وحده الشاعر، احيانا,, يصر على اقناع نفسه، ومن يعنى بها وبه، بانه واقع تحت سلطة احساسه بدرجة يكاد العقل فيها ان يكون بلا دور فعلي, حتى انك اذا انتقدت الشاعر، ولو بكلمة شفهية تدخل في نطاق السجال الاخوي، وأنقصت من قيمة أحد آرائه أو مقالاته، او حتى جادلته في احدى قصائده الاخيرة؛ تفاجأ به يقول لك: يا أخي انت بقسوتك هذه ، في نقدك اللاذع هذا، قد جرحت احساسي!
اتصور - والتصور مشروع - ان الفنان الحقيقي لا يترك احساسه يسيطر عليه، فالاحساس وحده لا يضيف الى الفن شيئا، بل يزيده انحدارا نحو غياب الوعي الفكري المتجاوز (المسمى: الابداع) فالفن عقل في جوهره التكويني، وقبل كل شيء, كما ان التذوق إحساس في شفافيته التأملية، وبعد كل شيء.
فأنت لا تستطيع ان تحرك الماء بالماء، لكنك حين تلقي بقطعة قاسية من الحجر الصلب على صفحة من الماء الراكد سوف تشاهد صورة متحركة لأجمل التموجات الابداعية في اعلى مراتبها.
وهكذا اتصور الفرق بين الكتابة الابداعية وبين البوح الكتابي فلا يمكن ان نصل الى الاولى الا بعد تجاوز الثانية كما لا يمكن ان نتجاوز الثانية الا اذا عرفنا قدر الاولى وصعوبة الوصول اليها.
الغريب ان بعض النقاد يعيب على المبدع الحقيقي بداياته الفارغة من كل إبداع مع انها مرحلة طبيعية,, تماما كالمراهقة عند كل انسان، اذ تأتي في وقت مبكر ثم ترحل ليحل محلها قدر لا يستهان به من الخبرة والالتزام فالأحق ان نعيب على المبدع نهاياته لابداياته هذه النهايات التي كثيرا ما تأتي كالمراهقة المتأخرة! إذ تجد الكاتب المعترف به كأحد رموز الثقافة العربية فجأة وقد تحول من مبدع حقيقي الى بائع بوح ذاتي لا يجد من يشتريه ,, على كثرة اماكن العرض والتفخيم واتساع المساحات الناشرة,, وكلها مكتسبات تحسب للزمن , وللزمن وحده!!
اعود الى موضوع جرحت احساسي والحقيقة ان هذه العبارة قد سمعتها من شعراء كنت اجل عقولهم قبل تشرفي بالالتقاء بهم شخصيا، ومازلت على وفائي بحقهم في الاجلال - لكن مع اختلاف بسيط في تقدير الجهد المعطي من قبلهم!.
ولم اجد ، حتى الآن تفسيرا لهذا الاحساس الرطب امام قوة المسؤولية الابداعية في هذا الراهن الخشن على كل الفئات.
والنهاية أني خرجت باحتمالين لهذه الظاهرة التي باتت في حكم المسلّم به، الاحتمال الاول: ان الشاعر لمّا يزل في طور البدايات - وهذا بعيد عمن اقصدهم,
والاحتمال الثاني: ان الشاعر في حالة مراهقة متأخرة وهذا مستبعد ايضا فيمن عنيت.
ويبقى احتمال ثالث ، سوف أسكت عنه لانه يشكك في مقدرتي على الفهم، وربما تجاوز ذلك الى التشكيك في انسانيتي المجروحة بنصال الوهم!
|