Sunday 18th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 2 محرم


مستويات الدلالة في لؤلؤة المساء الصعب للشاعرة لطيفة قاري
عبدالله السمطي

ثالثها: لا تسعى الشاعرة إلى الحفاظ على بنية دوالها الاثيرة، ولا تقوى على فعل ذلك، لانها لا تقوم بصنع نطاقات ابتكارية دالة، وإنما تهجس فحسب بهذه النطاقات المعنوية المعهودة.
رابعها: إن الوعي المنبثق من ظلال الدوال قد يشكل للشاعرة خطوة مبدئية صوب التمكن، وغواية الحرف/ الدال، وقد يدفعها إلى التشكيل، وهو ما لم تقم به الشاعرة، لانها تهتم بالاساس بنقل معنى الدال، لا صورته او جوهره اللفظي المتعدد.
خامسها: ثمة نصوص تحتفي بدال واحد، تقوم باستقصائه، ونسج الدلالات حوله، ويبتدئ, ذلك على سبيل المثال في نصين هما: صحراء ، والليل حيث نجد ان هذين الدالين هما المهيمنان على القصد النصي,, حيث تتأدى العبارات الشعرية في شكل نسقي متراتب يُستقصى فيه الدالان، ليعبرا عن اقصى طاقتهما اللفظية والمعنوية.
وإذا كانت القافية من الدوال المهمة جدا في صياغة العبارة الشعرية، لانها تقع في منطقة قرائية مشعة، من حيث انها تمثل خاتمة للعبارة او للسطر الشعري او للمقطع الشعري من جهة، وتعطي للنص بعده الموسيقى من جهة ثانية، او انها تلعب دورا بارزا في صنع غنائية النص الشعري بتكرارها المنتظم او غير المنتظم - فيما يقول د, صلاح فضل: إذ يتبين ان من اهم وظائفها: إبراز الخطورة الدلالية لبعض الكلمات، وتسوير حدود الجملة الشعرية في احيان كثيرة, فإذا ما جاءت القافية بشكل اختياري متحرر من ضغوط القالب التقليدي - كما هو الحال لدينا في شعر التفعيلة، مثلا - لم تكن مجرد تنشيط للتيار الغنائي في القصيدة، وإسهام في تحديد ايقاعها الخارجي المتنوع، بل تجاوزت ذلك الى وظيفة دلالية هي تحديد مركز الثقل بين الدوال، بما تعقده من مسافات زمنية تسهم في تكوين البنية الايقاعية المرتبطة - كما ينبغي ألا نمل من التكرار - بالبنية الدلالية العامة للقصيدة (4) .
وإذا ما استعرضنا بعض القوافي في بعض نصوص الديوان، فسنجد ان الشاعرة تستثمر القوافي فيما هو ايقاعي بالدرجة الاولى، ولا تثبت هذه القوافي - بوصفها حدوداً للجملة الشعرية - كصيغ دلالية متميزة لها وهجها المفارق داخل النصوص,نلمس ذلك في النص الاول (احتمالات اخرى لها)، حيث تتواتر القوافي بشكل متتابع - لا متباعد - في الاسطر الشعرية، ولأن النص قصير، وعباراته الشعرية قصيرة جدا فقد برز الصوت الايقاعي للقافية بشكل واضح (الكلام/ الغرام)، (الزجاج/ السياج)، (المحار/ الغبار)، (النهار/ وطار).
