنيليات العربية والعالمية وهو سؤال يوجه للجهات المسؤولة عن المشاركة فيها.
التجربة اللونية
المتابع للفنان عبدالجبار اليحيا يمكن له الوقوف على حقيقة تتمثل في ان هذا الفنان مأسور بالوان الصحراء - الوان رمال وهضاب وجدران الطين في نجد وعلى امتداد الجزيرة العربية قليلا ما نرى الالوان الباردة او مظاهر المياه والخضرة وهنا يبرز لنا دور البحث والدراسة في اللون واعتباره عنصرا هاما للتعبير وان العمل الفني الاصل فيه الالوان لنجاح ابراز الفكرة وتجسيدها ولهذا كان للالوان الصحراوية الساخنة خصوصية في اعمال الفنان اليحيا واضفى عليها من خبراته ان سخرها لخدمة الموضوع - اذا لم يكن وجود اللون في أعماله لملء المساحة او لتغطية الفراغ - بل جاء حاملا معنى وبعدا انسانيا وفلسفيا تفرضه الفكرة ويجيده الفنان بمراس وتحكم قلّ ان نراه في العديد من الاعمال التشكيلية الاخرى اذا استطاع ان يعزف سمفونية لونية متوازنة.
**خلاصة:
ان الاساس الابداعي في تقنية العمل الفني عند اليحيا تعتبر اساسا حاذقا وذكيا لتجربته فكان لها ان شكلت القيمة الجمالية العامة لابداعه وخرج من تجربته الادائية والزمنية من الواقعية كمحور للانطلاق مرورا بالرمزية ثم الرمزية التجريدية تجعلنا نقف امام اشكالية جمالية ازلية مازال يحاكيها ويبحث عن زواياها الجديدة والمشرقة.
لقد جسد الفنان اليحيا المعاناة الانسانية وجسدالعلاقة بالارض والوطن والمرأة والواقع بكل عناصره مرورا بمراحل كثيرة شابها القلق الابداعي,, محافظا في كل محطة على اسس العمل الفني المتكامل.
** أخيراً
رسالة نوجهها للاحبة في الجهات المسؤولة عبر هذه الصفحة واستكمالا لهذه الاطلالة على واقع فنان ساهم ومازال يساهم بابداعه في مسيرة التشكيل المحلي بأن يعطى حقه من التكريم والتقدير المعنوي قبل غيره وان ترصد مسيرته الابداعية في معرض استعادي يقدم للاجيال الجديدة للتعرف على سابقيهم من اصحاب الخبرات ثقافة واداء.
|