حين غنت الزرقاء,. قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشجر؟ للشاعرة ثريا العريض د, محمد محمود حومة |
* وحين تقول الشاعرة:
لأقسم: غيرك ماكان,.
غيرك ماكان, ياوطني
فكيف تبعثرني،
بددا بددا؟
ص 26
هنا نلمح قسما نسائيا رقيقا، ان التكرار يحمل الود والحنان اكثر مما يحمل القسم، غير ماكان,, ثم تكرر جملة,, غيرك ماكان,, ياوطن,, ثم تأتي الى العتاب: فكيف تفعل بي كل هذا؟! انه العتاب الحار بين حبيبين، الوطن والشاعرة، كلاهما لاينكر الآخر ولكنها ظروف قاهرة تفعل بها كل ذلك، ان الود باق لدى الشاعرة، فليفعل الوطن مايشاء فهو الغالي وهو الباقي, القسم رقيق حنون ليس فيه من قسم الرجال غلظته وشدته وجديته، اما هذا القسم فانه يشي بالدلال بين عزيزين لايستطيع احدهما ان يستغني عن الآخر, وتتضح كذلك خصوصية لغة النساء وشخصيتها المتفردة في هذا المقطع الجميل:
احبك,,؟
كل وجودي انت!
بكل جفافك,.
كل الغبار,.
فيك العيون التي سكنتني تظل!
والوجوه التي سكبت بملامح وجهي
انعكاسات اشجانها,, لم تزل!
هموم الصغار,.
غضون الكبار,.
ص 46
تمر المرحلة بمرحلة وجد مع الوطن، فهو المعشوق الاول، وهنا تستدعي من ذاكرة الانثى مترادفات الحب والعشق لتدشنها فوق الوطن وتختزلها في لغة انثوية في كل مفردة تقريبا، فالمرأة مفتاحها الحب ولذا يأتي التصريح في بداية هذا المقطع: احبك، والحب هو العطاء الوحيد الذي تستطيع المرأة ان تعطيه بمهارة، انه من داخلها لم يفرضه احد عليها، ثم تقول: كل وجودي انت,, لغة حارة لامرأة عرفت الحقيقة وانها لاتستطيع ان تعيش وحدها دون حب -دون وطن- دون عناء، فالوطن ايضا هم وعطاء وهي قادرة على بذل الثمن، لذا فهي لاتريد تغيير خارطة الحبيب الجفاف - الغبار انه حبيب ولكن,.
والعيون هي اول مفاتيح الحب والاشارة الاولى له، وهذا ما اكده المقطع، هذه العيون التي عشقت لاجلها وطني تظل دائما وابدا باقية لاتموت بمرور الزمن فالحب باق، وشيء آخر يأتي بعد العيون هي الملامح فحتى ملامحي -تقول الشاعرة- تدين للوطن، فالوطن هو الذي اودع فينا سره وسحره، اللون والشكل والتكوين، وترى الشاعرة كذلك انها نبتة من الوطن اذا انقطعت عنه تموت, ان العلاقة بين الشاعرة والوطن ذات خصوصية كما ترى ثم ان الحب هو الذي شكل الصورة من بدايتها, لننظر مرة اخرى الى هذا المقطع احبك -فيك العيون- الوجوه سكبت - ملامح وجهي ثم تأتي جملة هموم الصغار غضون الكبار وهي تذكرنا بالام التي تشكو من عبث صغرها وشقاوة اولادها، ام مغلوبة على امرها، تحبهم مهما فعلوا بها,, كل هذه المترادفات والاستداعاءات الانثوية للمرأة والام تقدمها الشاعرة في قصيدة حب الوطن فتنجح في تشكيل لغة خاصة بها تحمل شجنها ولوعتها، انّاتها وافراحها، لغة تتشكل داخلها وتقدم نفسها لنا من خلالها.
وحين تستدعى الشاعرة من ذاكرة الطفولة صورة تقدمها لنا فانها تحمل لنا صورة ام، تقول:
واذكر,, بين طيوف الطفولة
كنت يوما اطير
وللافق صدر حنون
يهدهد صوتي
وللقلب نبض حنون
وخفق جناح!!
المفردات لام تهدهد رضيعها فوق حجرها، والشاعرة ام، تقدم لنا صورتها حتى حين ارادت ان تعود الى ذكريات الطفولة، فهي لاتنسى انها امرأة واحلى لحظاتها تلك التي تمنح الوجود انسانا جديدا طفلا يحمل الخير والحب لبني البشر، والكلمات تتتابع كل منها تستدعى الاخرى الطفولة تستدعى صدر حنونٍ يهدهد صوتي، نبض، خفق، جناح وتنقل الكلمات كذلك لهفة تنعكس على تشكيل الصورة التي جاءت سريعة لاهثة حاولت فيها الشاعرة ان تستغل الموقف الدرامي للطفولة تنقل لوحة من مخزونها, مخزون المرأة التواقة الى منح العالم طفلا جديدا وهذا يعني المستقبل: الغد الجديد والامل الجديد.
وللشاعرة كذلك لوحات شعرية شكلتها من مفردات المرأة البسيطة التي توجد خلف جدران منزلها تهيىء لزوجها ولاولادها حياة كريمة ميسرة، لنلتقط هذه الصورة الجديدة ايضا:
تعثرت بالصمت
حين مددت يدي لازيح الستائر
كان يحدق بي ساخرا واراه
كالافعوان الرهيب
-الذي في الطفولة ارّقني-
يتربص بين الزوايا
وخلف انعكاس المرايا
لينسلّ بين الضفائر
وينفث من سمه في الشفاه ص 95
هذه الصورة تساقطت على ذاكرة الشاغرة من تفاصيل الحياة اليومية, هي امرأة وتستخدم تجربتها حتى تلك البسيطة في التعبير عما يعمل في داخلها، لقد تعمدت فيما يبدو استعمال تلك المفردات واستدعت تجربة سيدة تنشغل بأمور حياتها البسيطة كتنظيف بيتها مثلا، وتصبح هذه التفاصيل الحياتية الباهتة حالة شعرية تنجح الشاعرة في تكثيفها وشحنها بالتوتر الشعري، ورغم بساطة المفردات في الظاهر الا انها لاتخلو من صعوبة,
ان امرأة تواجه الصمت والفراغ حين مددت يدي لازيح الستائر -كان يحدق وها هو الصمت يذهب معها الى كل ركن من اركان البيت بين الزوايا -خلف انعكاس المرايا هذا العدو -الصمت- تعرفه الشاعرة، لقد جربته من قبل ولكنه يعود الآن اقوى واكثر قدرة على الاذى، ذلك ان الشاعرة -المرأة- قد كبرت وتمردت ورفضت هذا الدور -الجارية- وحملت لواء الشعر، فأصبح لها رسالة ووظيفة تؤديها بحب لوطنها الغالي, ثم يتسلل الصمت فجأة ليصل الى الضفائر وينفث سمه بين الشفاه، هذه التفاصيل الانثوية تحمل خصوصيتها ومفرداتها في عملها المنزلي تنظيف الستائر- زوايا- مرايا او في خصوصياتها ضفائر - شفاه .
هذه هي لغة المرأة وتلك مفرداتها تستدعيها الشاعرة لتحولها الى مفردات شعرية ولكن يبقى صداها كاشفا عن المصدر الاول الذي امتاحت منه هذه الصور, شخصية المرأة وحاجياتها واهتماماتها، وعندها تبلغ الشاعرة درجة كبيرة من النضج الفني اذ انها تستخدم مفرداتها هي، لاتزوق كلماتها او تزينها ولكنها لاتخجل من تجربتها كأنثى لها قاموسها الشعري الانثوي, ولقد غيرت الشاعرة رأينا بهذه التجربة في موضوع الادب النسائي اذ انها تثبت في غير شك انه يوجد شعر للنساء لايستطيع الرجال قوله ولصدق الشاعرة مع نفسها ولثقتها في ادواتها الفنية استطاعت ان تنجز كل ذلك دون ضجة او صراخ لقد قالت انا هنا موجودة، اتحدى واواجه دون ان تستعدي احدا عليها، ومن الذي يرفض تحليق الفراشات الجميلة وغناء الزرقاء.
ثانيا البوح,, الرؤيا,,:
فتحت الشاعرة عينها فجأة على الحقيقة المفزعة، رأت وعلمت وعرفت، فكان لابد ان تحمل هم هذه المعرفة، ان تنقل النبوءة الى الغافلين، وجدت الشاعرة عربا يتصارعون، يتآكلون والعدو على الابواب ينتظر اللحظة المناسبة كيما ينقض على فلولهم الهاربة, من الذي يملك جرأة الصراخ في وجوهنا؟ من يوقظنا؟! من يحمل على عاتقه سيف الكلمات ويقطع بها صمت الواقع, لا احد يجرؤ ان يتكلم، نحن العرب اصحاب الامجاد ماذا ينقصنا، وهكذا نتعاطى الاكاذيب ونمارس التيه ونستسلم لمخدر الهروب بحثا عن سلام زائف يزيد من تشرذمنا، الشاعرة تعي الموقف الحضاري الذي يحياه العرب، ماذا تفعل هل تسكت؟؟ هل تنسحب الى دارها تمارس الحياة العادية الزائفة, لقد وهبها الله المعرفة والقى في قلبها نور اليقين فلماذا لاتصدح بكلماتها، تغني لقومها، تصرخ احيانا,.
امتلكت الشاعرة عيني الزرقاء، جسارتها وجرأتها ومن هذه الزاوية راحت الشاعرة فنيا تشكل رؤيتها بالعين وتميل الى توظيف العين في الصور التي تبدعها, ان الصورة الشعرية التي تتكىء على البصر هي اقرب الصور الى المبدعين ولكنها لدى الشاعرة تأخذ منحى آخر يكتسب خصوصية التجربة ذلك ان العين ترى ولكنها تفكر بماتراه، وتتراوح الصورة عادة بين معاينة الواقع ونقله من خلال عيني الزرقاء، ونعثر بذلك على امثلة طيبة لاستخدام البصر في تشكيل الصورة وبين تشويه العين ورفض لوظيفتها فنعثر -وهنا الخصوصية- على صور بصرية جريئة ترصد العين ابعادها ولكنها تميل الى تحجيم دورها ومحاولة تقديم رؤية بصرية جديدة لاتلعب العين -اداة البصر- اي دور فيها.
ان البوح هنا للشاعرة ثريا العريض ولكن الرؤيا للزرقاء! والبوح غير الرؤيا، البوح ان تقول وتكشف عن اعماقك ولكن الرؤية استشراف وقراءة للمستقبل، واذا كانت زرقاء اليمامة قد استخدمت عينيها فعلا وحذرت قومها، فان ثريا، لها عيونها -حروفها- كلماتها التي اكتسبت بعدا رؤيويا بصريا امتلكته بجدارة وهي تجرب ادواتها وتمرن كلماتها بين الحين والحين حين عثرت على رمزها، الزرقاء وامكن من خلاله ان تخبرنا بما تريد.
تتشابك لدى الشاعرة العناصر الاربعة: هي الشاعرة، الزرقاء، البوح، النبوءة ومن تشابك هذه العناصر راحت الشاعرة تنسج جدائل شعرية تثبت انها شاعرة ولها اسلوبها ولها صوتها المميز على الساحة الادبية.
أ النبوءة:
تقدم الشاعرة نبوءتها لمرة واحدة في الديوان كله, لقد اذاعت النبوءة كما تعلمتها من الزرقاء ورفضت ان تسكت:
ارى شجرا يتدانى الينا
هشيما تخطاه وعد المطر
ارانا نمد اليه يدينا
فيأكلها جمر ذاك الشجر
ارانا واعيننا مطفأة
تضيعنا عتمات البصر
فمن يشتري بصري؟ ,, يشتريني؟
ويدفع عنا بلاء الخطر؟
كفى يا امرأة
كفى يا امرأة
تريد الذي لايرى
تحت الثرى
وفوق الثرى
وخلف امتداد الوهاد
وعرين الذرا ص 32 - 33
خرجت النبوءة مكتملة العناصر فهي بين علامتي تنصيص، فالقول ليس قولها، انما جاءها من الزرقاء وحملته الينا واعلنت التحذير ولكن القوم كذبوها فما عاد لعينها وظيفة ولذا تنادى من يشتري بصرها او يشتريها لتفتدي الوطن ولاتعيش لكي ترى اللحظة المفجعة القادمة, وصورة النبوءة في هذا المقطع، تقترب من التراث، تلك النار المشتعلة نار الحرب، وليست نار القرى، تحمل الانذار الاخير لكل ذي قلب يشعر او عين ترى,, النار تشتعل والخراب يقترب ولامصدق، لقد تحول الشجر الاخضر -الذي كنا نحبه ونبحث عنه- الى هشيم، صار الشجر خطرا علينا تحول من الاخضرار الى الشر المستطير، واذا لم نصدق النبوءة ومددنا ايدينا اكلها الشجر، لانه ليس شجرنا الذي اعتدنا عليه انه شجر النبوءة الذي جاء الاعداء خلفه، مختفين تحته وفوقه,
وفي الوقت الذي تشتعل فيه نار الدمار تنطفىء العيون وتنتشر الظلمة، فهذه النيران لاتبدد ظلاما او تساعد على الرؤية، انها نيران الاعداء التي تأتي على الاخضر واليابس نيران فقدت وظيفتها بالنسبة لنا وصارت شرا علينا الهروب منه قبل فوات الاوان,, في حين يصور المجتع قراره: كفى يا امرأة، ويصبح المجتمع كالببغاء، يردد مايسمع دون ان يعقل، هي تنبه وتحذر وهم لاهون لايسمعون ولايعلمون بل يسخرون ترين الذي لايرى ؟! ويضيف النص بين القوسين ان الخطر آت من كل مكان تحت- فوق- خلف- عرين الذرا واذن لا مفر!! ادخلت الشاعرة هنا رمز النار وافادت منه في الصورة الشعرية السابقة، والنار معطى تراثي شعبي يستجيب لمحاولة توظيفه لمن يمتلك مهارة الابداع, ومراحل النار كما وردت في المقطع السابق هي هشيم- جمر- مطفأة- عتمات الهشيم والجمر لنا والمعنيان الآخران للعين التي انكرت حتى مرأى النيران فصارت عيونا عمياء لاترى,,!!
|
|
|