قال أبو عبدالرحمن: كنت في جدة في عزلة عن الصحافة وفي هروب عن بعض الحقوق الواجبة والمستحبة للاهل والولد والصديق بالرياض، وفي رغبة عارمة الى العزلة والوحدة، لانجز بضعة مؤلفات طالت سنين تأليفها، ولم يبق الا لمسات قليلة: من تصحيح تجارب طبع اواضافة تحشية او تقليب مصدر طال بحثي عنه فلم احصل عليه الا بآخرة، أو حسم الامر في تعبير تلجلجت في صحته لغة او شرعاً,, ولم اعلم بوفاة معلمي وشيخي ووالدي سماحة الشيخ صالح بن غصون - قدس الله روحه - ونور ضريحه - الا عندما سمعت اعجاب المنتدين بمرثية معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر له (ولم أرها0 بعد) فاصابني بهت حتى كدت انسى ان الموت غاية كل حي,, والتذكير بهذه البدهية - وهي بدهية البدهيات - منتهى الكياسة,, ولكن الناس لا يعتبرون، او يكون ال0اعتبار لحظات ثم نعود الى مجرى العادةمن الغفلة,, وليس اسفي ان كلمة رثائي تأخرت وانما اسفي انني لم اعلم فأشد الرحل - واحضر الصلاة عليه وتشييع جنازته مع الجموع الغفيرة,, ومن احق بذلك مني؟!
قال ابو عبدالرحمن: من ظن انني عار من الشيوخ فانني أفخر بمشايخ داخل المدرسة وخارجها ابتداء بالشيخ عبدالعزيز بن حنطي في الكتاتيب - وسماحة الشيخ صالح بن غصون والشيخ محمد بن داود وصادق صدّيق في المعهد العلمي وسماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي في كلية الشريعة ومعهد القضاء العالي رحم الله جميعهم.
وكان سماحة الشيخ صالح بن غصون رحمه الله لي شيخا وراعيا مؤدبا وناصحا امينا ومحبا حفيا,, وكنت معه مقصرا ولم ازره بعد مرضه وزرعه للكبد الا لماما,, وكلما سنحت الفرصة لزيارته استجد عائق، لأنني خلال سبع سنوات كنت موزعا بين مكة والمدينة - شرفهما الله - وابها وحائل ثم جدة بآخرة,, ولقد ذكرت في التباريح بعضا من ذكرياتي مع سماحته بيد ان ذكرياته الجميلة لا تُحصى ولا تَحضر دائما الا بمناسبة تجرها,, كنت مرة مساعدا لمدير الخدمات العامة برئاسة تعليم البنات وكنت احس بالهضم امام زملائي الذين نالوا مناصب عالية ومرتبتي دون المستوى ففاتحت سماحته ان يزكيني عند رئيسي سماحة الشيخ ناصر بن محمد بن راشد الرئيس العام لتعليم البنات؟!,, فقال لي سماحة الشيخ صالح - رحمه الله - يا ولدي لو اردت ان اتجاوز وازكيك فلن تساعدني خرابيطك التي تنشرها في الصحف - وكنت يومها منهمكا في كتابات فنية وجمالية!!,, وانطلق يمطرني بوابل من العتاب ويؤكد انني لم اخلق لهذا؟!,, وبعد ان نفس عن خاطره بالعتاب قال لي: يمكن ان اقول للشيخ ناصر: العلم الذي في صدر ابي عبدالرحمن افضل من الخرابيط التي ينشرها في الصحف وانه عنصر صالح اذا وجه فتوجه!!,, ويمكن ان اشفع لك في تحقيق منفعة مادية تعينك لانك اخرق اليد!!
قال ابو عبدالرحمن: ولست ادري هل كلم سماحة الشيخ ناصر عن تحسين وظيفتي اولا؟!,, وانما اختلى بي سماحة الشيخ ناصر اكثر من مرة وناقشني علميا واتاح لي فرصة الاختبار على وظيفة مندوب تعليم البنات في الاحساء، ولما ضعفت اجوبتي عن انهار وبلدان اجنبية سئلت عنها: قفزني - حفظه الله - في المقابلة الشفهية ثم بذل جهده مع ديوان الموظفين العام (ديوان الخدمة المدنية حاليا) حتى بقيت في الرياض مديرا عاما للخدمات,, ولكنني على يقين بانه كلم سماحة الشيخ ناصر عن تحسين مادي لان سماحته طلب مني ان اكتب عرضا لجلالة الملك فيصل رحمه الله اطلب منحة ارض لي ولاثنين من ابنائي الذكور اذ ليس عندي يومها سوى جملة من البنات وتابع الموضوع حفظه الله ثم اكمل المشوار الاستاذ عبدالعزيز الرفاعي رحمه الله فحصلت على منحة نفيسة قرب قهوة العويد بأنكاس - افضل مكان اليوم - ولم انتظر المستقبل العقاري، فبعتها بأوكس الاثمان.