وفي نص (أيهما أنا) تتنوع القوافي، ما بين قواف رئيسية، وقواف ثانوية فرعية فالقوافي الرئيسية تشمل النص كله من اوله لآخره، فيما تتوارى هذه القوافي الثانوية خلف بعض التعبيرات الداخلية، وهي قواف متوقعة لا ابتكار فيها من لدن الشاعرة، ومألوفة في مشهدنا الشعري العربي خاصة هذه القافية النونية (جنوني/ ظنوني/ عيوني/ يقيني/ سكوني) ولو ان الشاعرة طاردت بعض مخيلتها لابتكرت قوافي اخر نونية، ولو انها فارقت هذا الحصار الايقاعي الذي فرضته تفعيلة المتقارب حيث جاءت القافية على قدر التفعيلة بالضبط، لا تسع مجال القافية، وتغير هذا الشكل الرتيب، واتسع ايضا نطاق الدال وتعددت مستوياته, أليس في المعجم العربي سوى هذه الكلمات، هذه القوافي المألوفة المتكررة؟؟
الامر نفسه يتكرر في (ضفاف القرى) في القافية الرائية (الذرا/ لا يرى/ السرى الثرى/ القرى) وفي (أحبك) (مش الغزالة) حيث: القبل/ العسل/ الخجل)، وفي (سيف الارق): الأفق / الشفق/ الارق، وفي نص (الليل): التراب/ العذاب/ السراب/ العتاب/ الكتاب,, القوافي مألوفة جداً، ومتوقعة، ولا تمثل نتوءا دلاليا للعبارة الشعرية وذلك لعدة اسباب:
أولا : احتفاء الشاعرة بما هو ايقاعي، وعلو صوت الايقاع الوزني في نصوص الديوان.
ثانيا: تقارب القوافي بشكل شديد إلى درجة التماس في معظم النصوص,, هذا التقارب من شأنه ان يقيد حركة العبارة الشعرية ويشغل انتباه المتلقي بالناحية الغنائية للنص، لا بالناحية الدلالية.
ثالثا: مألوفية القوافي وتكرارها في الشعرية العربية، وبالتالي لا تمثل نتودءا دلاليا بارزا، او تمثل اسلوبا مامميزا لطريقة الاداء الشعري.
رابعا: هيمنة صوت التفعيلة على معظم النصوص، وامتدت هذه التفعيلة إلى القافية حيث تجئ القافية على قدر التفعيلة، ولا تتوزع مثلا على كلمتين، او حتى تكون كلمة على تفعيلة او تفعيلتين,, وهذا صنع نوعا من الرتابة المألوفة خاصة في تفعيلتي المتدارك، والمتقارب.
هكذا فإن حركة الدال عند الشاعرة لم تستثمر شعريا بشكل فعال، ولم تقم الشاعرة باستقصاء دوالها، وإقامة علاقات دلالية جديدة متشابكة إلا بالنزر اليسير في بعض النصوص القصيرة وفي نص (إن جُنّت الاحلام) الذي تعارض به قصيدة للشاعر اليمني (أحمد العواضي) حتى على نطاق القافية تأتي الدوال بشكل معهود، لا تجريبية فيه او مغامرة، او كشف، بل ترداد، وتكرار، واجترار لما هو متوقع ومألوف,, لذا فإن نطاق الدال جاء محاصرا وجاء ضيقا، ولم يقدم في الديوان على الوجه الامثل.
* قراءة المعنى:
إن البحث عن المعنى داخل النص الادبي الشعري لا يتوخى بالضرورة البحث عما هو مترادف، او القيام بعملية اعادة كتابة النص نثرا، ليس هذا هو المقصود من قراءة النص الشعري، وإنما القصد هو السعي إلى الوصول لكيفية تكوين هذا المعنى والقيم الدلالية والرمزية والثقافية والجمالية التي تنطوي عليها الابنية النصية، من هنا فإن التعدد في المعنى الذي ينجم عن اي نص شعري فعال: هو تعدد إيجابي، حين ينتج هذا المعنى او ذاك ضمن قراءات متعددة للنص، والنص الشعري الذي يعطي للقارئ تعدداً في معانيه، ووفرة دلالية في مغازيه هو نص - بالضرورة - يحمل قيمة ما متميزة وسط سياقه الشعري والجمالي بوجه عام,, على انه ينبغي لنا ان نأخذ في الاعتبار ان التعدد التفسيري لا يفقر النص وإنما يثريه، ويكشف عن آفاقه وابعاده في سياق الثقافة المتغير، ويفضي هذا التعدد إلى ان النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيا يأخذ شكل بعد واحد ومطلق، إذ النص لا وجود له بمعزل عن المركبات الذاتية للقراء (5) .
من هنا فإن النظر إلى لؤلؤة المساء الصعب يرتهن بالاساس إلى فاعلية القراءة المنتجة، ويجعلنا نتخلى قليلا عما هو سابق في الذاكرة من كون ان هذه النصوص تقع في المنطقة التعبيرية الرومانتيكية المألوفة,, فعند لطيفة قاري ما يمكن موضعته في افق تعددي للمعنى، خاصة في النصوص التي تتخلى فيها عن التقرير، وتجنح إلى الانشاء وإلى التجريد والتكثيف، لما لهذه الفواعل التقنية من اثر في تنمية الطبقات النصية وتراكمها,, ولعل المعنى الاول الذي يمكن ان يبادرنا حيال قراءة نصوص الديوان هو التوكيد على حضور (الانا) الشاعرة، التي تشغلها اشكالات الكتابة والبوح الذاتي، والتعبير الخصوصي والعلاقة بالعبارة الشعرية والتصميم على انتاجها، تمايزا وسط السياق، وافتتانا بالاداء الشعري,, فحين تنشطر الذات الشاعرة في نص أيهما انا تعبر الشاعرة عن هذأ الحنين وهذا التوحد ما بين الأنا التي تفضح مكنوناتها القصيدة، وبين الأنا العادية التي لا تنشغل بهم ما او بحياة جمالية ما,,، من هنا يحيء المشهد محملا بالتعبير الموصل إلى القارئ دلالته من اقصر طريق، طريق المعنى الاول:
يروعني خدر في العبارة
هذا الخدر يجعل الأنا تدخل في نطاق جمالي مغير، وفي نطاق حلمي/ عفوي تغيب فيه قليلا عن وعيها الحياتي المعيش - إذا صح التعبير - تغيب لكي تكتب ذاتها، وتضيء مكامنها وطواياها.
وتتواتر الأنا في الديوان بشكل كثيف، يهيمن على توجه العبارات الشعرية، وتوجه معظم النصوص,, ويتجلى هذا التواتر في ذكر الأنا مباشرة:
- أنا ما صنعت يوما بعيني غريب.
- أنا ما صغت يوما لقلبي أساور.
أو تجيء مضمنة مضمرة في بعض الضمائر، او في بعض الحروف مثل ياء المتكلم او تاء الفاعل، او في همزة المضارعة:
ما كنت اعلم ان في كفي مفاتيح العذاب
وحين قرأت في سفر البلادِ
بأن في جوف الحجارة لؤلؤاً ,,في الارض نبع دمٍ
وحدائق الشهداء لا يجتاحها ندمٌ ولا عدمٌ
خلعت كآبتي
وطفقت اخصف من عيون الملح
أسراب الطيور
وأوزع الاقلام والتاريخ والحبر الطهور
وأضمخ الارض البتول
بطيب انفاق البخور, (ص48).
المقطع من نص (سفر الكلام) وهو من النصوص التعبيرية التي تحمل داخلها قيما وطنية مثلى، صاغتها الشاعرة في قالب رمزي وضيء، وصعدت فيه من حضور الأنا، هذه الأنا المعذبة التي في كفيها مفاتيح العذاب، ومفاتيح الجهاد أيضا، كأن طريق الجهاد يبدأ بالعذاب الذي يفارق هذا السلام الصارخ المصطنع، هنا يعلو صوت الأنا المفارقة التي تفارق واقعها، وزيف خطبه، وجنوده الاستعراضية، تفارقه الى حيث ينتفض الرماد:
الآن ينتفض الرماد ,,وينفض التاريخ عن كتفيّ
لا تاريخ إلا ما يسطره الرصاص على جدار الحرف
لا تاريخ إلا ما تباركه الجياد (ص50).
وتتمثل الأنا لحضور الآخر، وتصبح الحوارية نطاقا معنويا آخر، يتكرر بشكل بين في نصوص الديوان، حيث تتوارى الاشارات الصوتية، ويصبح صوت الانا/ الآخر كأنه صوت واحد، كما في نصوص: (ايهما أنا، قرنفلة، احبك رمش الغزالة، الليل، الممر، ضحاها الذي، البشارة، قل ما تريد).
ففي نص: (قل ما تريد) - مثلا - يتمحور المعنى في هذه العلاقة المشبوبة بين العاشقين حيث يصور النص اطراف هذه العلاقة، ويعفّي قليلا على تفاصيلها، الأنا والآخر/ الحلم,, الحلم الذي يتكرر ليخترق زمنه الحاضر إلى ازمنة بعيدة، تستحضر من الموروث هذه العلائق العاطفية المأساوية، التي ينكسر فيها الحلم، ويتوارى جماله فيبدأ الحوار بعنوان النص الذي يحمل فعلا للامر يتطلب حضور (الآخر) او حتى غيابه، هذا الآخر الذي يحكي ويحكي معاتبا محبوبته، او شاكيا لرفيقه، ويبقى الصوت الاساس في القصيدة هو صوت العاشق الذي يبقى مسافرا دوما باحثا عن لؤلؤته العاطفية:
دار الهوى
مثل الصباحات التي دارت بأحداق المكان
دارت كأنفاس الدخان
هل في يديك اصابع تكفي ليشتعل التراب
هل في يدي اصابع تكفي ليشتعل الجواب؟ (ص,ص80:81).
ان البنى المعنوية الاخرى التي تتواتر في النصوص تتمثل في التعبير عن الكتابة، وعن الانشغال بالقصيدة، والتعبير عن افق المكان، وعن بعض تفاصيل الوطن، حيث يتكرر - وبشكل احاليّ - مشهد المأساة التي يهوي إليها الواقع، الذي اصبح التشظي سمته الاولى,, هنا,, تصبح الذات الشاعرة في وضع المراقب، وفي وضع الراصد المتأمل الذي يسعى إلى عبور لحظته الواقعية الى لحظات اخرى من الحلم، والتفعيل الايجابي الذي ينتج ابنية تعبيرية تسعى للتمايز من خلال المألوف التصويري، من خلال الاختيار المعجمي المتواتر المتتابع، ومن خلال نسج الصوت الشعري الذي تعبر فيه الأنا عن رؤاها، ومواجيدها، وتبحث فيه عن لؤلؤتها الخاصة: لؤلؤة المساء الصعب.
لقد قدمت لطيفة قاري ديوانا يسعى ويصبو لابتكار خصوصياته، لكن هذا السعي يجيء من خلال حقل شعري معهود، قد تخرج منه الشاعرة حينا فيصبح لها تمايزها - خاصة في النصوص الشعرية القصيرة - وقد تتضامن مع هذا الحقل فتجيء التعبيرات مكررة، استطرادية، او تجيء المعاني معاني اول لا تنحرف فيها الشاعرة جماليا إلا بمقدار,, لكن جوهر اللؤلؤة، جوهر القصيدة يبقى رهين النظرات القادمة، والخبرات القادمة,, التي بلاشك ستكون اكثر انشائية وأكثر رمزية وأكثر خصوبة ولمعانا ووميضا.
إشارات :
1- لطيفة قاري: لؤلؤة المساء الصعب - مؤسسة الانتشار العربي، لندن: بيروت، الطبعة الاولى 1998م.
2- بيار غيرو: علم الدلالة - ترجمة: انطوان ابو زيد، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الاولى 1986م ص,ص49:50.
3- عبدالعزيز بن عرفة: الدال والاستبدال - دار الحوار للنشر، سورية الطبعة الاولى 1993م ص9.
4- د, صلاح فضل: أساليب الشعرية المعاصرة - سلسلة كتابات نقدية - الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة ص,ص37،38.
5- د, عاطف جودة نصر: النص الشعري ومشكلات التفسير، مكتبة الشباب، القاهرة، الطبعة الاولى 1989م ص138.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
حوار
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved