صدر حديثاً عن وزارة التخطيط كتاب تحت عنوان التنمية في مائة عام ولأهمية ماحواه هذا الاصدار نعرض اليوم لبعض من فصوله حيث جاء فيها:
لاشك في ان هذا البناء الضخم الواسع الذي يمثل انجازات التنمية الوطنية في المملكة العربية السعودية قد قام على ركائز قوية ثابتة، وفرت له هذا الاستمرار الذي صاحبه لمائة عام, وقد يجد المؤرخ الباحث في اصل هذا البناء وابعاده عدداً من الركائز الاساسية التي قام عليها البناء، وكانت بمثابة الاسس والضمان لبقاء هذا البناء الشاهق واستمراره.
وقد يستطيع الباحث ان ينظر في اصل هذا البناء وفي حاضره، او مجموعة تجربة التخطيط الوطني الشامل، والتي بدأت عامها الثلاثين في منظومة من خطط التنمية الست, فيتجه الى الانشغال بالنظر الى المستقبل، والى ما تتطلع اليه المملكة العربية السعودية من مواصلة البناء والتجديد، والمحافظة على المكانة الفريدة التي تحتلها بين اشقائها في العالم العربي والإسلامي وبين دول العالم المتقدمة والنامية، والتي تأسست على ركائز اساسية متعددة، قد تختلف وتتفاوت في اهميتها واولوياتها حسب نظرة هذا الباحث واهتماماته وافكاره المسبقة.
غير ان الباحث الجاد والمؤرخ المتفحص لن يكتشف الركائز الحقيقية لهذا البناء، ولن يضع يده على الركائز الاساسية التي قام عليها هذا الصرح الكبير الا عندما يعود بنظره ودراسته الى جهود المؤسس الاول، الذي وحد الارض، واقام المملكة ، ووضع في سنوات حكمه كل التصورات والمبادىء والابعاد التي صنعت آفاق التنمية, فلقد كانت افكار المؤسس الاول وجهوده هي الاساس الحقيقي لكل تنمية لاحقة او مقبلة، وكانت الضمان الاصيل للاستمرار والبقاء.
ولاشك في ان تاريخ العاهل المؤسس واعماله كانت موضوعاً لدراسات عديدة، وصدرت بشأنها كتب كثيرة، وابحاث متنوعة تناولت اعماله السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يكون مكتبة ثرية، يمكن للباحث ان يرجع اليها، وان يجعلها بدايات لمزيد من الدراسات والبحوث التي ما زالت اعمال العاهل وفكره جديرة بالقيام بها، ولكن المستهدف هنا هو التوقف عند المواقف والاتجاهات الفكرية والحضارية التي اسسها الملك عبدالعزيز، وان يكون النظر اليها اساساً من جهة علاقتها بالتنمية، فهي مثل كل الاعمال التاريخية تعرض للناظر اكثر من وجه، وتتضمن اكثر من دلالة, ولكنا نتوقف هنا عند دلالتها التنموية واثرها المباشر على شق طريق التنمية ووضع اسسها.
والواقع ان هذه النظرة - اي افكار الملك عبدالعزيز واعماله من ناحية علاقتها بالتنمية اساساً ستكشف لنا عن مفهوم التنمية الذي يعد الرجل سابقاً به قبل خطط التنمية، بل وقبل الفكر التنموي الحديث الذي استحدث مفهوم التنمية الحديثة، والتي اصبحت هدفاً تتوخاه الدول المعاصرة او تتحراه فيما اتضع من خطط للتنمية قصيرة، او طويلة، قطاعية او شاملة.
فمفهوم التنمية عند الملك عبدالعزيز كان يعني اساساً الإمساك بمشاكل الواقع واحتياجات المواطنين العاجلة، ثم محاولة الاستجابة لها بمشاريع وتنظيمات كبيرة تفتح الطريق للمستقبل وتمهد لتغيير متصل ودائم يضع في الحسبان الاجيال المقبلة على قدر الاهتمام نفسه للاستجابة العاجلة لاحتياجات الحاضر الملحة.