وكان مروري على سماحة الفقيد غفر الله له قليلا الا ان تكون لي عنده حاجة,, وهذا عقوق بلا ريب في ظاهر الامر، ولكنني في الحقيقة في غفلة من جراء الانهماك مع ثلة من صعاليك الفن والادب مجنحين مع الجندول والنهر الخالد، وبحيرة كومو، والاطلال,,, الخ,, الخ.
وذات مرة طلب هاتفي فأعطي خطأ هاتف ابن عمي وابن خالي المطابق اسمه اسمي - وهو محمد بن عمر بن محمد العقيل - ,, واظنه اهتدى الى رقم هاتفي عن طريقه، فأمطرني في الهاتف عتابا، وانه يخشى عليَّ الفتنة في الدين، لانني هربت عن مجالس العلماء ومجالستهم وهم ذوو النفع - بعد الله - دنيا وآخرة - وانجرفت مع الضائعين ممن اثروا فيَّ ولم استحوذ عليهم!!
وكلما حاولت الاعتذار بانني لم انقطع عن المشايخ وانني دعوت الشيخ فلانا وفلانا وزرت الشيخ فلانا وفلانا: قال: يا ولدي: اترك عنك هذا الكلام,, المجاملة شيء، والصحبة الدائمة النافعة شيء آخر,, وعلى اي حال ما طلبتك الا لاخبرك بان شيخ الجميع سماحة الشيخ عبدالله بن حميد يسأل عنك كثيرا ولم يهتد اليك وتعهدت له بان ارسلك اليه فلابد ان تزوره.
قال أبو عبدالرحمن: ففوجئت بهذا الخبر، اذ لا ثقل لي حتى يطلبني سماحته!!,, وكنت بين خوف ورجاء، لان سماحته كان مهيبا، وقلت: يا شيخ صالح: عسى ماشر، او ان احداً كذب عليَّ؟!
فقال: يا ولدي: صل مع شيخك ابن حميد العصر او المغرب او تغدّ معه فانه يتغدى مبكرا لينام قبل العصر قليلا,, وليس عند المشايخ الا الخير.
ثم حصل لقائي مع سماحة الشيخ ابن حميد وتلقيت عتابه وتوجيهه حول مقالتي (بل ننقي اقلامنا),, وقد ذكرت ذلك في التباريح.
وكان سماحة الشيخ صالح رحمه الله شديد الالحاح عليّ بالا ارهق نفسي بشراء الكتب والتوسع في الفنون - وكان ذلك ايام الطلب -ويوصيني بالاستعارة لان الغرض حفظ العلم واستحضار معانيه لا تكدريس الكتب، ويعرض عليّ الاستعارة من مكتبته ما اريد,, وكان يوصيني بحفظ المختصرات في الفقه والحديث والنحو.
وكان يقول لي دائما: لست الشمس تطلع على كل شيء، والعمر قصير,, وهو ممن يزهد في التأليف.
ثم في الاعوام الاخيرة بعد انتقاله الى الرياض قال لي بالنص المقارب: انت يا ولدي لا تحسن التصرف في علمك ومالك وليست عندك فراسة في اختيار الاصحاب,, وما دمت اخترت الظاهرية وابن حزم - وان كان الاجدر غير ذلك - فوفر جهدك للمحلى مثلا قراءة وحفظا وشرحا وتخريجا، وليكن ذلك جهد العمر كله,, وانت لن تعمر عمر نوح وقد نلت من الشهرة الصحفية والثقافية ما يكفي ومحاولتك معرفة كل شيء ضرب من العبث فلتكن خدمتك للمحلى اثرا خالدا تنتفع به وينتفع به الناس ويكون لك فن تكون مرجعا فيه وتعرف به وتكون حجة فيه!
قال ابو عبدالرحمن: ولسوء حظي لم انتفع بوصيته رحمه الله.
ولم يستجب لدعوتي في المنزل الا مرة واحدة بعد الحاح شديد مني، واشتراط منه مغلظ الا أتكلف والا يزيد المدعوون عن اناس حددهم هو,, وقال لي: انت مسرف، وسورة الاسراء بينت لك كيفية الانفاق!
ودعوته لحضور مناسبة زواج احدى بناتي وقدمت له كتابي عن ابن حزم - اربعة اجزاء في مجلدين هدية له فاعتذر عن تلبية الدعوة بلطف وقفز بسرعة على اساس انه سيدخل كتابي بمكتبته وانه سيجدد الوضوء وامرني بانتظار البخور، وان نذهب لصلاة العشاء معا,, وبعد ان عاد ناولني ظرفا وقال: هذه اوراق اطلع عليها واعطني رأيك فيها ولست مستعجلا عليها ولا تنشغل بها الا في البيت لانها تحتاج الى تأمل طويل,, وشاغلني عن فتح الظرف,, فلما فتحته في المسجد وجدت فيه عشرة آلاف ريال واردت ان اشكره فصرفني عن الحديث في هذا الموضوع مطلقا بعد ان اخبرني ان المبلغ معونة في الزواج وشاغلني بأجواء توجيهية.
قال أبو عبدالرحمن: ولا انسى بركة تلك النقود وكنت في ازمة وضائقة!!
وكان رحمه الله ذكيا نبيها عوضه الله عن فقد بصره بالبصيرة النافذة والحس المرهف.
وقبل الكهرباء - وعند ظهور الاتاريك وكنا بشقراء - كان بعد صلاة المغرب ينزل الاتريك والكبريت من اماكنهما، ويولع الاتريك ويعلقه بخفة حركة واهتداء مما لا يتمتع به البصير!
ومع علمه وفضله كان زعيما فحلا مهيبا,, اراد ان يتندر عليه من يرى في نفسه انه من علية القوم وقال له:
فتواكم يا شيخ أعظم على جمال عبدالناصر من القنبلة النووية!!,, فوثب الشيخ صالح كالاسد الهصور يقول: اعرف انك من كراعين قومك ولست من رؤوسهم واعرف ان في قلبك مرضا، وليس هذا المجلس مقعدا لامثالك,, قم ولا تعد اليه بعد اليوم,, انك تتهكم ببلادك وولاة امرك، وعزائم دينك,, وانت تستحق التأديب ولكنني انصحك واحذرك.
فقام الناطق - رحمه الله وعفا عنه - مخذولا واراد ان يقبل رأس الشيخ,, فقال الشيخ صالح: ليست الحاجة الى ان ترضيني وانما الحاجة الى ان تحافظ على دينك، وان تعلم مواضع الولاء والبراء,, واردت ان اعينك على نفسك فتكفها عما يشينك عند الناس ويؤثر في دينك لانني اعلم ان سواليفك خاملة!
وكان رحمه الله ذا حنكة وسياسة ودهاء,, يداري الناس، ويستألفهم ولكن على قوة في الحق وصدع به.
وهو في ثقله العلمي والعقلي من اواخر جيل عوضنا فيهم عند الله منذ سماحة الشيخ الامام محمد بن ابراهيم,, الى سماحة الشيخ ابن حميد,, الى سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمهم الله,, الى سماحة الشيخ ابن باز كلأه الله بعنايته ولطفه ,, ولو خليت لخربت، فعندنا من امثال هذا الطراز - على قلتهم - كالشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ والشيخ صالح الفوزان والشيخ العباد والدكتور الشيخ بكر ابو زيد، والدكتور الشيخ صالح بن حميد,, ولكن الاعم الاغلب - الا ما رحم ربك -: اما قلة العلم المحقق واما ضعف العقل مع العلم واما قلة الورع واما الداخلة في النية والرغبة في الشعبية والزعامة، واما النزق والطيش، واما التأثر بالدخيل!!.
وكان سماحة الشيخ صالح رحمه الله فقيها حنبليا جلدا ولكنه في السنوات الاخيرة عكف على صحاح الاحاديث وسننها,, وعلى ذلك شواهد منها انني زرته بصحبة الشيخ عبدالعزيز بن سعد الجلعود فاستشكل احدنا الحاح الشباب على قولهم: قدر الله وما شاء فعل بنطق (قدر) اسما لا فعلا فأحضر صحيح مسلم وشرحه بسرعة خاطفة مثبتا رواية (قدّر) بالفعل المضعف.
لقد بصَّر عوام المسلمين في برنامجه (نور على الدرب)، واثرى هيئة التمييز بعلمه وعقله وحنكته بعد نقله من رئاسة محاكم الاحساء وكان الساعد الايمن لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد رحمه الله وكان ركنا في هيئة كبار العلماء.
وقد ألان صلابته في اخريات حياته رقة وورع فلقد صليت جنبه قبيل صلاة العصر ذات مرة وبعد التسليم قبلت رأسه فعرفني قبل ان أنطق - مع طول غيبتي عنه - عرفني من مجرد سماعه لنبراتي في نافلة القراءة والدعاء فيها بسرية!!
لقد اخذني بيده الى البيت، وقال لي اثناء الطريق - ممازحا وجادا - قد قلت لك يا ابن عقيل الله يهديك: انك ضائع، ولو كان الامر لي لحجرت عليك,, انت ضائع في تدبيرك المالي وضائع في علمك لا تحسن سياسته ولا تفرق بين واجباته ونوافله,, انت ضائع في علاقتك بالناس واختيار الصاحب والجليس,, ولكنني اغبطك بواحدة!
قال أبو عبدالرحمن: ففرحت بهذه الواحدة وقلت له: ما هي يا شيخ؟!
فقال: فكك الله من القضاء ولعل الظروف التي حالت دون ذلك لطف من الله بك,, الامر خطير يا ولدي,, والله لوددت لو انني لم اتول القضاء قط!
قال ذلك وهو العالم المؤهل الورع ذو الصلابة في الحق.
اما خطبه يوم الجمعة وتلاوته في الصلاة الجهرية فكان ذلك من نعيم حياتي بشقراء فقد كان بليغ القول حلو النبرة ومليح التلاوة، حسن الهيئة مع قلة التكلف.
وكان رجاعا للحق، واذكر ان الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق ألقى كلمة في نادي شقراء بالمعهد العلمي ختمها بقوله: ان الله على ما يشاء قدير).
فاعترض عليه سماحة الشيخ صالح - وهو الحافظ لكتاب الله,, لا اعلم احدا امكن في تلاوة القرآن منه ومن سماحة الشيخ ابن باز ومن سليمان بن علي رحمهم الله، فصعاب السور اسهل عليهم في الاستحضار من سورة الفاتحة,, يستحضرون عشرات الآيات في موضوع معين من مختلف السور بلا روية ولا تذكر,, فاحتج الدكتور الهدلق (وكان يومها طالبا) بالآيات الكريمة، فسر الشيخ بذلك وشكر له.
قال أبو عبدالرحمن: ولكل من الشيخ والتلميذ وجهة صحيحة ولكن يجمع الوجهتين خصوص وعموم بين الآيتين ، فالله سبحانه على كل شيء قدير بلا استثناء ولكنه سبحانه لا يفعل الا بمشيئة مسبقة وعلم مسبق مهيمن وحكمة شاملة ليس في علمه سبحانه عبث ولا مصادفة لشمول علمه وحكمته مع قدرته وهذا معنى انه لا يسأل سبحانه عما يفعل وهم يسألون,, وقدرته سبحانه تنفيذ لمشيئته المسبوقة بعلمه وحكمته، فهو على كل شيء قدير وهو يمضي قدرته اذا شاء سبحانه وتعالى.
قال أبو عبدالرحمن: وفي التباريح كثير من ذكرياتي مع سماحته.
كان رحمه الله قاضيا في حوطة سدير وكان شبه امير لقوته وزعامته وهكذا كان في شقراء وكان يدرسنا الفقه في المعهد وهكذا كان في كل المناصب التي تولاها,, ارادوا في الحوطة قطع الوادي خوفا من الغرق فكان امامهم يخوض الماء رافعا سراج ابو فنر بعصاه,, وهجم الدبى على نخيل شقراء، فتجرد مع الذائدين يحمسهم ويشجعهم,, ومن شدة الحماس قال: للامير عمر بن شعيل رحمهما الله في المسجد: اللي ما يذود الدبى مع الجماعة: الطس بابه، وسنّد فمه!,, عكس العبارة رحمه الله لشدة حماسه.
كان جبلا من العلم والحكمة القوة,, كان صورة امينة لمدرسة سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم رحمهم الله جميعا، فما احوجنا في هذا التمزق الى امثال هؤلاء؟! رحمهم الله رحمة الابرار وجمعنا بهم في دار كرامته، واعاننا على انفسنا، لنسلك سبيل الهدى,, هكذا اعرفه والله حسيبه ولا ازكي على الله احدا,, وعزائي لنفسي ولابنائه واسرته، ولكافة المسلمين كعزاء الخنساء لعمر بن الخطاب في اخيه زيد رضي الله عنهم، فهو شيبة حمد شب وشاب في الاسلام على العلم والعبادة ونفع المسلمين,, اسبغ الله عليه رضوانه,, والحمد لله على كل حال، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري