عزيزتي الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
يقول الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) ومن مظاهر كمال هذا الدين وشموليته انه كلما أفرزت المدنيات الحديثة أمراً إيجابيا في المعاملات الانسانية نجد ان ديننا الحنيف قد دعا اليه قبل اربعة عشر قرنا, وما أكثر الامثلة على ذلك ولكن سأتحدث هنا عن احدها الا وهو رعاية المسنين ولعل ما دعاني الى الكتابة في هذا الموضوع هو ذلك المعنى الذي جعلته منظمة الصحة العالمية شعاراً ليوم الصحة العالمي لهذا العام وهو (مواصلة المسنين لنشاطهم ضمان لصحتهم).
فلقد حظي المسن في الاسلام برعاية لم يحظ بها غيره من المسنين في اي حضارة اخرى على مر العصور.
وكلمة المسن في اللغة تعني الرجل الكبير ولذلك يقال أسن الرجل إذا كبر, وفي الاصطلاح هو كل فرد اصبح عاجزاً عن رعاية وخدمة نفسه إثر تقدمه في العمر وليس بسبب اعاقة او شبهها وان كانت بعض المنظمات الدولية تعرفه تعريفا اجرائيا تسهيلا للتعامل فتقول المسن هو (من تجاوز عمره الستين عاما).
وما أكثر التغيرات التي تصاحب تقدم الانسان في العمر فمن الناحية الجسمية نلاحظ على المسن تجعد الجلد وثقل السمع وضعف البصر بل وضعف الحواس بشكل عام كما يلاحظ عليه ايضا تغير لون الشعر وبطء الحركة,,, الخ, وهذه جميعها تغيرات جسمية مرئية اما التغيرات الجسمية غير المرئية فمنها ارتفاع ضغط الدم والاصابة بمرض السكر والضعف الجنسي، وغيره من الامراض غير المرئية.
وأما التغيرات الاجتماعية فمنها ضيق دائرة العلاقات الاجتماعية حيث تقتصر هذه العلاقات على الاصدقاء والقريبين من المسكن وذلك راجع الى صعوبة التنقل ومنها ايضا الفراغ ولا يخفى على احد آثاره السيئة المعروفة.
وأما التغيرات النفسية فهي ناتجة عن التغيرات الاجتماعية ان صح لي التعبير ومن اهم مظاهرها القلق والخوف والاكتئاب وتوهم المرض والاعجاب بالماضي وتزعزع الثقة في الآخرين.
وأما التغيرات العقلية فمن أبرز مظاهرها النسيان وضعف الذاكرة وضعف القدرة على الادراك والتعلم.
وأما التغيرات الاقتصادية فتتمثل في انخفاض الدخل نتيجة للتقاعد ولصعوبة الانتاج وكذلك نتيجة لزيادة الانفاق وخصوصا على الناحية الصحية غالبا.
ورعاية المسنين في الاسلام تقوم على العديد من المرتكزات وتنطلق منها جميع اوجه رعاية الاسلام لهم ومن اهم هذه المرتكزات تكريم الاسلام للانسان ومنحه المكانة المرموقة ولا ادل على ذلك من سجود الاكرام والاحترام الذي سجدته الملائكة لآدم عليه السلام قال تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهذا التكريم يدخل في نطاقه المسن كغيره من بني البشر.
وثاني هذه المرتكزات تراحم وتماسك المجتمع الاسلامي يقول تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
ويقول صلى الله عليه وسلم: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى .
فهذا التراحم الذي يعيشه المجتمع الاسلامي يقطف ثماره جميع ابنائه بما فيهم المسنون.
وثالث هذه المرتكزات المكانة التي ينالها المؤمن المسن عند الله حيث لا يزاد له في عمره إلا كان خيراً له يقول صلى الله عليه وسلم: لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل ان يأتيه إنه إذا مات احدكم انقطع عمله وانه لايزيد المؤمن عمره إلا خيراً كما قال ألا أنبئكم بخياركم قالوا بلى يا رسول الله قال خياركم أطولكم أعماراً إذا سددوا .
ورابع هذه المرتكزات ان احترام الكبير وتوقيره واكرامه سمة من سمات المجتمع المسلم قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا .
ومن هذه المرتكزات - أيضا - وجوب تقديم الرعاية الشاملة للمسنين من قبل الدولة ونحن والحمد لله ابناء هذا الوطن نحظى برعاية دولتنا الكريمة، بل يحظى بها جميع العرب والمسلمين سواء أكانت هذه الرعاية صحية أم اقتصادية أم اجتماعية,,, الخ.
وما ذلك إلا من اكرام الله سبحانه وتعالى لهذه البلاد بأن قيض لها هذه الحكومة الرشيدة التي لا تألو جهدا في تقديم العون لجميع المسلمين, ومن هذا المنطلق حظي المسن في المملكة العربية السعودية برعاية لم يحظ بها مثله في بلد آخر حيث وفرت له المستشفيات ودور الرعاية ورصدت لذلك الطاقات المادية والبشرية فجزى الله حكومتنا خير الجزاء.
وتتجلى رعاية الاسلام للمسنين في العديد من الصور ومنها دعوة الاسلام إلى رعاية الوالدين وهي مظهر من مظاهر رعاية المسنين فالاسلام أوصى برعاية الوالدين وجعل الاحسان لهما قرين عبادته قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا), وبما ان الوالدين في الغالب مسنان فإن اهتمام الاسلام بهما صورة من صور الاهتمام بالمسنين.
ومن صور رعاية المسن في الاسلام دعوة الاسلام إلى رعاية صديق الوالدين وهو من باب بر الوالدين بعد وفاتهما قال صلى الله عليه وسلم: من البر ان تصل صديق أبيك ومما لاشك فيه ان صديق الوالدين يكون في الغالبية مسنا وبذلك فإن المسلم حين يصل صديق والديه فإنه يقوم بجانب بره بوالديه برعاية مسن في المجتمع.
ومن هذه الصور ايضا - الاهتمام بالمسنين في المجتمع الاسلامي ورعايتهم حيث يحظى المسن بمكانة مرموقة في المجتمع الاسلامي ومنطلق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ومما يدل على اهتمام الاسلام بالمسن واحترامه جعله المقدم في السلام يقول صلى الله عليه وسلم: يسلم الصغير على الكبير وإلقاء الصغير للسلام اولاً يدل على احترام الكبير ولاشك, بل وفي الكلام ايضا أُمر الصغير بفسح المجال للكبير, وكذلك في الشرب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتقديمه للاكابر ففي الحديث انه إذا سقي صلى الله عليه وسلم قال: ابدؤوا بالكبراء أو قال الاكابر .
وكعادتهم رضوان الله عليهم سار الصحابة على نهج رسولهم في اكرام المسن وتطبع افراد المجتمع المسلم على هذا الخلق الكريم ومن هذا المنطلق عاش المسن في المجتمع الاسلامي في كنف افراده وحظي بمعاملة خاصة تميزه عن الآخرين بل حظي بهذه الرعاية المسن غير المسلم ولا أدل على ذلك من موقف الفاروق رضي الله عنه مع اليهودي الذي رآه يسأل وكان ضريراً فقال عمر لمسؤول بيت المال انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إذا اكلنا شييبته ثم نخذله عند الهرم وقرأ (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) وأمر بوضع الجزية عنه وعن أمثاله، وفي الوقت الذي يحظى فيه المسن المسلم بهذه الرعاية من قبل المجتمع نجد المسن في الحضارات الاخرى يعيش في حالة متردية, يقول احد الفلاسفة أفلاطون ان العناية يجب ان توجه إلى اصحاب الاجسام السوية والعقول القوية وأما ما عداهم فيهملون ليكون نصيبهم الموت ,, وما هذا إلا مثل واحد من الامثلة الكثيرة على ذلك.
ومن صور رعاية المسنين في الاسلام رعايتهم في الحروب من قبل الجيوش الاسلامية وان كانت اتفاقية جنيف عام 1949م قد نادت بحسن معاملة جرحى وأسرى الحروب وحماية المدنيين فإن الاسلام ذلك الدين الشامل والكامل والصالح لكل زمان ومكان قد نادى بكل هذا قبل اربعة عشر قرنا, ويتمثل ذلك في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة للجيوش الاسلامية ووصايا خلفائه من بعده تلك الوصايا التي تنادي بوجوب العناية بالشيوخ وكبار السن والاطفال وعدم قتلهم او التعرض لهم, روى الطبراني عن سليمان عن بريدة عن أبيه قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا أو سرية دعا صاحبهم فأمره ومن معه بتقوى الله وأمره بمن معه من المسلمين خيراً ثم قال فيما قال: ,, ولا تقتلوا وليداً ولا شيخا كبيراً .
كذلك نجد ان الاسلام رخص للمسلمين في بعض العبادات وسهل عليهم بعض الاحكام الفقهية كإفطار رمضان والإنابة في الحج.
وبعد كل هذا نحمد الله سبحانه وتعالى ان هدانا إلى نعمة الاسلام,, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهد العتيبي
معيد بقسم التاريخ - جامعة الإمام - القصيم
المرجع :
* عبدالله ناصر السدحان - رعاية المسنين في الإسلام.