على الانسان ان يتوخى الحذر في كل ما يقرأ أو يكتب ، ليس لأن تلك شيمة العقلاء وإنما طلبا لسلامة العقل فيما يقرأ، وأمن الضمير فيما يكتب، وهو درس اخيرت تقدمه لنا الحياة الثقافية العربية لم تعد تملك قدرة البذل على درس سواه,,!
كذا اردت ان تكون الجملة الاولى في هذه الكتابة مقوسة بعلامات التنصيص لا من اجل ان تثبت في صياغة نصية لحكمة، بل - احترازاً - لكي يمكن الرجوع إليها نصا لم يستهدف ادنى شيء بخلاف التعبير اللغوي الاعتيادي عن هذا الخوف بعد عشرين سنة اوأقل، حيث ستكون برامج الفهرسة في أجهزة الحاسب قد استخرجت منها حشدا من المصطلحات من مثل الحذرية والتوخي ،التوخية القرائية والحذرية الكتابية والحذرية الانسانية وغيرها، وسيكون إلى جوارها عشرات المصطلحات التي تمت صياغتها في مقاربة أو معاكسة للمعنى في كل منها من مثل: العكوفية والعزوفية والانهزامية والنكوصية والتبدلية والارتجاعية , يضاف إليها الكف والقطع والارتداد والانسحاب والتراجع والكسر والتبدل وألف مصطلح ولن يكون ذلك خرقا متجاوزاً في استخدام اللغة آنذاك فما نراه ونعيشه اليوم يكفل لهذا الخرق مشروعيته، بل قد يصفه بالاصالة والتجذر في تاسسه على ما تدفع به حياتنا الثقافية العربية الآن بقوة وحيوية من اشكال سك المصطلحات، هذا حقيقة هو المنجز الاهم للدراسات الالسنية، التي لم تجد سبيلا الى اثبات الذات إلا بأن امسكت بتلابيب اللغة وراحت تجرد كل كملة من طبيعتها كمفردة، اداء اشارية لا تحتشد بدلالتها إلا بإطار مرجعي لا يتجدد إلا في ظل سياق كامل من جملة، تمنحها صفتها الجديدة كمصطلح ,, كذا اصبحت كل مفردة في المعجم العربي هي مصطلح في السوق اللغوي، بفتح اللام من اللغولا اللغة!
هذه دراسة هامة بين يدي، نشرتها في احد أعدادها مجلة عالم الفكر الكويتية للاستاذ أحمد محمد ويس، عن الانزياح وتعدد المصطلح, الدراسة تقع في خمس عشرة صفحة من المجلة، ونصف الصفحة، وتتكىء على مائة وسبعين مرجعا، بواقع عشرة مراجع - بكل صفحاتها - للصفحة الواحدة او أحد عشر مرجعا اضافة إلى المراجع التي وردت في المتن ولم توثق في الحواشي او قائمة المراجع، ومع كل ذلك لم تقدم الدراسة فكرة واحدة وإنما تعود أهميتها الى ما تعبت فيه من العد والحصر، وإلىما تعكسه - هذا هو الاهم - من وجود ظاهرة من ناحية، واستشرائها من ناحية اخرى ممثلا في جهد صاحب الدراسة!
