Thursday 22nd April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 6 محرم


الخلفيات الجمالية والفلسفية للتراسل(1)
د, نذير العظمة

لماذا تهزنا قصيدة التراسل بين الفنون والشعر من جهة والشعر والفنون من جهة اخرى, بل لماذا يهزنا الشعر والفن ويوفر لنا المتعة الجمالية؟ ما هو السر في استجابة المتلقي حواس ووجدانا وفكرة لعمل فني او عمل شعري؟ لماذا نهتز للكلمة الشعرية؟ ولماذا نهتز للموسيقى ويثيرنا المسرح ويأسرنا الرسم، ويعجبنا النحت؟ ما هو القاسم المشترك بينها جميعا، ولماذا تتداخل بالشعر؟ هل لها شعرية واحدة مهيمنة او انها تتوزع في شعريات وخصوصيات متنوعة بقواسم مشتركة؟.
لا ريب ان التراسل بين الفنون يأخذنا الى فضاءات جديدة لا تتوفر لكل فن في حالة متفردة وان التراسل يأخذنا الى عوالم السنية طرية لا تعرفها القصيدة العادية، وان التراسل يدشن قيما لعلم جمال مشترك بين الفنون جميعا ويمس جانباً فلسفياً من فكر الإنسان لا يمسه كل فن في حالة معزولة.
ان الصورة كلمة ذات دلالة ولكن بإثارة حسية مختلفة, وهناك تفاعل ولا شك بين الكلمة والصورة والصورة والكلمة وزملاؤنا الفرنسيون على ولعهم باستنباط العلوم المتصلة بالبلاغة الحديثة كعلم السيمياء وعلم الدلالة وعلم القيمة وعلم صورة الآخر وغيرها ربما ابتكروا لنا علم سيمياء للصورة او الصورة السيميائية.
فالصورة لا تبهر العين فحسب بل تدلنا على معنى كفن الأيقونة البيزنطي وفن الهيروغليفيات الفرعوني والفن التجريدي للصورة الرمزية في الفنون الإسلامية.
الصورة النباتية والصورة الهندسية تتجرد من الصورة الإنسانية والصورة الرمزية (او المشوهة) تراعي الحس الشرعي, وتتجنب أثم الصورة المطابقة للهيئة البشرية المستكرهة في الموروث الديني، فالصورة بالاضافة الى انها صورة واثارة حسية وجمالية لكنها في الجوهر دلالة.
ان الصورة كلمة كذلك الكلمة صورة في فنون البيان والبلاغة وما اصطلح عليه بالصور البيانية والبديعية ان هو إلا تفتق اللغة الكلمة وتفتحها في الصورة.
وما تسميه البلاغة الأجنبية Figuers of Speech ان هو إلا إشارة واضحة الى صورة الكلمة على اختلاف الأشكال والدلالات.
فاستخدام علم لدلالة الصورة امر مغر كما هي مغرية بلاغتها وجسدها المجسم.
وكما ان الفنون كل فن يختص بحاسة فالموسيقى للسمع والرسم للعين,,إلخ فالشعر والمسرح تشترك فيهما الحواس جميعا.
ففي المسرح يشترك الكلام والرسم (الديكور) والضوء والعتمة وتشكيل الحركة والثياب في خطاب موحد يتسلل من الحواس جميعا الى النفس الواحدة ليوفر المتعة الجمالية.
كذلك في الشعر يشترك البصر والسمع والشم وحس الحركة ليصل الى الوجدان من قنوات متعددة في خطاب موحد يحدث الهزة الجمالية الشعرية للنفس الإنسانية الواحدة المقيمة خلف تعدد الحواس.
ان متعة الشعر والمسرح أكثر إثارة من الرسم والنحت ربما لأنها تضم اكثر من حاسة وتخاطب الفكر والوجدان عن طريق سياق موحد لحواس متعددة وفورية الإثارة في تلقي الشعر والمسرح لا ينقصها التأمل والحكمة اللذان يأتيان بعد الإثارة الحسية للحواس.
اما الموسيقى فطراز وحدها مع انها تتخلل النفس والوجدان عن طريق السمع, أما الرسم و(النحت) الذي يخاطب العين فإن إثارة البصر تؤدي الى إثارة البصيرة.
وتتولد الحكمة والتأمل في اعماق النفس بعد التشبع من موائد العين, ان اللوحات التي شاهدناها في متحف اللوفر وفرساي ونيويورك ومدريد ولندن وبيتسبرغ لا تزال ترقد في الذاكرة مع انها تسللت اليها من العين.
ان المعلقات السبع العربية التي تكمن نشوتها في الذاكرة تصبح خلقا آخر عندما تتجمع معا في معلقة بصرية ثامنة للفنان السعودي محمد بن علي العجلان وتزاح بالتسلل الى وجدان المتلقي عن قناة السمع الى قناة الرؤية والعين.
ولا شك ان مرجعية لوحات كهذه بالنسبة لفن الرسم هي حاسة العين إلا ان الإلهامات والإيحاءات المشاركة من مخزون الذاكرة في رفد الرؤية امر مشروع أيضا, وهو ما يوفره التراسل بين الشعر والرسم.
كما ان نذير نبعة الفنان السوري ينقل لنا بعض قصائد التراث الأندلسي من الشعر الى الرسم ويقيم فضاء مشتركا للسمع والعين في لوحات مغامرة ترافقنا الى عوالم طرية من الصورة واللون.
ولو تأملنا قبة الصخرة في القدس او محراب المسجد الأموي في قرطبة لراينا كيف حاول الفنان المسلم ان يعبر عن رؤياه في صورة رمزية مجردة يتداخل فيها ارتعاش النبات والخطوط الهندسية وانحناءات الحروفية العربية في سياق مشترك يعبر عن الرؤية الإسلامية لاتصال المتعدد بالواحد في تموجات رائعة وفيما هي شاخصة ونهائية تعبر عن الأزلي اللامنتهي الذي يتحرك في الأبد.
ان محاكاة الطبيعة الأرسطية ولا ريب هي ما يحرض ذائقتنا الجمالية ويثير اعجابنا كمتلقين إلا ان الايماء الى الطبيعة الواحدة وصانعها البارىء المصور هو الغاية التي يصل اليها فكرنا من المشاهدة للوحات الخالدة المنقوشة على قبة الصخرة ومحراب مسجد قرطبة وغيره من المحاريب المشهورة في عالمنا الإسلامي.
ان ارتياح البصر المتوجه الى العبادة تفتحا وإيماء وغمضا ينتقل الى البصيرة الساكنة في الأعماق سكن الإيمان ووعاءه وسياق جماليات الفنون الإسلامية البصرية التي تدمج الهندسة والشعر والصورة النباتية في سياق مشترك واحد تصل الى النفس المؤمنة المتعلقة بجمال الواحد البارىء الذي صورها وصور الكون.
والجمال الذي ينفذ الى النفس عبر العين بالرسم هو الجمال الذي ينفذ الى النفس عبر السمع بالشعر والفنون المتعددة بتعدد الحواس ان هي إلا طريق جمال مشترك,, والنفس الواحدة التي خلق الله منها الذكر والأنثى انه يبدىء الخلق ثم يعيده في ايما صورة شاء ركبه.
والتراسل بين الفنون المتعددة ان هو إلا توجه الى فضاء واحد مشترك بين الفنون لا يتوفر لها وهي معزولة، فيصبح الشعر رسما والرسم شعرا، ويصبح النحت كلمة والكلمة نحتاً وتصبح الموسيقى نصا والنص موسيقى كما في سمفونية شهرزاد للموسيقى الروسي رومسكي كرساكوف في القرن التاسع عشر، فالتراسل اذن ليس عبث الأشكال والأنواع الفنية بقدر ما هو شوق الى الكل، وتوق الى الواحد عبر جمال الكون الدال على البارىء والمصور.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved