تبقى لذكرى الدراسة الجامعية في أمريكا وفيما سواها من أرض الله مساحة اثيرة في النفس لا تغرب عنها شمس الخاطر، ولا يغادرها قمر الحنين! والذين أموّا تلك الديار البعيدة من ابناء هذه البلاد لغرض الدراسة عبر العقود الاربعة الاخيرة من هذا القرن عادوا منها أصنافا من البشر!
***
* فمنهم من لم تتجاوز به تجربة العيش في العالم الجديد جدران المأوى، وقاعة الدرس، وربما مكتبة الجامعة، فنال من العلم واللغة ما يحرز به شهادة ما,, وعاد إلى الوطن (عذريَّ) الذهن والذاكرة والوجدان، وسرعان ما زحفت رمال الحياة العملية والأسرية على معالم شخصيته لتُلحقها بموكب (المعتاد): قولاً أو عملاً!
***
* وهناك صنف آخر فقدَ توازنه في العالم الجديد منذ اللحظة الاولى انبهاراً بما استقبلته حواسه الخمس، فمنح الدراسة من نفسه حداً أدنى: وقتاً واهتماماً وجهداً، وراح يتعامل ببوهيمية مستترة مع المواقف والاشخاص بهدف حيناً,, وبلا وعي أحيانا، وقد يصاحب ذلك تعثر في الدراسة، فيقفز إلى هذه الكلية او تلك، مستفيداً من (مرونة) التعليم الجامعي في أمريكا، ثم يفوز في النهاية بشهادة ما، ويحزم حقائبه عائداً إلى الوطن مشدوها بما رأى وسمع وذاق من لذات الحسّ,, وبرصيد متواضع من اللغة ومن الفهم والاستيعاب لمفردات الحياة هناك! وقد تقترن عودته إلى الوطن بحواء شقراء أو صفراء,, تلخص حصاد ركضه الاجتماعي في ديار الغربة، وليضع أهله ورفاقه,, و(فتاة الوطن) التي تترقّب عودته,, أمام حتمية (الأمر الواقع)!
***
* وهناك صنف ثالث منحه الله نعمة التوازن عقلا وبصيرة ووجدانا، لم يفرط في واجبات المهمة الشريفة التي شد الرحال من اجلها, فكان التفوق الدراسي همه وغايته، لكنه لم ينس في الوقت ذاته نصيبه من زاد الثقافة ومتعة الخاطر البريئة, وعاش تجربة سوية مع رموز الاشباع لهذا وذاك، متيحا لنفسه فرصة (التعلم) بمفهوم أرحب وأشمل,, دون ان تهتز في نفسه هوية الولاء لقيمه وجذوره، او تتعثر في عزمه آلية الانجاز لمهمته, ففاز بالنعيمين: تفوق في الدراسة، وحصاد من المعرفة والخبرة منحته شفافية وانفتاحاً حيال نفسه ومن حوله!
***
* نازعتني هذه الخواطر بعد ان فرغت مؤخراً من قراءة ممتعة ومثيرة للرواية الجديدة التي ابدعها خيال معالي الصديق الاديب الاستاذ منصور بن محمد الخريجي، الموسومة (دروس اضافية)، وهي انجاز أدبي جميل يقع في ثلاثمائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، جاء ليؤكد من جديد ملكة الاستاذ الخريجي ورسوخه في فن الرواية، وقد انفق في اعدادها وقتا طويلا حتى خرجت للناس قبل فترة قصيرة.
***
* وتمهيداً للحديث عن هذا المولود الادبي الجديد، أود ان أتوجه بالرجاء إلى محترفي الفن الروائي في بلادنا كي يحذوا حذو الاستاذ الخريجي في تدوين التجربة الثرة لمبتعثينا في الخارج روائيا، وخاصة من أمّ منهم قارتي أوروبا وأمريكا، خلال الربع الاخير من هذا القرن، ففيها من المواقف والعبر والمفارقات ما يستفز الخيال وصفاً ورصداً وتأملاً!
وللحديث بقية.
عبدالرحمن بن محمد السدحان