Thursday 22nd April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 6 محرم


ما يسمى بالشللية الثقافية,,!!

إن الأكثر انسرابا وتجذرا في البنية الثقافية التي نحياها ونتنفسها في هذا الفضاء هي تلك العوامل التي تنطوي على قدر كبير من الاشتباكات المعقدة, وهي تكون متشظية بالقدر نفسه الذي تذهب فيه الى الصلابة والالتحام، وهي كذلك منجذبة الى نفسها والى بنيتها الداخلية بالقدر الذي يحركها أناس فاعلون من الخارج، وفي كلتا الحالتين، تصبح الثقافة بجوانبها المتعددة بمثابة الخط التراكمي في انتاج المعرفة والمعنى وفي خلق الرؤية عبر تجلياتها للحياة ومفرداتها وللوجود وأشيائه، وليس ثمة من شك ان مساحتنا الثقافية الاجتماعية لا تحيد كثيرا عن ذلك تماما ولكن طالما يذهب مشهدنا الثقافي في اضفاء الشرعية المعرفية على المؤسسة بوصفها تعبيرا تقدميا وطليعيا عن الذات المعرفية داخل المجتمع، وبوصفها تنظيما هيكليا للثقافة نفسها التي تخترقها وتنبني فوقها كسيرورة ملازمة للتطور الحياتي، رغم هذا كله فاننا نجد انه بالقدر الذي تسعى فيه المؤسسة الثقافية باي شكل تعبيري كانت في تثبيت النمطية المنتقاة من المعرفة، فانها تترك في الهامش نموا قابلا للتضخم والامتلاء,.
نموا هو أقرب ما يكون بالثقافة المضادة التي تنتج شروط وجودها من البيئة ذاتها التي تنبعث منها أغلب عناصرها المعرفية، وإن كانت تحتفظ بعلاقة تحفزها على المجادلة مستقبلا مع المؤسسة ذات القول الفصل.
ان المشهد الثقافي عندنا خادع تماما مثل السراب ففي الحركة ينوجد السكون وفي السكون تنوجد الحركة حيث نجد ان هناك ثنائية تراسلية تكون حركتها في بعض الأحيان مضادة ومعاكسة وفي بعض الأحيان محايثة ومتساكنة، هذه الثنائية تعطي مؤشراً على الصعوبة بحيث تبدو وكأنها عصية على الإمساك ضمن مقاربة تهدف بالأساس الى فهم هذه الإشكالية المطروحة امامه دون تعثر او عناء.
اننا بالكاد معنيون بهذه المسألة في شتى صورها وفي مناظيرها المختلفة، واذا كان ثمة تلمسات أولية نضعها قبالتنا كي نرصد متاهاتها فاننا نتساءل: هل التكتل الثقافي او ما يسمى بالشللية الثقافية هي نتاج او افراز طبيعي من قبل مؤسسة ذات ثقافة سائدة أم هي نتاج لثقافة مضادة تنمو في الهامش,,؟ بمعنى آخر: هل العلاقة المعقدة بين المؤسسة والثقافة والمثقف تنتج بالضرورة شللية ثقافية متنوعة حسب المنظور المعرفي لكل منها,, وكيف يتم ذلك؟ وهل هي حالة عامة او خاصة؟! ان ما يجعل الإجابة معقدة هو ما نلحظه من تجليات واضحة في مشهدنا للشللية الثقافية اذ تنتمي في وجودها وتوجهاتها الى تلكما الثقافتين, مما يوجد صعوبة في ردها الى مرجعية واحدة وثابتة في نفس الوقت، إلا ان هناك تباينا واضحا نستشعره عبر علاقة المثقف بشلليته، وما يستتبعه من التزامية بالموقف والرؤيا كعلامة فارقة يتسم بها الإطار الحركي للشللية، الأمر الذي يتضح تماما حينما يتحرك المثقف فوق مساحات شاسعة تمتلىء به معرفيا وثقافيا وإبداعيا خصوصا في ظل مشهدنا الثقافي شديد التنوع، حينئذ تلتبس أمامك تلك الحالة بما هي تناسل طبيعي في اي مشهد ثقافي في أي مجتمع ما,,!! حيث المثقف له القابلية في ان يختزل في رؤيته وموقفه تيارين مختلفين من الثقافة في الجذور والمنبع دون ان تظهر أي علامات فارقة على السطح اثناء حركته الثقافية في الحياة اليومية وهنا يكمن وجه المفارقة التي تجعل من الثقافتين او كل ثقافة بما تفرزه من معطيات تتشرب المثقف ذات خصوصية على أي نحو كانت وفي أي جهة تتكون وتتشكل ناهيك عن العامل الاثنوغرافي الذي يجعل التعبير اللغوي في ساحتنا ذا ثغرات يصعب ترميمها مما يؤدي بالضرورة الى افراز (شللية) ثقافية تعبر عن كينونتها الذاتية بانسجام وتناسق تام.
في ضوء التصور السابق أجدني منقادا الى القناعة التالية: ان ما يسمى بفكرة الاختلاف المتولدة من أفق تعدد الرؤى والتوجهات غالبا ما تصبح فكرة طارئة ومسقطة تتبناها الشللية الثقافية المرتبطة بالوعي العام السائد لا لأجل الانفتاح الأفقي والعمودي في تيار التعالم الثقافي بل لأجل تدشينها في الخطاب دون ان تمس ثوابته الراكدة والعميقة في نفس الوقت.
بينما تصبح فكرة الاختلاف والمغايرة بمثابة السياج الذي يتأسس عليه الوعي الثقافي المهمش حيث تغدو الذات المثقفة البعيدة عن الوعي العام وطرق تفكيره أكثر التصاقا بهذه الفكرة لانها تعتبر بالنسبة له احد الوجوه الأخرى المحققة لوجوده وكيانه في الحياة بجميع تفاصيلها بخلاف (الآخر) الذي يحايث الفكرة لمقصدية معينة في الحياة والفرق بيّنٌ وواضح بين الثقافتين او بين المثقفين وهذه احدى الاشكاليات المهمة التي لا يمكن ان نتغافلها تماما او نلامس السطوح منها فقط دون التأمل في عمق الأسئلة التي تنطرح بشكل تتشظى معه الذات المثقفة والمبدعة داخل المشهد الحالي.
ان الظاهرة الصحية للشللية الثقافية لا تتوقف عند حدود الانتاج الكمي للمعرفة بل تتعداها الى ما هو اوسع من ذلك بحيث يصبح مفهوم (الشللية) في إطار العمل الثقافي عاملا او حافزا مهما، ليس في كمية الانتاج الثقافي الأدبي فقط وإنما ينبغي ان يشكل نقطة انطلاق في توسيع دائرة البحث والتنقيب الثقافي بصورة تكون أقرب الى الاهتمام في تكوين وإرساء مشاريع ثقافية تضم أكثر من ذات او ذوات ثقافية في حالة انسجامية متوازية مع بعضها البعض الأمر الذي يخفف بالتالي من حمولة المفهوم ايديولوجيا ويكسبه بعدا إيجابيا ينشغل بما هو معرفي ثقافي بالدرجة الأولى عن الجوانب الأخرى التي لا تمس الهم الثقافي إلا ظاهريا ولكن مثل هذا التوجه أشبه ما يكون معدوما في مشهدنا الثقافي وقلما تتواجد مشاريع ثقافية تستقطبها الممارسة الثقافية لما يسمى بالشللية واذا كان مثل هذا التوجه هو أقرب الى عمل المؤسسة الثقافية (الأندية الأدبية الجمعيات الثقافية) فانه فما زال بمنأى عن دائرة الاهتمام,, وانه ان وجد فانه يظل في حيز لا يتعدى تأثيره سوى مجالات محدودة من المعرفة خصوصا اذا كانت ساحتنا الثقافية من التنوع بحيث يصعب معها انجاز مشاريع ثقافية فردية بمعنى: انه مهما وجدت مشاريع ثقافية قائمة على ذات مثقفة واحدة,,
ومهما تحققه من نجاحات ثقافية كبيرة، فانه بالرغم ذلك فنحن بحاجة شديدة الى مثل هذه المشاريع الثقافية الجماعية المهمة سواء على الصعيد المحلي او على الصعيد العربي الثقافي.
محمد الحرز

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved