Sunday 18th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 2 محرم


في الريادة النقدية عبدالفتاح أبومدين ناقداً3-4

وفي مراجعته للكتب التي يمكن ان نطلق عليها اسم كتب نقدية تنصب ملاحظاته على الجانب المنهجي في الدرجة الاولى، فهو لا يرى مثلا ان خمس عشرة صفحة انفقها كاتب كتاب الشابي وجبران في الحديث عن الكاتب والشاعر كافية للحكم على الثاني بأنه تأثر بالاول وذلك من خلال نماذج قليلة نقلها المؤلف من نثر جبران وشعر الشابي، فهي لا يمكن ان تكون مقياسا صحيحا لهذه التلمذة التي يعنيها، بحيث يكون الشابي صورة في أدبه لجبران، وليس الانتماء الى مدرسة يلغي خصائص التابع وسماته وشخصيته، كما ان الاعجاب بأديب والاخلاص لمنهجه وأسلوبه في الفن لا يجعل منه مقلدا، ويأخذ على الكاتب عدم دقة احكامه حين يتحدث عن الاجماع على ان الشابي كان تلميذاً لمدرسة المهجر، ثم ان عنوان الكتاب يوحي بأن الكاتب سيتحدث عن الشابي وجبران بينما قصر حديثه على الشابي ولم يترك إلا جزءا يسيرا لجبران، ثم يأخذ عليه انه لا يتمتع باستقلالية الشخصية والرأي وانما هو متأثر بلفظ او الفاظ غير المسلمين، والنزعة الاسلامية الاخلاقية تتضح بجلاء في لومه للكاتب على استخدامه للفظة العبادة دون تحفظ.
** ويأخذ الناقد على الكاتب اتهاماته لشوقي وحافظ، ويبدو انتصاره لحافظ، وانحيازه للشعر القديم، فهذا الادب هو الذي كون عقول وأرواح هؤلاء الفريق الذين يزرون به وتطول مرافعته المتحمسة عن تراثنا ونقده للشابي وصاحبه ويبدو ناقداً احيائيا، ولهذا ينتقد ايمان الكاتب بالرومانسية دون مناقشة ويأخذ عليه انحيازه ضد العقل وازدراءه له واعلاءه من شأن العاطفة، ويحصي عليه اخطاءه اللغوية والعروضية والفنية.
** وعلى غرار ما كتب عن الكتاب السابق عالج كتاب البدري الشاعران المتشابهان (9) فأخذ عليه مآخذ منهجية ومعرفية فوصف الدراسة بأنها ناقصة بالنسبة لكاتب يقارن بين شاعرين عاصر كل منهما الآخر إذ ينبغي له ان يتقصى الامور التي كانت تحيط بهذين الشاعرين والعوامل التي تأثر بها كل منهما، وأن يدرس لنا البيئة التي عاشا فيها دراسة استقصاء للاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الفترة التي كان يعيش فيها الشاعران، لأن دراسة الشعر ونفوس الشعراء وما محيط بها تحتاج إلى كثير من التعمق لمعرفة الجو الذي يعيش فيه الشاعر.
وهنا يبدو الناقد من انصار المنهج التاريخي الاجتماعي ويهتم بالتوثيق فيطالب الكاتب بمصادره، ويتتبع سقطات، الكاتب فيأخذ عليه تعريفه للغة الشعر ووقوفه عند بعض الجزئيات في المعاني والصور، وتبرز نزعته الاخلاقية الدينية فيشير إلى الانحرافات العقدية في تعليقات الكاتب ونماذجه.
** وفي نقده لكتاب تداعيات العبث لمحمد العوين نلمح معالم رؤية تنحو منحى التجديد، وتدل على سعة افق فلسفة الكتابة التي ينطلق منها فهو يرى في تغير رأي الكاتب من مقالة إلى اخرى امراً طبيعيا فالافكار تتغير وتتبدل كما يقول، ويرى ان التناقض المكروه يكون في المقام الواحد والمناسبة الواحدة.
كما تبرز شخصية العالم المحقق الذي لا يسلم بالشائع المعروف بل يبحث عن الحقيقة، فيرد قول من قال بأن ابن دريد رائد البديع كما توهم زكي مبارك وأحمد السكندري على حد قوله، فالرائد الحقيقي في رأيه هو ابو القاسم البغدادي، كما انه لا يقبل بالمقارنة السريعة الطائرة على حد تعبيره بين الحريري والهمذاني، فيرى ان الحريري في مقاماته كان عالما اكثر منه اديبا، اما الهمذاني مع سبقه الزمني فكان فنانا مصوراً، وهذه رؤية لماحة فيها دقة الناقد العالم، ومثل ذلك اعتبار حافظ إبراهيم سباقا للمويلحي في هذا الفن، فحافظ احتذى المويلحي كما يقول، وأصدر كتابه ليالي سطيح بعد ثمانية أعوام من ظهور احاديث من ابتداء ظهور (الاحاديث)، وكذلك فعل حين عرض لما كتبه العوين مقارنا بين ايام طه حسين (ومعي) لشوقي ضيف مشيرا إلى اختلاف المنحى باختلاف النوع الادبي فالايام انما هي قصة او رواية استثمرها اما شوقي ضيف فقد نحا منحى آخر.
