يقال في الحكاية الشعبية بينما كانت النملة تمضي جل وقتها في جمع الزاد لمخزونها الشتوي، كان الصرصور يتسكع طرباً بين الحقول ويستمتع بالهواء العليل وينظم القصائد التي تصور بهجته وسروره وباله الهانىء الخالي من الهموم والمسؤوليات.
ولكن مع حلول الشتاء ذلك الفصل المتطلب المتجهم التجأت النملة الى مخزونها الذي كانت تجمعه طوال العام ولتستمتع بفصل دافىء استعدت له طويلاً بينما كاد الصرصور يموت جوعاً على قارعة الطريق لافتقاده الزاد والمأوى، مما اضطره الأمر إلى اللجوء الى النملة التي وجدتها فرصة مناسبة لتلومه على سلوكه اللامبالي واللامسؤول فقالت له قولتها الشهيرة التي ذهبت مثلاً ألهتك القصائد عن لقط الحصايد).
والوجدان الشعبي الذي أطلق هذه الحكاية التي اختتمها بهذا المثل يجعل من الشعر والفن مهنة العابثين اللامبالين والذين ينهزمون أمام التحديات المصيرية التي تحدق بهم، اي ان هناك خطا صريحا وواضحا يقطع ما بين الجميل والنافع, فعلى حين ان الجميل يأتي كنوع من الترف والرفاهية، ذلك الترف الذي لا يتواءم مع النافع كالنافع الذي يمنح اولويات الحياة، يمنح الغذاء والمأوى، الذي بدونهما لن تكون حياة, ولعل طبيعة البيئة التي انتجت مثل هذه الخرافة المختومة بالمثل، تشي بقسوة الصراع مع الظروف الطبيعية التي كانت تحيط بالأفراد، حيث يصبح الهاجس الوحيد والأهم هو تحقيق اولويات الحياة والتغلب على قسوة الطبيعة وشح مواردها وليس هناك من كبير مساحة للفن على وجه الهموم والشعر خاصة.
لذا عموماً فإن الفنون تزدهر في البيئة التي حققت نوعا من الاكتفاء والاستقرار على مستوى المتطلب اليومي وبالتالي ينتقل الفرد الى مرحلة أكثر تعقيدا وسمواً في التعبير عن علاقته بنفسه، ومحيطه وفلسفة هذه العلاقة ووضعها في أطر مختلفة قد يكون منها الشعر.
لذا فهذه النظرة الدونية للشعر قد لا تتوافق مع ذلك الارث الضخم الذي تمتلكه الذاكرة الشعرية في حضارتنا.
ذلك الارث الذي يجعل القصيدة نداً وصنواً (للسيف والرمح والقرطاس والقلم).
وحيث تتحول القصيدة الى سجل تاريخي حافل توازي في اهميتها الرصد التاريخي بل توثقه وتدعمه.
ولعله الناقد (الأصمعي) الذي قال (لولا الشعر لضاع ثلثا كلام العرب.
هذا جميعه يأتي بموازاة قصة (الحصايد والقصايد) لنصل منه ان في المنعطفات التاريخية وفي مراحل الهزائم والتخلف والكبوات فإن القصيدة بدورها تتقهقر وتنتقل الى الصفوف الخلفية من الحياة ويتقدم عنها الصراع من اجل الوجود والعيش.
لذا فمقياس تقدم الشعوب واهم علامات رقيها وتحضرها هو ازدهار فنونها وتألقها ذلك الازدهار الذي يتجاوز ميكانيكية الصراع البيولوجي من اجل البقاء الى مناطق اسمى وأكثر علواً وازدهاراً من مناطق تعنى بأسئلة الكون الكبرى وحيث المناطق السامية التي يقطنها الشعر.
على اعتبار ان الشعر هو أرقى ماحققه البشر من أنواع الكلام.
أميمة الخميس