ولكي نستطيع ان نحدد جوانب هذا المفهوم القديم الحديث عند الملك عبدالعزيز سنتوقف عند اربعة مواقف او اتجاهات حوت اعماله، وسنوات حكمه، وتبينت في كل ما اصدر من قرارات، اوما قاد اليه من تنظيمات شملت كل جوانب الواقع, وكانت الدافع الحقيقي وراء الخطوات التنموية السابقة واللاحقة، ونبدأ هنا بصياغة هذه المواقف صياغة عامة.
1-توحيد المملكة:
ولما كان توحيد المملكة هو الهم الاول والاكبر للملك عبدالعزيز منذ وصوله الرياض، بل وقبل ذلك، فسنبدأ اولاً بالتعرف على اثرهم توحيد المملكة وفكرته وما ترتب عليه من خطوات تنموية جذرية، شقت طريق التنمية وفتحته، ولايمكن ان نضع بداية تاريخية محددة لبدء تحرك الملك عبدالعزيز لتوحيد المملكة, فقد كان هذاحلماً صاحب شبابه، ونما مع سنوات عمره، ثم انه قبل ان يكون حلماً كان مسئولية اخلاقية ورثها عن اسلافه، واستمدها مما درس من تاريخ عائلته، او تلقاها مباشرة عن ابيه.
وليس هنا مكان تتبع ارتباط هم التوحيد للجزيرة العربية بتاريخ الاسرة السعودية وادوارها، او مكان الحديث عن ذلك بالمعنى الفقهي او الشرعي للمملكة المتمثل في اعلاء كلمة الدين، وجمع قلوب الناس على كلمة لا اله الا الله، ولامرجع للحكم ولاشرعية له الا بتطبيق الشريعة والتمسك باحكامها, فهذا على اهميته وجوهريته كان موضوعاً لكثير من الدراسات والكتب، إلا انه يخرج بنا عن النظر في المدلول والاثر التنموي لتوحيد المملكة الذي هو الموقف الاول, كما انه قد يبعد النظر عن الاجراءات والتنظيمات التي اتخذها الملك المؤسس والتي كانت بمثابة الخطوات الاولى للتنمية الوطنية التي ارادها لوطنه ووضع اسسها الراسخة, ومن المسلم به بالطبع ان اعمال الملك عبدالعزيز الإدارية والسياسية تأتي في مقدمة اعماله، وتشغل عادة اي حديث عن توحيد المملكة.
الا ان المحاولة هنا تمضي لكي تتبين كيف مزجها جميعاً وجعلها دائماً تصاحب تعرضه لمظاهر التفرقة والخلافات التي عرفتها الجزيرة العربية قبله, فقد كانت - كما يقول احد معاصريه- بلاداً متفرقة، مكونة من ممالك صغيرة، ومناطق نفوذ امبريالية وقبائل متحاربة، يتغير ولاؤها وحدودها بنفس السرعة وعدم الانتظام الذي تتغير به رمال الصحراء .
فعندما ننظر الى توحيد المملكة بمدلوله التنموي نجد انه قد جعل توحيد المملكة اساساً لترسيخ الامن في ارجاء البلاد، وتربية الانتماء لدى القبائل البدوية عن طريق خطته في تكوين الهجر كأساس وبدايات لبرامج التنمية الزراعية والتعليمية، وعن طريق انشغاله في دعم هذا التوحيد الذي ينشده للمملكة بشق طرق المواصلات بشتى انواعها من البريد واللاسلكي الى السكك الحديدية الى الطائرات وانشاء الموانىء والمطارات, ومن هنا نضع ايدينا على توحيد المملكة كمعنى من معاني التنمية الشاملة التي تفكر في الحاضر كما تفكر في المستقبل وفي الاجيال الحاضرة والاجيال القادمة معاً.
2-الدلالة التنموية لتثبيت أركان الشريعة الإسلامية:
ولقد صاحب التوحيد للمملكة في نظر الملك عبدالعزيز وفكره احساسه الجوهري بتثبيت اركان الشريعة الإسلامية، ونشرها في الجزيرة العربية امتداداً لتراث اسلافه، وتعبيراً عن عقيدته التي اقام عليها مملكته.
وعند النظر الى هذا الموقف من وجهة نظر التنمية نجد انه يندرج فيه تمسكه بالعدل والمساواة وتنفيذ الحدود، كما انه ينفتح اساساً الى جانب هذه الصفات الخلقية للحاكم على اعماله في توسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي وتنظيم اعمال التدريس في المسجد الحرام، وامتداد ذلك الى تنظيم القضاء وتطبيق احكام الإسلام, وهكذا يصبح تثبيت اركان الشريعة امتداداً وتدعيماً لتوحيد المملكة من ناحية، وفتحاً واستبصاراً باحتياجات التنمية للمملكة الموحدة, ولهذا يتناول هذا القسم من العرض انشاء الملك لدار التوحيد دعماً لاعداد القوى البشرية سواء في القضاء او في تربية الائمة والمعلمين، ثم تفكيره المستقبلي في انشاء كلية الشريعة كخطوة اولى للتعليم العالي في المملكة، واستكمالاً لعناصر النظام التعليمي الذي وضعه لمواطنيه.
3-النظرة المستقبلية المصاحبة لأعمال الملك عبدالعزيز:
اذا كان توحيد المملكة وتثبيت اركان الشريعة هما ركيزتان اوليتان في فكر الملك عبدالعزيز فانه قد استطاع ان يحيلهما الى عمل مستقبلي حيث اصبحت اعمال الملك وخطواته بداية طريق الى المستقبل، وبهذا المعنى تعد اعماله كلها في سبيل تنمية مستمرة لاتكتفي بمواجهة مصاعب الحاضر مهما كانت عصية او متعددة، ولكنها تنظر مع كل خطوة الى المستقبل وبهذا تضع الاسس لكل مفاهيم التخطيط وانجازاته التالية.
4-التنمية كما مارسها الملك عبدالعزيز استلزمت معرفة ودراسة تفصيلية للواقع:
يعد هذا الجانب جوهرياً كذلك في فكر الملك عبدالعزيز وفي اعماله, فقد كان شديد الايمان والتمسك بدراسة واقع بلده دراسة تفصيلية من الناحية الجغرافية واللغوية والقبلية, وقد بدأ الملك هذه الدراسة في وقت مبكر من شبابه قبل مغادرته الاولى للرياض الى الكويت مع ابيه ثم خلال رحلته عبر الصحراء, واستدامت هذه الدراسة بعد ذلك خلال سنوات حكمه كلها حتى اصبح الملك حجة فيما يلح عليه واقع بلاده من تغيير مادي وبشري، واصبحت معرفته معياراً يقيس به كل ما يقدم له من مشاريع ومقترحات من الخبراء والمستشارين الذين جمعهم حوله او استحضرهم ليعملوا عنده, وقد سن الملك بهذا، الاتجاهات الاساسية للدراسة العلمية التي تابعتها خطط التنمية, كما اننا لابد ان نلحظ هنا ان اهتمامه الدائم بالواقع التفصيلي لبلده قد قاده الى الانفتاح على العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي مما اصبح إرثاً للمملكة من بعده، ولكل خططها التنموية وسياساتها.
ولقد اصبح الملك - بهذا الجهد الفردي والجهد الجماعي الذي وجه اليه- أنموذجاً فريداً للمعرفة بخصائص وطنه الجغرافية، وبالخصائص اللغوية والاجتماعية لقبائل بلده، وكانت هذه المعرفة لدى الملك مبطنة ومسلحة بمقدرة دبلوماسية وحنكة سياسية فريدة في مواجهة ما يعرض له من ازمات ومقترحات، وما يعرض عليه من اجراءات ومشاريع، وما يقبله او يوجه اليه من اعمال, وهكذا كانت هذه المعرفة وجهاً اساسياً من اوجه التنمية الوطنية التي تبناها الملك عبدالعزيز.
مسيرة التنمية في عهد الملك عبدالعزيز:
من هذه الجوانب والاتجاهات الاربعة لمفهوم التنمية كما طبقها الملك عبدالعزيز نعرض في الفصول التالية باختصار لاهم انجازاته التنموية واكبرها التي سبقت الفترة الواقعة بعد رحيل الملك يرحمه الله وقبل انطلاقة خطط التنمية الوطنية.
مشاريع وإنجازات الملك عبدالعزيز في إطار التنمية الوطنية- قائمة مبدئية:
اذا استخدمنا مفهوم التنمية فإنه- رغم حداثته الاصطلاحية- كان واضح المعالم في حركة الملك عبدالعزيز الإصلاحية، وجهده المركز على بناء وطنه وتنمية قوى مواطنيه واوضاعهم، فقد يكفي ان نضع هنا قائمة مبدئية لمشاريع التنمية الشاملة وانجازاتها في عهد الملك عبدالعزيز، والتي بدأ في تنفيذها قبل الفترة الواقعة مابين 1373ه وبدايات خطط التنمية الوطنية عام 1390ه، وكانت جميعها كما قلنا بمثابة تمهيد للاسس التي اتبعتها هذه الخطط طوال السنوات التالية وارسائها وحتى الآن.
وسوف نورد فيما يلي قائمة بمشاريع التنمية الشاملة وانجازاتها .
-مشروع الهجر كأكبر مشروع عرفته المنطقة لتوطين البادية وتعليمهم.
-تنظيم القضاء واجهزته وتنظيم الدراسة في المسجد الحرام ومشاريع توسعته، وتوسعة المسجد النبوي، وإعداد الائمة والقضاة في دار التوحيد، ووضع اسس التعليم العالي بإنشاء كلية الشريعة.
- وضع اسس النظام التعليمي الشامل وبداياته واقامته متكاملاً في المملكة.
-ملامح التنظيم الاداري للمملكة.
- بدايات الضمان والخدمات الاجتماعية للمواطنين.
-المياه ومشاريع الزراعة.
-المواصلات والاتصالات.
-التعدين والذهب.
-تنظيم التجارة واجراءاتها المدنية.
-بدايات التعليم الفني وإدخال التقنية.
-البترول في اطار التنمية الشاملة.
وانطلاقاً من هذه القائمة التي يمكن متابعتها بعد ذلك اي في فترة ماقبل خطط التنمية ثم مرحلة الخطط الخمسية واحدة بعد الاخرى ابتداءً من الخطة الاولى الى السادسة، تتضح الصورة العامة للتطورات الرئيسة التي سارت فيها التنمية في المملكة.
ولأن تنمية الارض والمواطن من خلال تجربة الهجر مثال فريد للتنمية الوطنية فإننا نستعرض هذه النقطة بشيء من التفصيل.
حيث ان اخصب نقطة او موقع لبداية الحديث عن تطبيق مفهوم التنمية على ارض الواقع ودمجه مع خطط التطوير للمملكة وتوحيدها على يد العاهل الكبير الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- هي مشروع الهجر، الذي يعد مثالاً تاريخياً فريداً للعمل التنموي، الذي واجه مشاكل الحاضر وفتح طريق المستقبل معاً, وقد تتعدد الآراء والاحكام حول تاريخ المشروع وحجه واهدافه، ومع ذلك تظل نتائجه وانجازاته الفعلية مكرسة لواقع مستمر وقوي للتنمية والتغيير الاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا يصح ، بكل معنى الكلمة اعتباره انموذجاً فريداً للتنمية الشاملة بمعناها الحديث.
ويرى المحدثون من الكتاب ان انشاء الهجر كان يرتبط باعتبارات متعددة تتعلق برغبة الملك المؤسس -طيب الله ثراه- في اقامة مجتمع عصري متطور عن طريق احداث نقلة نوعية في سلوك المجتمع، وتطبيق اصلاح اجتماعي رائد، وتنفيذ اول عملية تنمية اجتماعية اقتصادية في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة .
إلا أنه- فيما يتصل بتاريخ انشاء هذه الهجر- هناك اراء مختلفة للمؤرخين حولها فمنهم من يرجعها الى عام 1328ه (1910م) او الى 1330ه (1911م) بينما يرجعها بعضهم الآخر الى ما بعد عام 1332 ه (1916م) او الى 1335ه (1619م) عندما صدر امر الملك عبدالعزيز بتنفيذ فكرة توطين البدو, وتختلف المصادر ايضاً في عدد الهجر واسمائها وعدد المشاركين فيها من البدو, ويعتمد بعض البحاث في تقدير عددهم على اساس عدد الجنود الذين كان من الممكن تجميعهم من الهجر والذي يبلغ من 10-12 الف جندي، ويمكن ان يزداد عددهم عند اعلان النفير العام في مدة لا تتجاوز المائة ساعة الى ثلاثة اضعاف هذا العدد.
وقد اختلفت المصادر في عدد الهجر، وان كانت الآراء متفقة على اتساع حجم المشروع، فقد نشرت ام القرى في عددها رقم (218) لعام 1347ه ان العدد قد بلغ سبعين هجرة, ويورد الريحاني قائمة باثنين وسبعين هجرة, وتعود ام القرى في عددها الصادر 6 رجب 1347ه فتحصر عدد مندوبي الهجر الذين حضروا اجتماع الرياض عام 1347ه فتقول: انهم يمثلون 122هجرة, اما الزامل فيورد قائمة بلغت 119 هجرة, وتظل هناك خلافات بسيطة بين فؤاد حمزة وغيره من المؤرخين, ويعلق الزركلي على هذه الخلافات قائلاً: انها ترجع الى زمن تأليف الكتب ويورد هو قائمة تشمل 152هجرة ويرى ان هذا هو عددها عام 1369ه (1950م) ويورد بعض التصحيحات على قائمة الزركلي التي يمكن النظر اليها على انها اشمل القوائم وآخرها في التاريخ, ويجمع ابو علية قائمة من مصادر متعددة يبلغ عدد الهجر فيها 106.
وقد تكفي هنا الاشارات الى عدد الهجر للدلالة على ان المشروع الذي قاده الملك عبدالعزيز كان مشروعاً شاركت فيه قبائل البلاد الرئيسة، واستمر المشروع اكثر من ثلاثين عاماً، حتى ذاب في مسيرة النهضة الوطنية، ودخلت اهدافه وانجازاته في خطط التنمية الوطنية.
وهكذا فإن رعاية الملك للمشروع قد جعلت منه انموذجاً مبكراً للتنمية وللتعليم الكبار يسبق كل المشروعات والتجارب التي عرفتها المنطقة، وتمهيداً لتقبل الإصلاحات الزراعية والاقتصادية والاجتماعية التي نفذها الملك عبدالعزيز ودعمها.
ويلخص الزامل في اصدق البنود الوضع والدلالة العامة للمشروع فيقول في كتابه ان مشروع الملك عبدالعزيز كان مختلفاً عن جهود اسلافه من اسرة ال سعود في نشر الدين والتعليم، بل وفي حركة توحيد البلاد: فحيث كان اسلافه يحصرون جهودهم في تعليم سكان القرى والمدن، فإن الملك عبدالعزيز اتجه الى القبائل البدوية باعتبارها سلسلة الدولة الفقرية وعمادها وسندها فلامناص من ربطها بالارض ربطاً محكماً, ولذلك عمل الملك على ان يرسل الى كل قرية شيخاً يعلم اصول الدين ومبادىء الكتابة وكان يريد لتلك القرى والمدن ان تكون مراكز حربية وزراعية وموطناً آمناً للسكان, وقام بتوزيع الاسلحة الحديثة على رجال البادية وقدم لهم مواد البناء ومعدات حفر الآبار لاستخراج المياه وامرهم ان يشتغلوا في حرث الارض وبناء الدور لتحويل الصحراء الى مروج خضراء.
وعلى الرغم من تعدد الآراء وقيام الاختلافات حول عدد الهجر واهدافها ونتائج عملية التوطين للبدو تظل هناك حقيقة ثابته اولى، هي ان الملك عبدالعزيز قد استطاع ان يجعل المشروع مشروعاً تنموياً، وانه قد احتمل في سبيل ذلك كل المتاعب والصعاب الداخلية والخارجية.
وقد استطاع الملك عبدالعزيز ان يحقق النجاح لمشروعه بعدة وسائل واتجاهات زرعها في عقول البدو وقبائلهم عن طريق علماء الدين والمطاوعة والمرشدين, كما انه استطاع ان يقنع رؤساء القبائل بالحضور الى الرياض والدراسة في مسجدها الكبير، واصدر اوامر بإعطاء شيوخ القبائل بيوتاً في الرياض، مما شكل منهم قاعدة لتكوين بدايات الوعي بنظام للدولة, واستخدم الملك عبدالعزيز قدراً كبيراً من المرونة في تنفيذ مشروعه، فقد سمح لكل قبيلة ان تستبقي قسماً من افرادها في الصحراء يعملون في الرعي، على ان يرسل الباقي الى الهجر للقيام بالاعمال الزراعية, كما كان يرافق عملية التوطين توزيع الاراضي المجارة للهجر على البدو المقيمين في الهجر الجديدة، فيحصل البدوي على قطعة من الارض لم يكن ليحصل عليها لولا مشروع الملك.
ولابد مع هذا ان ننظر الى مشروع التوطين ليس فقط على انه مشروع ساعد الملك عبدالعزيز في حركة توحيد المملكة التي قام بها،ولكنه كان اساساً بني عليه بقية مشروعاته طويلة الامد في بناء الدولة, ووضع تنظيماته الجديدة وتلقين البدو معنى المواطنة والارتباط بالوطن, وبذلك مهد الى تهذيب النظام القبلي البدائي السائد آنذاك, واستطاع ان ينقل شيوخ القبائل للعيش كرؤساء للهجر الجديدة فتغيرت مهمتهم واصبحوا اداريين، يعينهم الحاكم المقيم في الرياض، وبدأ الوضع الاجتماعي للبدو يتغير بانتقالهم من وظيفة الرعي الى وظيفة الزراعة، وانفتحت الهجر لعدة فروع من القبائل, فمن المعروف ان الارطاوية وهي اول الهجر واكبرها كانت مزيجاً من قبائل حرب ومطير، وان هجرة الغطغط التي كانت ثانية الهجر في التأسيس كانت تضم قبيلة عتيبة وافخاذها مما ساعد على وضع اسس المجتمع الجديد الذي كان يخطط له الملك عبدالعزيز ليدمج البدو في مجتمع واحد.
وتحسن الاشارة هنا، ونحن في معرض التطور لمشروع الهجر وجوانبه المتعددة الى ان الملك عبدالعزيز استطاع خلال تنفيذه لمشروعه ان يقلل من الغلو والتعصب، وبالتالي مهد للقبول بمنجزات الحضارة والتقنية الحديثة مثل الهاتف واللاسلكي، بل والطائرات ،وتحمل التعامل مع الخبراء الاجانب وتخفيف المواقف,, هكذا ترك مشروع الهجر آثاراً واضحة على مستقبل المملكة، وفتح الطريق لتنمية طويلة الامد وحقق للبلاد سلاماً جعل التجارة مأمونة، ووضع اسس الازدهار الاقتصادي وسير المجتمع نحو الرخاء والتقدم.
وعلى الرغم من ان مشروع الهجر كان اساساً مشروعاً اسكانياً وتعليمياً وليس مشروعاً زراعياً واسعاً، الا انه فتح الطريق لمفهوم التنمية الذي مارسه الملك عبدالعزيز لعدد من المشروعات الزراعية الواسعة، والتي بدأت في السنوات التي صاحبت نهاية حياة الملك عبدالعزيز، وسار في تنفيذها خلفاؤه المباشرون حتى قبل بداية الخطط الوطنية.
فقد استطاع الملك عبدالعزيز بعد ان تيقن من توفر المياه في العديد من مناطق المملكة، عن طريق آراء الخبراء الذين استقدمهم لهذا الغرض من الولايات المتحدة، أن ينتقل بمشروعه للهجر الى تنفيذ برنامج كبير في توطين البدو، ودفعهم للإسهام في النهضة الزراعية، عن طريق ما عرف فيما بعد باسم مشاريع التوطين الكبرى التي نفذت في الفترة الواقعة بعد وفاة الملك عبدالعزيز - يرحمه الله- وبدايات خطط التنمية كتأكيد لمعنى التنمية المستمرة، ولقدرة الملك عبدالعزيز على فتح طريق المستقبل.
|