Thursday 22nd April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 6 محرم


الثقافة رهان حضاري
(8) نماذج غير ثقافية
أ,د, كمال الدين عيد

إذا كان مقالي الأسبوعي السابق (غث وغثيان في الثقافة؟) قد تعرض إلى ما أطلق عليه علماء الجمال نظرية الغث، على المستوى الفلسفي النظري، فإن هذا المقال بالنماذج العملية السائدة في عدة مسارح عربية وأوروبية يضع صورة تطبيقية لما يعرض على جماهير عصرية, وكلها نماذج فاسدة تحمل شعار الثقافة كذبا وخداعا، وتشوه هذا التعبير الجميل المتفائل الذي نطلق عليه نقطة الثقافة, مما دعا عددا من المثقفين العالميين إلى اطلاق نقطة
Anti -CULTURE مضادات الثقافة عليها.
النموذج الأول
والذي هلّت تباشيره (للأسف) في بداية عقد ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها مباشرة في مدينة ليفربول Liverpool في بريطانيا , مجموعات عديدة من شباب هذه وتلك يرفعون راية التمرد والعصيان على الحياة ونسقها, معلنين برنامجهم البشع المعادي لكل فكر وعقل، والهادف إلى قطع كل العلاقات بكافة أنواعها مع مجتمعاتهم من أجل اعلان شكل جديد للحياة!! وسرعان ما انضم إلى هذه الجماعات شرذمات ضائعة من مدمني المخدرات بأنواعها العديدة المنتشرة وجاء في بيانهم Manifest أن طريق التغيير يتخذ الأدب والفن طريقا ووسيلة لتحقيق غاياتهم (المجنونة) ، وهي الجماعات التي عرفت فيما بعد باسم (الهيبز) Hippy.
وسرعان ماانتشرت موجة مضادات الثقافة هذه حتى أضحت حركة خبيثة داخل مجتمعاتها أطلق عليها اليساريون الجدد التي تحمل أيديولوجيا جديدة وسياسة مغايرة لما في بلادهم,وبتصنيف هذه الجماعات اتضح أنهم - من زاوية العقيدة - فوضويون Anarchist من اتباع مذهب الفوضوية ، ماويون Maoisht ، يساريون اجتماعيون ، زنجيون منارون بالقومية وباصرارهم على استعمال الفنون لترويج حركتهم ابتدعوا تعبير (الفن السري) أو فن تحت سطح الأرض UNDR GROUND, لكن أي نوع من الفن قدموا؟
قدموا فناً مليئاً بالاثارة والإهاجة AGITATION كل أهدافه الدعوة إلى اثارة الشعور العام، خاصة فيما يسمى القضايا السياسية، وأغرقوا الجماهير في دعاية للمبادىء اليسارية AGITPROP ، وإعداد الناس إلى الامتلاء بشرور الثورات, وفي فن الموسيقى والفن التشكيلي عرضوا أشكالا لفن الطقّة الرديء POP ART، وفي المسرح صال المسرح الحي وجال Living Theatre ولم ينج من مضادات الثقافة هذه غير فني الأدب والسينما ، لماذا؟ لأن هؤلاء المجانين لم يكونوا على درجة عالية من العلم ليبدعوا أدباً أو شعراً، ثانياً لم يكن باستطاعتهم التصدي لانتاج أفلام تكلفهم مالا لايتوفرون عليه، باستثناء بعض أغاني الاحتجاج والاعتراض التي غنى بعضا منها الفيس بريسلي ، وحمدا لله أنه رحل مبكرا.
المهم ان حصيلة هذه الفنون المجنونة اتسمت جميعها بالمرضية Morbidity ( أي انها ناشئة عن مرض وتولد مرضا) الحاملة لأسلوب اللذع والقوة، كما لونت الكآبة هذه الأعمال, وسرعان ماانحسرت هذه الموجة عام 1968م,, هذه واحدة.
النموذج الثاني
وأستقيته من حديث لمخرج مسرحي تشيكي من مواليد 23/11/1921 يدعى أوتومار كرايتشا Otomar Krejca نشرته عام 1967 مجلة المسرح التشيكية (ديفالدو) Divaldo عن التجريب المسرحي وتيار العصرية في الفنون المسرحية, يروي في حديثه - تفصيلا - تجربة عصرية!! للمسرح الحي شاهدها في أحد مسارح فرانكفورت Frankfurt Am Main
(المانيا الغربية آنذاك).
يقدم المسرح عرضا بالقرب من مرفأ مائي تحت اسم Hippenings (هيبيزيات) يبدأ العرض بمسيرة للفرقة المسرحية, عازفون موسيقيون يتخذون أمكنتهم في نصف أتوبيس من ماركة الفولكس فاجن، ولكنهم لايعزفون شيئاً (أول المتضادات), ثم تظهرامرأة شابة,, عارية تماماً على ظهر حصان,, يتصرف الحصان كانسان في مشاعره ، ثم تظهر بعد ذلك الفرقة المسرحية, ترتدي أزياء من الستان الشفاف الفاضح، فساتين على موضة الشوال, وطبعاً تكشف الشفافية كل شيء بلا استثناء,, (ثاني المتضادات بعرض الفسوق والخلاعة باسم الثقافة), بعد فترة ترتفع الملابس الشفافة عن الجميع ,ثم,, يبدأ الممثلون في توزيع صفارات على الجماهير المشاهدة ،كما لو كان الموقف في أحد الأسواق التجارية ويبدأ الأطفال من المشاهدين بالصفير المزعج (ثالث المتضادات فالتربية عامل وأساس في بذور الثقافة), ويعلو صفير الأطفال حتى يصبح هديرا مقززا وسط هرج ومزح تحفه الفوضى والاضطراب وفجأة تبدأ مكبرات الصوت في الزعيق المزعج, ويأتي قادم من بعيد يطلب من الجماهير المحتشدة على أشدها ( أن تمارس سعادتها في حرية، وأن تحب بعضها بعضا، والا تنسى أنفسها وسط مشاغل وصعوبات الحياة, ومكرراً ألا تنسى ألا تنسى, ثم يزحف أحد الثعابين الكبرى (ثعبان حقيقي وليس تمثيلا) قادما من البحر إلى المرفأ وطبيعي أن يسود ساعتها هرج ومرج بين الجماهير ، لكن من نوع آخر، نوع يسيطر عليه الهلع والقسوة ويعلو الصراخ والزعيق والذعر, وتختلط صيحات النجدة بسخرية وضحكات المجانين, بينما أصوات الجماهير والنسوة تعلو صائحة,, ثعبان ثعبان, وتتواصل الأحداث البشعة,, (رابع المتضادات، فليس في قاموس الثقافة منذ نشأتها هذا النوع من التثقيف), البعض يفر هاربا ينبطح الأطفال تحت الأقدام، والوالدان يبحث كل منهما عن فلذة كبده, ثم,, تنتهي المسرحية بلا ستار للختام.
ولايفرق كرايتشا في حديثه بين عرض فرانكفورت وعرض مشابه من المسرح الحي شاهده في هافانا Havanna باسم (احتفال ديني سري)، إذ لم تكن هناك أية احتفالات لاسرية ولاعلنية لكن الحقيقة هي البحث عن اسم مثير حتى ولو لم ينتم إلى موضوع العمل الفني.
والآن ماذا أقول إلا أن تجارب المسرح الحي على يد الشمامين للمخدرات وساقطي المجتمعات الأوروبية وفاقدي العقول، هي تجارب لاتضيف إلا هذرا إلى المجتمع، ولا تقدم على المسرح الثقافي - كمؤسسة ثقافية كما أطلق عليه الألماني جوته - إلا الأكاذيب والموبقات ( ومعذرة لهذه الألفاظ في مقال للثقافة) لكنها الحقيقة التي من الأمانة نقلها بحذافيرها ولحمها وشحهما دون تزويق أو تجميل.
أمثال هذه الفنون من الهيبز المنقرضين,, ماذا تقدم للشباب الأمريكي والأوروبي ، وهم غالبية مشاهدي المسرح هناك ؟ والشباب في كل العالم من خريجي الجامعات هم المنوط بهم تطوير وارتقاء الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتغييرها إلى الأحسن والأرقى.
منذ عدة أيام قليلة مضت استمعت إلى خبر تلفزيوني يعلن ان نسبة الطلاق في بلجيكا تعدت الخمسين في المائة، اضافة إلى مشكلات اجتماعية عديدة أخرى , ومع اعترافنا بتقدم التعليم الأوروبي في مختلف مجالاته وفروعه - وهو ماتؤكده الحياة المعاصرة باختراعاتها وتقنياتها - إلا أن جانبا مهما يبقى غائباً عن مجتمعات الغرب، المتقدم في أشياء وهو ما أحيله إلى قصور اجتماعي- ثقافي يعصف بالبشرية الغربية, وقانا الله مضادات الثقافة بأنواعها البراقة البشعة في آن واحد، بعيدا عن الشذوذ واللامألوف في حياتنا الأدبية والثقافية.
تنويه مضطر إليه
في نهاية مقالي الأسبوع الماضي 29 ذي الحجة 1419ه وردت عبارة فن التصوير الدنمري- وهي طريقة قيمة في التصوير الفوتوغرافي على ألواح فضية .
وصحيح العبارة فن التصوير الذغري (الغين) Daguerrotype وهي طريقة قديمة في التصوير الفوتوغرافي على ألواح فضية .
ويأتي التنويه حرصا على أمانة الكلمة ومعناها، خاصة وهي غير مألوفة , وشكرا لكل الزملاء والمصححين العاملين خلف ستار المعرفة لابراز كل حرف من حروف الجزيرة الغراء,, وفقهم الله، مع اعتذاري عن هذا التنويه الذي لابد منه.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved