في احدى الندوات العلمية الخاصة التي كان لي شرف حضورها دار نقاش علمي مركز حول واقع ومستقبل اسواق النفط العالمية ومدى قدرة منظمة الاوبك على فرض سيطرتها ونفوذها من جديد على هذه الاسواق, ولقد كان التساؤل الذي طرحه احد الزملاء ومفاده لماذا لاتقوم منظمة الدول المصدرة للنفط اوبك بما تمتلكه من قدرة انتاجية هائلة من فرض إرادتها الانتاجية والتسعيرية بغض النظر عن الاجتهادات الفردية التي يقوم بها بعض المنتجين من خارج المنظمة المنطلق الرئيس لهذا الحوار العلمي, الا انني اكتشفت ومن خلال هذا النقاش الحاجة الى مشاركة الآخرين في الطرح والتعرف على ابرز المتغيرات الاقتصادية والسياسية التي تتحكم وتؤثر في قوى السوق النفطية للتعرف في النهاية على مدى قدرة المنظمة على السيطرة على هذه المتغيرات وبالتالي على اسواق النفط العالمية، وعلى الرغم من تناولنا لهذه المتغيرات في مواطن مختلفة من مقالات سابقة مختلفة، الا انني أجد أن من المفيد تجميعها في مقال خاص حتى تترابط العناصر وتتضح الصورة بمكوناتها المترابطة, ويمكن ابراز أهم هذه المتغيرات في صورتها النظرية المبسطة على النحو التالي:
1- السعر والمرونة السعرية للطلب على النفط: وفقاً للنظرية الاقتصادية الجزئية، فان السعر يعتبر احد اهم المتغيرات التي تؤثر في الكمية المطلوبة من السلعة كما ان قانون الطلب ينص على ان العلاقة عكسية بين السعر والكمية المطلوبة فكلما ارتفع الثمن كلما قلت الكمية المطلوبة والعكس صحيح مع افتراض بقاء بقية العوامل المؤثرة في الكمية المطلوبة على حالها,كما ان استجابة الكمية المطلوبة للتغير في السعر تختلف تبعاً لدرجة المرونة السعرية للطلب على السلعة فكلما كانت درجة المرونة السعرية مرتفعة كلما كان للتغير في الثمن اثر كبيرعلى الكمية المطلوبة والعكس صحيح، السؤال الآن هو إلى اي مدى تستطيع المنظمة التحكم في السعر على المستوى الدولي؟ تاريخياً نستطيع ان نقول بان المنظمة قد لعبت هذا الدور خلال فترة السبعينيات وعلى اثر الحظر النفطي الذي فرض على الدول الرئيسية المساندة لاسرائيل, ولكنها فقدت سيطرتها على السعر منذ بداية الثمانينيات عندما لجأت الى التحكم في الانتاج كوسيلة للتأثير على اسواق النفط العالمية وكوسيلة لاحداث التأثير غير المباشر على السعر النفطي, اضف الى ذلك، فانه خلال فترة سيطرتها على السعر كانت المرونة السعرية للطلب على النفط منخفضة جداً نظراً لعدم وجود البديل المناسب ولعدم قدرة الدول المستهلكة على اتخاذ التدابير اللازمة للحد من استهلاكها النفطي خاصة في الاجل القصير الذي اعقب الارتفاع الهائل في اسعار النفط، اما في الوقت الحاضر فان المرونة السعرية للطلب على النفط قد تحسنت نتيجة لقدرة الدول الصناعية على ايجاد البديل القريب من الكامل للنفط في بعض الصناعات ونتيجة لقدرة الدول الصناعية على اكتشاف التكنولوجيا المناسبة التي حدت من الطلب على النفط بشكل عام، ولقد ساهمت الوكالة الدولية للطاقة التي تضم معظم الدول المستهلكة للنفط في مساعدة الدول الاعضاء على خفض حصة النفط بالنسبة لاجمالي الطاقة المستهلكة مما حسن من قدرتها على مواجهة التغيرات الطارئة في السعر النفطي، وبالتالي نستطيع ان نقول بان المنظمة لم تعد تسيطر على السعر كما كانت في المراحل الاولى من نشأتها كما ان المرونة السعرية للطلب على النفط قد تحسنت مما يعطي دلالة على ان الاستفادة المتوقعة من السعر المرتفع اصبح يقابلها خسارة متوقعة في الكمية المباعة من النفط وبالتالي فان الاثر المتوقع على الايراد الكلي للمنظمة لم يعد كما كان محسوما لمصلحة المنظمة.
2- الانتاج العالمي من النفط: خلال فترة السبعينيات كان معظم الانتاج والمعروض العالمي من النفط يأتي من ابار الدول الاعضاء في منظمة الاوبك وبالتالي كان لهذه الدول الوزن الاعلى على الساحة العالمية خاصة في مجال صناعة وانتاج وتسويق النفط، ولكن التغيرات الهيكلية التي شهدتها اسواق النفط العالمية خلال فترة السبعينيات وماتبعها من ارتفاع في أسعار النفط العالمية ساهمت وبشكل مؤثر في حفز الدول الاخرى من خارج المنظمة على التوسع في الاستثمارات النفطية مما زاد من وفرة النفط العالمي واضعف القوة النسبية للمنظمة حيث انخفضت حصتها في المعروض العالمي من النفط الى مايقارب 35%, وعليه نستطيع ان نقول بأن المنظمة لم تعد المسيطر الرئيس على اسواق النفط العالمية وان استمرت تلعب دور المؤثر القوي وبالتالي فان قدرتها على فرض ارادتها قد تضاءلت تبعا لهذا التغير الهيكلي.
3- الاحتياط العالمي من النفط: مما لاشك فيه فان القدرة المستقبلية على التأثير على اسواق النفط العالمية يعتمد اعتمادا مباشر على ماتمتلكه الدول المنتجة من الاحتياطي النفطي.
فكلما كان هذا الاحتياطي مرتفعا كلما كان التأثير المستقبلي مرتفعا والعكس صحيح, واذا نظرنا الى الاحصاءات المتعلقة بهذا المتغير نجد ان الدول الاعضاء في المنظمة تمتلك ميزة نسبية مستقبلية على سائر الدول المنتجة للنفط في العالم من خارج المنظمة التي من المتوقع نفاذ قدرتها الانتاجية خلال فترة لاتتجاوز 14 عاما في حالة الاستمرار على المستوى الحالي للانتاج.
4- القدرة الاستثمارية للدول المنتجة للنفط: لقد عاشت الدول المنتجة للنفط داخل المنظمة مرحلة ذهبية خلال فترة السبعينيات نتيجة لارتفاع عائداتها النفطية مما ساعدها على تحقيق معظم اهدافها التنموية بما فيها البنية الاساسية المتكاملة، ومما لاشك فيه فقد ساهم العائد المرتفع في زيادة قدرة هذه الدول على التوسع في استثماراتها الافقية والرأسية النفطية مما ساعدها على توسيع قاعدتها من الاحتياطي النفطي، ولكن دوام الحال من المحال حيث شهدت العائدات النفطية للدول الاعضاء في المنظمة انخفاضاً هائلا منذ منتصف الثمانينيات نتيجة لانخفاض اسعار النفط خاصة في ظل عجز هذه الدول عن تحقيق التنوع المطلوب في مصادر دخلها العام مماالقى بهذه الدول في مجال اقتصادي مظلم ابرز معالمه العجز المتنامي والسريع في الموازنات العامة, وعليه فان مقدرة دول المنظمة على التوسع في الاستثمارات النفطية قد شابها العجز النسبي مما دفع بهذه الدول الى الاستعانة بالشركات النفطية الكبرى التي تمتلك رأس المال اللازم والتكنولوجيا الكافية للقيام بدور الدول في هذا المجال، وهنا نستطيع ان نقول ان الدول الاعضاء في المنظمة قد بدأت تتنازل عن جزء نسبي من سيطرتها لصالح الشركات النفطية مما يوحي بعودة الدور الكبير والمؤثر للشركات النفطية الكبرى كما كان عليه الحال قبل نشأة المنظمة.
5- تكلفة الانتاج النفطي : مما لاشك فيه فان تكلفة انتاج البرميل الواحد من النفط تلعب دوراً كبير في تحديد المقدرة الانتاجية للدول المنتجة للنفط, فكلما كانت هذه التكلفة منخفضة كلما كان بمقدور الدولة المنتجة الانتاج عند المستويات المنخفضة للسعر السائد في السوق وكلما كان تأثرها بالتقلبات السعرية اقل نسبياً والعكس بالعكس صحيح, وهنا نشير الى ان هذا العامل او المتغير يلعب وبشكل واضح لصالح الدول الأعضاء في المنظمة لانخفاض متوسط تكلفتها الانتاجية بالمقارنة بالدول المنتجة للنفط من خارج المنظمة.
6- معدلات النمو في الدول المستهلكة والمرونة الداخلية للطلب على النفط: كلما كانت معدلات النمو في الدول المستهلكة للنفط مرتفعة كلما كان الطلب على النفط مرتفعا وكلما كانت هذه المعدلات منخفضة كلما كان الطلب على النفط منخفضاً, وبالتالي ونتيجة لهذه العلاقة الطردية فقد واجهت الدول الاعضاء في المنظمة طلباً متنامياً على النفط خلال فترة السبعينيات نتيجة لارتفاع معدلات النمو في الدول الصناعية مما ساعدها على فرض سيطرتها على السوق على الرغم من السعر المرتفع آنذاك, اما في الوقت الحاضر فان الدول الصناعية وشبه الصناعية تشتكي من ازمات اقتصادية ادت الى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي الى انخفاض الطلب على النفط خاصة في ظل ارتفاع المرونة الداخلية المقدرة للطلب على النفط، وعليه نستطيع ان نقول بان هذا المتغير لايخضع لسيطرة المنظمة ويلعب دوراً كبيراً في تحديد هوية اسواق النفط العالمية مما يوجب على ا لمنظمة اعطاء جانب الطلب اهمية نسبية قد تفوق تلك المعطاة لجانب العرض وعليها ان تتعايش مع هذا الواقع الجديد الذي لم تتعايش معه في فترة السبعينيات وبالتالي عليها ان تأخذه في الاعتبار عند رغبتها في اتخاذ اي سياسة مستقبلة لها علاقة باسواق النفط العالمية.
7- البديل الكامل او شبه الكامل للنفط: على الرغم من ان ارتفاع السعر خلال فترة السبعينيات قد ساهم في حفز الدول الصناعية المستهلكة للنفط للبحث عن بديل مناسب للنفط ليحل محله او يشاركه الاهمية النسبية ضمن مصادر الطاقة المختلفة، الا ان هذه الجهود قد باءت بالفشل النسبي حيث لم تفلح الجهود في الحصول على بديل كامل Perfect Subsitute للنفط علىالرغم من قدرتها على ايجاد شبه بدائل مختلفة كالفحم ونحوه.
وهذا يعني ان النفط سيستمر المصدر الرئيس للطاقة مما يعطي الدول الاعضاء في المنظمة الافضلية المستقبلية لما تمتلكه من احتياطي نفطي مرتفع.
8- الاوضاع الاقتصادية في الدول المنتجة للنفط من داخل وخارج المنظمة وخارج المنظمة: فكلما كانت هذه الاوضاع جيدة كلما كانت الدول المنتجة على استعداد لتنفيذ السياسات النفطية الجماعية وكلما كانت هذه الاوضاع متردية كلما كانت تكلفة التقيد بالسياسات والاتفاقات النفطية الجماعية مرتفعة, وعليه فان الاوضاع الاقتصادية التي تعيشها الدول المنتجة للنفط والتي يمكن قياسها بمعدلات النمو الاقتصادي أو حجم الفائض في الموزانة العامة تلعب دوراً كبيراً في تحديد هوية السوق النفطية, ولعل التجاوزات السريعة (الخفية والمعلنة) للحصص الانتاجية في الوقت الحاضر تعطينا قناعة بصعوبة التنسيق بين الدول التي تعيش في زاوية ضيقة حدودها المصاعب الاقتصادية والمخاطر السياسية المحلية والاقليمية.
9- العوالم السياسية ذات العلاقة: مما لاشك فيه فان النفط بما له من اهمية على المستوى العالمي يعتبر سلعة ذات وجهين احدهما اقتصادي والآخر سياسي, وهذا يعني ان العوامل الاقتصادية لا يمكن ان تكون المحدد الرئيس لوضعية هذه السلعة في السوق اذ يجب اخذ المتغيرات السياسية في الاعتبار, ولعل ابرز هذه المتغيرات السياسية كالآتي:
* ضعف النفوذ السياسي للدول الاعضاء في المنظمة على الساحة الدولية .
* قوة النفوذ السياسي للدول المستهلكة للنفط.
*صراع بسط النفوذ السياسي المرتبط بالتنافس الاقتصادي بين الدول المستهلكة للنفط التي تختلف نظرتها للمقبول في سوق النفط العالمية تبعاً لنسبة اعتمادها واعتماد منافسيها على النفط المستورد (الولايات المتحدة الامريكية، اليابان، المانيا، روسيا، المملكة المتحدة)
* حالة التوافق وعدم التوافق السياسي بين الدول الاعضاء في المنظمة حيث تؤدي حالة التوافق السياسي الى تسهيل تنسيق السياسات الاقتصادية بما فيها النفطية بين الدول الاعضاء بينما تؤدي حالة عدم التوافق الى صعوبة التنسيق وربما الى الحرب الخفية ذات الاسلحة الاقتصادية, ولعل ما شهدته المنظمة خلال حربي الخليج دليل قاطع على اهمية هذا العنصر في رسم ودقة تنفيذ سياسات واتفاقات المنظمة.
بعد هذا العرض المفصل لأهم المتغيرات الاقتصادية والسياسية المؤثرة في اسواق النفط العالمية، يمكن لنا صياغة العلاقة بين المتغيرات السابقة او احتمال فرض السيطرة على النحو التالي:
1- العلاقة طردية بين السيطرة وحصة المنظمة من المعروض العالمي من النفط وبالتالي فان المنظمة تمتلك حظاً مستقبلياً في اسواق النفط العالمية.
2- العلاقة طردية بين السيطرة وحصة المنظمة من احتياط النفط العالمي وبالتالي فان المنظمة تمتلك حظا مستقبليا في اسواق النفط العالمية.
3- العلاقة طردية بين السيطرة والقدرة على التوسع في الاستثمارات النفطية وبالتالي فان دول المنظمة تشتكي من عجز مالي وفني لتحقيق التوسع المطلوب مما يعني ضعف سيطرتها المستقبلية على اسواق النفط العالمية نتيجة لمشاركة الشركات الاجنبية لها في صناعة القرار النفطي.
4- العلاقة عكسية بين تكلفة الانتاج النفطي والسيطرة مما يعطي المنظمة ميزة نسبية على المنتجين من خارج المنظمة.
5- العلاقة طردية بين معدلات النمو في الدول الصناعية والسيطرة مما يضعف من موقف المنظمة نتيجة لانخفاض هذه المعدلات في الوقت الحاضر.
6- العلاقة طردية بين السيطرة ومعدلات النمو في الدول الاعضاء في المنظمة مما يعني ضعف سيطرة المنظمة نتيجة لانخفاض المعدلات الحالية للدول الاعضاء وبالتالي صعوبة التنسيق بين هذه الدول.
7- العلاقة طردية بين السيطرة وحصه النفط في استهلاك الطاقة العالمي وبالتالي فان ارتفاع هذه الحصة في الحاضر والمستقبل يعطي المنظمة بما لديها من احتياط نفطي كبير ميزة نسبية مستقبلية.
8- العلاقة طردية بين حالة التوافق السياسي والسيطرة وبالتالي فان الاوضاع السياسية بين الدول الاعضاء في الوقت الحاضر قد اضعفت موقف المنظمة, ربما تستطيع المنظمة تبديل هذه الحالة بعد التقارب السعودي الايراني وبعد ان تعود الاوضاع الى طبيعتها في العراق الشقيق.
وعليه نستطيع القول بان المتغيرات المستقبلية تلعب في صالح المنظمة بينما المتغيرات الحالية تلعب ضدها وبالتالي فان المستقبل ربما يكون مشرقاً شريطة اخذ المتغير السياسي الهام في الاعتبار عند الرغبة في صياغة القرار الاقتصادي حتى تتلافي الاخطاء التي خلفتها تجربة السعر المرتفع في السبعينيات.
* استاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الامنية 23/12/1419ه
|