أذكر فيما اذكر وانا في بداية برنامج الدراسات العليا في امريكا ان قمت بكتابة بحث من ضمن متطلبات مادة من المواد, حان موعد تسليم البحوث فقمت بتقديم بحثي وانا كلي اطمئنان بأنني قد استوفيت ما امرتنا به استاذة المادة، حلت الفسحة وذهب كل طالب وشأنه ولما اجتمعنا مرة اخرى فوجئت بتلك الاستاذة تطلب رؤيتي في مكتبها بعد انقضاء المحاضرة,, جالت الافكار في رأسي وصالت: يا ترى ماذا تريد,؟! هل تمكنت من قراءة بحثي خلال تلك الدقائق المعدودة؟! هل اخطأت خطأ جسيماً سوف ادفع ثمنه لاحقاً؟! وهل هل,, انقضت المحاضرة فهرعت الى مكتبها وهناك امرتني بالجلوس ووجهت الي الكلام قائلة انت الآن في امريكا! أليس كذلك؟ وبينما انا اصارع هول مفاجأة ذلك السؤال (الجغرافي!) ناولتني بحثي ومن ثم شرعت بسرد ما يجب علي تصحيحه,, باختصار: امرتني ان آخذ في الحسبان انه طالما دل السياق على الضمير المفرد الغائب فانه لا يجوز لي الاقتصار فقط على استخدام الضمير المذكر المفرد بل لا بد ان اضيف كذلك الضمير المؤنث المفرد, فبدلا من (هو) فقط كان من الواجب علي كذلك اضافة (هي) ليكون السياق هكذا (هو ام هي), تغيرت الأمكنة وتقادم ما استجد ومع ذلك لا زلت اجد في نفسي الرغبة في الحديث عن بعض من حثيثات هذا الموضوع.
ينسى اولئك القائمون على مثل تلك النزعة التحررية - واحسبهم يتناسون! - ان تلك (التقليعة التحررية!) ليست سوى بريق اعلامي اجوف يهدف الى ذر الرماد في العيون والحفاظ على الوضع السائد مع ما فيه من ظلم واجحاف وتفاوت طبقي وسوء توزيع للثروة، وغيرها الكثير الكثير, انها - واعني تلك النزعة التحررية - ليست الا وليدة ترف لم يقطف ثماره سوى شرائح اجتماعية محدودة رأت في تحول مجتمعها الحتمي من مجتمع احادي الى مجتمع متعدد الثقافات نذير خطر يهدد وجودها وامتيازاتها فعمدت الى تلك الوسائل التي لا تغني ولا تسمن من جوع لما فيها فقط من اشباع نفسي واستهلاك اعلامي وتخدير اجتماعي كذلك! والا كيف تفسر تلك الصفوة تردي الاوضاع الاقتصادية للأقاليات واندثار قوتها السياسية؟ (في مجتمع يتغنى بالديمقراطية) والتي تحتوي سجونها على اعلى نسبة سجناء في العالم بأسره! غالبيتهم العظمى من افراد الاقليات! بل كيف تفسر تلك الصفوة احتكار ما يقارب 5% من اليهود وغيرهم من الرأسماليين للثروة في بلاد تفتخر دائماً بانها نبراس للحرية الاقتصادية؟!,, بل اين ارباب تلك النزعة التحررية من سياسات العزل والسحق (المدروس والفاعل!) للاقليات الأخرى؟! كيف يفسرون ردة فعل السكان البيض عندما يكتشفون انه قد حل في حيهم ساكن ليس بأبيض؟! بل لماذا تسود تلك الحقيقة الاقتصادية (العقارية) والمتمثلة في انحطاط اسعار منازل الحي الابيض الذي يسكنه وافد من غير البيض؟! ولماذا اندثرت احياء سكنية برمتها اثر ما يسمى علميا ب Urban Flight والتي تعني هروب السكان البيض من اواسط المدن الى اطرافها هرباً من الاختلاط بغيرهم من الاقليات!.
ينسى اولئك المنظرون المترفون كذلك ان مثل ذلك الترف الاجتماعي المتحرر لم يخرج الى حيز الوجود ويصبح واقعاً حتى تسنى للبيض بناء نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي كل ما فيه من وسائل انتاج ومصانع ومؤسسات اجتماعية وسياسية تصب في خدمة شرائح اجتماعية معينة وتحافظ على مصالحها!! فرغم كل شيء فهو مجتمع قد تم بناؤه على جماجم المستضعفين في امريكا ممن عانوا من وحشية الرق والابادات الجماعية كالسود وساكني البلاد الاصليين (الهنود الحمر) ماذا عن قوانين حرمان تلك الأقليات من حق التعليم لدهور ودهور؟ بل لماذا عزلت مدارسهم - بعد حصولهم على حق التعليم اثر كفاحهم المرير - عن مدارس البيض حتى عهد قريب؟! وماذا عن حرمانهم من حق التصويت ومثلها قوانين منعهم من الزواج بالنساء البيض؟!! بل متى تم الغاء تلك القوانين (المتحضرة جداً؟!) أليس من البدهي القول ان تلك العوامل مسؤولة عما يترى الآن في امريكا من حقائق يدفع ثمنها من هو ليس بابيض؟! فحتى الآن والرئيس دائماً ما يكون من العناصر البيضاء بل من اصل انجلوساكسوني بروتستانتي (باستثناء كنيدي الكاثوليكي!) والرأسمالي - الذي يزداد ثراءاً فاحشاً على حساب طبقة الاقليات الكادحة المسحوقة - من العناصر البيضاء - ومالك وسائل الاعلام والترفيه - صاحبة اليد الطولى في تكوين وتشكيل الرأي العام - من العناصر البيضاء! والقائمون على المناهج الدراسية من العناصر البيضاء وهذا بالمناسبة سر شيوع وتبجيل المصطلحات (البيضاء) في مناهجهم الدراسية - كمصطلح الآباء المؤسسون الرامية الى تمجيد اسلافهم - كجورج واشنطن وغيره - من ارباب الرق المؤمنين بتفوق الجنس الابيض, حقا يا لها من عدالة تلك التي تحتم على اطفال الاقليات استلهام (انسانية!) اناس سلبوا انسانية اجدادهم وابادوهم واسترقوهم وحرموهم من وسائل الحياة الكريمة وزرعوا بذور المآسي التي لا يزال هؤلاء الاطفال يقطفون ثمنها من فقر واملاق وتشرد وضياع هوية!!.
هل عالجت تلك النزعة التحررية - مثلاً - ما يعج به المجتمع الامريكي من مشاكل اجتماعية تهدد وجوده؟ ماذا عن الملايين من المشردين - وجلهم من الاقليات! - وماذا عما يقارب الأربعين مليون مواطن ممن لا تأمين صحي لديهم مما جعلهم فريسة للوهن والمرض؟ وجلهم من الاقليات!,, بل ماذا عن استشراء العنف الذي يكاد يعادل عدد ضحاياه سنوياً مجموع ما فقدته امريكا من ارواح في حربها الضروس مع فيتنام؟! الا يحق لنا - على الأقل - تسميتها بحرب اهلية؟! تماماً وكما يحدث الآن في الجزائر والذي تصفه وسائل الاعلام الأمريكية بالحرب الأهلية!.
وهل وفرت تلك النزعة التحررية الامن والأمان للمرأة الامريكية وهي سائرة في الطريق لوحدها او قاطنة بمفردها؟! هل قامت بحمايتها من التعرض للمضايقات الجنسية في مقر عملها؟! ماذا عن الاحصاءات التي تشير الى انه في سنة واحدة فقط وفي اقليم صغير وصغير جداً وآمن كذلك - شمالي تكساس - سقط ما يقارب من 153 امرأة ضحاياً للعنف والجريمة مما يعني احصائيا ضحية كل 48 ساعة تقريباً!.
هل سعى مترفو تلك النزعة الى الحد مما تنتجه مصانع امريكا من اسلحة فتاكة ضحيتها الأمريكي نفسه في شارعه او في عقر داره؟, هل لديهم الرغبة الصادقة في الوقوف ضد اخطبوط لوبي السلاح الامريكي والذي لا يعادله قوة وجبروتا سوى اللوبي الصهيوني؟! ماذا عن سياسة (غض البصر!) تجاه الجهود المبعثرة هنا وهناك والرامية الى استصدار قانون من شأنه منع استيراد تلك البندقية الاسرائيلية الفتاكة (اوزي) المعفاة من الضرائب في امريكا! والممنوعة - ويا للعار - قانوناً في اسرائيل! والتي راح ضحيتها اعداد لا تحصى من افراد الاقليات؟!,, بل هل هناك من توجه صادق لدى اولئك (الاصحاء سياسياً!) بالوقوف في وجه لوبي السجائر النافذ جداً هناك وذلك لكي يتم الحد من عدد ضحايا التدخين ليس في امريكا فحسب بل في كافة ارجاء المعمورة، وخصوصاً في دول العالم الثالث؟!,, بل اين اولئك (السقماء!) من حملات الظلم والبهتان والتشويه الاعلامية لصورة العربي المسلم والحط من قدره وتجريده من انسانيته؟!! (وهذا بالمناسبة، وحل سوف اخوض به لاحقاً وفي مقالة منفردة)، حقاً اعطني اعلاماً اعطك حقاً لا تستحقه، بل اعطني اعلاماً ألغي لك حقائق وحقوقاً.
د, فارس الغزي