حصر الكاتب تحديداً ار بعين مصطلحا عربيا مرادفا لمصلطح الازاحة أو الانزياح وقال انها جميعا تحدد شيئا واحداً لم يذكره وإن اشار إلى استخدامه في مجال اللغة وعلم الدلالة، واعترف انه اختار الاربعين الاكثر شيوعا واستخداما وأهمية، وتغاضى عن عديد يزيد رأى ان لا اهمية له، وتتبع النصوص التي استخدمت كل مصطلح ليصل إلى اول نص وردت فيه ليرد بذلك إلى كل صاحب فضل ما هو جدير به، وكمثال فإن الانحراف واحد من المصطلحات المرادفة للانزياح يتتبعه في جمل ونصوص من مثل عندما ينحرف الكلام انحرافا معينا عن التعبير المباشر,, أو لكن هذا الانحراف نفسه عن الدقة العقلية وينحرف عن جادة الطريق وعندما يؤدي بنا هذا الانحراف الى الانتباه وكانت تنحرف انحرافا بالغا نحو نوع من الشعر وفليس ذلك سوى عيب وانحراف في طبيعة الشعر وإن النقد حين يتخلى عن دوره في ترشيد الظاهرة فإنها تواجه الانحراف والحرص على الابتكار والاختراع كان انحرافا في فهم الشعر وخطأ في ادراك مهمته وأن ينقى التفكير من الخطا والانحرافات وان الرواة قد أخطأوا في روايتها وانحرفوا بها عن الطريق المألوفة وهناك عشرات النصوص التي وردت فيها مفردة الانحراف عفواً بل مصطلح الانحراف، في سياق سلوكي او أخلاقي بما في ذلك ظواهر الادمان أو غيرها,, الامر يشبه كمن ادخل كلمة انحرف في آلة غبية كالحاسب الآلي وألحقها بأمر للبحث في النصوص العربية، الادبية او النقدية او المحاضر الرسمية ثم نتناول بعده نتائج البحث ونعرضها باعتبارها استخدام المصطلح فاين يمكن ان نجد استخدام المفردة كمفردة اعتيادية؟! ما أتعس كتاب القصة وقد اصبح محظورا عليهم ان يكتبوا جملة مثل انحرف عن الطريق يمينا إلى مخرج فرعي,, وما اسعد النقاد الذين اصبحوا يملكون من المصطلحات الفنية، الممتلئة برفات الفكرة، عددا بعدد مفردات اللغة!
يقدم لنا كاتب الدراسة - بغض النظر عن مادتها - مثلا على ما اصبحت عليه ضحالة رؤانا ومناهجنا، وانصرافها إلى ركاكة وفجاجة مخيفتين فمثل هذا الرصد للاستخدام للمفردة قد يثري اللغة، ولكنه - بهذا المنهج - يعطل الفكر ويقتل فعالية النقد.
والحق ان صاحب الدراسة قد كان شديد الامانة، فقد اتبع مصطلح الانزياح بأصله الفرنسي، واتبع كل مصطلح مرادف بأصله الانجليزي اوالفرنسي المخالف للاصل المعتمد للانزياح,, هنا كارثة اخرى فهل يعاني الغرب - مثلنا - تعدد المصطلح الدال على شيء واحد؟ ام ان الكارثة اكبر، ومثلما حولنا كل مفردة عربية عادية إلى مصطلح نقدي حولنا ايضا كل مفردة فرنسية او انجليزية إلى مصطلح؟ هل يقف تصورنا عند حدود مهابة الغرب، واعتبار كل مفردة تتواتر في الكتابة مصطلحا بزعم ان الناس من هناك لا يتحدثون ولا يكتبون إلا بالمصطلحات؟، ولتصبح كلمات عادية مثل )Apeor man( مصطلحا يعني الفحولة المضيعة اوالمعذبة او البليدة أو المرثية، ويضيع الرجل المفرد، الذي يذهب إلى الحقل او المصنع,,! الكارثة الثالثة، ان الرجوع إلى الكلمة الاجنبية في سياقها النصي والذي ينفي عنها تهمة الاصطلاح، عند تأمل اصلها الاشتقاقي ومعناها المعجمي، يكشف فداحة الخطأ في الترجمة العربية، لنكون قد جمعنا بضربة واحدة بين السيئين حملنا المفردة العربية انتماء أجنبيا، وحملناه لها بمرجعيته الخاطئة,, حقيقة نحن نحتاج لغة جديدة، وإنما بشرط ان يديرها فكر عربي، على اي الاحوال هذا كله من اوله الى آخره، يتصل ربما بالمباحث اللغوية ويشتبك فيما يصل إليه او لا يصل مع الالسنية وما فعلته باللغة، دفعنا إليه مصطلح الانزياح الدلالي، ولا شأن لي به أما ما أود ان اطرحه هنا، عن الازاحة كتصور رؤيوي للابداع، فهو يتصل بفلسفة الجمال لا علم اللغة، ويتحاور مع النقاد لا مع علماء الاسلوب,,! ولهذا اكتفي بهذا الخروج العمدي عن الموضوع وها قد اسميته خروجاً لا انحرافاً كي لا أسهم في زيادة الشواهد.
|