** وحرصه على الدقة والتحقيق سواء في مجال الحقائق الفنية او النحوية بارز في كل مراجعاته، ففي مقالته عن وجيز النقد عند العرب يحرص على الدقة النحوية كما يحرص على الدقة العلمية فيطالب المؤلف بالتوثيق، كما انه يهتم بالمنهج ويحتفل به إذ يأخذ على الكاتب تقريره ان السجع في الجاهلية اختص فيما اختص بالاحكام النقدية ثم تمثيله بنصوص لأربعة ممن وصفهم بالنقاد الجاهليين وهم حذار الاسدي، وأم جندب الطائية، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، وليس في هذه النصوص مثال واحد مسجوع.
وقد تعقب الكاتب في الكتاب لغويا فأحصى بعض زلاته النحوية والاسلوبية والعملية وطالبه بالدقة.
وتتمثل دقة أبو مدين في حرصه على الاشارة الى موقع الاثر الادبي او النقدي من تطوره كما فعل حين تحدث عن كتاب الشاعر المحسن للاستاذ إبراهيم أمين فودة إذ يومئ إلى ان المقدمة مؤرخة بعام 1359 بينما تاريخ الطبعة يشير إلى عام 1404ه، كما في ملاحظته المنهجية التي تتمثل في ضرورة ان يكون الكلام عن البيئة وأثرها في شعر الشاعر من خلال الدراسة الفنية لشعره تدل على ما يريده من توضيح الاثر الذي يعنيه، فالحديث العام ليس كافيا.
كما تتبدى في تأكيده لحقائق تاريخية مهمة تدل على منهج منظم، إذ ينكر ما أورده المؤلف عن علي بن الجهم العباسي فالموازنة تبدو متناقضة فطرفاها يعيشان في عصرين مختلفين متباعدين، مؤكدا ان مجلس الخليفة ببغداد لا يهجم عليه شاعر بل لابد من الاختيار والتدقيق.
** وتبرز الرؤية الكلية حين يرى ان الحديث عن الصورة ينبغي ان يكون كليا يشمل التشبيه الجزئي الناشىء عن الخيال، والتركيب الذي يؤلف بين اجزاء الصورة يتحدث عن ذلك في مجال واحد.
وأبو مدين مناظر قوي الحجة يتضح ذلك في تعليقه على كتاب علامات استفهام في الادب والنقد وحواره مع الكاتب حول قضايا عدة من بينها تلك المعارك الادبية التي نشبت بين سيد قطب والرافعي ومعركة جناية الادب الجاهلي، وما كتبه طه حسين عن ضمير الغائب في القرآن الكريم مما يكشف عن طول باعه وسعة ثقافته.
وفي حديثه عن كتاب ابن ادريس كلام في احلى الكلام موقف متطور من الشعر الحديث، او ما اصطلح على تسميته بالشعر الحر فهو وإن كان ظاهرة يدل على تحيز ضد هذا الشعر الغزل إلا انه يعكس قبولا له فيما عدا ذلك في حين كان هذا الموقف ليس كذلك من قبل.
ويتميز نقده التطبيقي - كما سبق ان اشرت - بالنزعة التعليمية، فهو يركز على الجوانب العروضية تركيزا واضحا، من ذلك مقالته التي كتبها تحت عنوان جهل بالعروض وهي في نقد قصيدة لإبراهيم أمين فودة، فقد استهلها بوصفه الشاعر بأنه ممن يتكلفون النظم، وانه في كثير من الاحيان لايكاد يحسن الاوزان الشعرية، ويشير إلى فشل الشاعر في تصريع شطري البيت، ويأخذ عليه جمعه بين الواو والياء في ردف العين .
** ونجده في نقده لديوان احمرار الصمت للاستاذ إبراهيم عبدالله مفتاح يأخذ عليه زيادة التفعيلات في البيت الاول من افتتاحية الديوان:
موطني يا مولدالشم
س ويامسرى النبي
موطني يا مهبط الوح
ي ومهد العرب
وليس النقد العروضي بمعزل عن النقد اللغوي، بل هما صنوان يسيران جنبا الى جنب، في إطار المنزع التعليمي الذي اختطه الناقد وقبل ان نلج الى رحاب التطبيق لابد ان نعرج على النزوع إلى الموازنة الذي يشكل اتجاها مهما في نقد أبو مدين فقد قارن بين طه حسين والعقاد وشوقي وحافظ، ثم محمد حسن فقي وعلي محمود طه وبين محمد حسن فقي وايليا أبو ماضي وبينه وبين جميل صدقي الزهاوي,, وغيرها من الموازنات، وسأحاول الوقوف وقفات قصيرة عند منهج هذه الموازنات، ولابد من الاشارة إلى ان هذا المنهج يختلف باختلاف طبيعة الاديبين، فحينما وازن بين طه حسين والعقاد ألمّ بلمحة عن نشأة كل منهما وحياته مومئا إلى المفارقات التي طبعت هذه النشأة، وهو من خلال ذلك يريد ان يصل إلى جوهر معاناة الاستاذين وانعكاسها على ادبيهما وتكوين فلسفة كل منهما فاتضحت لدى طه حسين
أما الجزء الخاص بنقد الأشعار التي تضمنها كتاب الساسي فسأعرض له عند حديثي عن النقد الفني لدى ابومدين في عدد من مؤلفاته، من بينها المعذبون في الأرض وقادة الفكر بينما كان نصيب العقاد من الفلسفة غزيرا فكتبه الأخيرة في مجملها فلسفية ونفذ من خلال ذلك الى نزوع كل منهما وسماته الأسلوبية فالعقاد أكثر ميلا الى النزعة العلمية وأدق من طه حسين واوسع اطلاعا وأعمق بحثا، بينما يبدو أدب طه حسين أكثر سلاسة فهو ذو نزعة أدبية عالية ويبدو ابو مدين أكثر ميلا الى طه حسين على الرغم من حياده وموضوعيته ثم يمضي فيذكر نماذج من كتبهما، ويذكر مدى قرب كل منهما او بعده عن الشعب، ويناقش قضية عمادة الأدب مشيرا الى ان الألقاب الزخرفية لا قيمة لها بالنسبة لعلم الإنسان وثقافته كما ناقش قضية إمارة الشعر ووصفها بانها خرافة، وبعد ذلك عرض لمنهج طه حسين النقدي في اطار هذا الطرح، ثم خلص الى مناقشة إمارة البيان التي وصف بها أرسلان، وعرض الى ان خلاصة ما يكون ان يوصف به كل من طه حسين والعقاد، بأنه استاذ جيل أما موازنته بين محمد حسن فقي واضرابه من الشعراء فقد بدأ حديثه بملاحظة عن معاصرته لعدة مدارس وتأثره بها وآثر بعد ذلك ان تكون موازناته نصية أي تعتمد على النصوص الشعرية، فقد عقد ثلاث موازنات شعرية في ثلاث قصائد تلتقي في بعض الوجوه بثلاث قصائد لثلاثة من الشعراء الكبار التقاء النظير بالنظير لا التابع بالمتبوع، فقارن بين قصيدة الله لعلي محمود طه وقصيدة الله لمحمد حسن فقي كما قارن بين قصيدة إيليا أبي ماضي (الاسطورة الأزلية) وقصيدة الشاعر فقي (رحاب الأولمب) ثم بين قصيدة له وأخرى للزهاوي.
ويلاحظ أن منهجه في الموازنة يقوم على الاهتمام بالمرحلة التاريخية وتأمل معطياتها ويهتم بالسياق الأكبر للقصيدتين ويربط النص بظروف قائله، ثم يعرج على المعاني التي تضمنتها كل قصيدة وهو في حديثه عن المعاني ينهج نهجا تفسيريا، ثم يعقب عليها متكئا على رؤية اخلاقية دينية، مستدعيا ثقافته، ليدعم رأيه، فحين يصف أسئلة محمود طه في قصيدته (الله) بانها ليست من وحي التفكير الفلسفي، وإنما تخطر على بال المراهقين يستشهد بالغزالي في المنقذ من الضلال حيث يصور مراحل شكه، وكيف استبد به تفكيره المهلك حتى انعقد لسانه فما استطاع ان يتكلم ثم واصل البحث حتى انقلب الشك يقينا، فآمن الغزالي إيماناً مطلقا، ويقارن بين شك الغزالي وشك علي محمود طه والشعراء الشباب الذين يشكون لأول طارىء ثم لا يبحثون، وهو اذ يتفهم موقف الفنان الرومانسي ومشاعره المتأججة فينكر عليه الشك الحائر الذي يبحث فلا يهتدي مع أن النور أمامه، هذه الومضات المتأملة الناقدة تنبث في ثنايا شرحه للقصيدة وعرضه لأهم معانيها حيث يتبع ذلك بعرض مماثل للقصيدة الثانية قصيدة محمد حسن فقي.
ويلاحظ ان ملاحظاته الفنية عامة، فهو لا يعنى بإبراز خصوصية الأداء الفني عند كل من الشاعرين بل يكتفي بالقول على سبيل المثال أما التصوير الأدبي لدى الشاعرين ففي قمة الابداع فكلا الشاعرين يملك زمام القول وله سيطرته الكبرى على المعاني إلخ وهذه أحكام عامة لا تميز بين شاعر وشاعر.
يتبع
د, محمد صالح الشنطي

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
حوار
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved