Sunday 2nd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 محرم


أشياء ليست للبيع

علمته ساعات نهاره القائظ التي تقطر عرقا وغبارا ، وتتصرم دقائقها سيارات لاهثة في مساراتها أن يستعين عليها بأغنية، يدندنها ويبث أنغامها وكلماتها في أرجاء عريشه، كلما جفت كلمة فوق شفتيه وعجزت عن التحليق ارتشف قطرة ماء، وهو يرقب الطريق، حيث تتقاطر أرتال السيارات، منتظرا تلك التي تغادر مسارها, وقد تعلم كصائد حاذق اي السيارات يمكن ان تغادر مسارها اذا رأت صناديق رطبة, فهو لا يعلق آمالا على تلك القادمة من وسط البلاد محملة بالخردة، كما انه لا يكلف نفسه عناء النظر الى تلك المنطلقة في الاتجاه المعاكس حاملة ثمار الكيمياء من مصانع الجبيل.
أتبع البصقة التي جمعها بصعوبة من زوايا فمه اليابس بفعل سموم الصيف بتنهيدة إيه ممطوطة، وكأنه يؤكد حقيقة دامغة برهنتها أبيات شعر تكاد تهترىء مثل أسماله العتيقة من كثر ما تمثل بها في المواقف المتشابهة ، التي كثر حدوثها في هذا الزمان المتبدل, وراح يرددها الآن وسط زوبعة غبار أثارتها عجلات سيارة توقفت فجأة ، بعد خروجها من الجادة الاسفلتية, تكسرت الكلمات اليابسة في حلق علي المخنوق وفاضت حشرجة.
يا ذا زمان شفت فيه التناكير
حتى الغنم صارت تعض الذيابه
والحر الأشقر نقدوه العصافير
انكشفت الغمامة قبل ان يكمل اغنيته عن سيارة سوداء انيقة، اطفأ لمعانها الغبار، كما أطفأ بريق رطب الغراء المتوهج صفرة في الصناديق الثلاثة الباقية في انتظار مشترٍ متأخر، لكن لم تقو على اطفاء تلك الكلمات المتقدات في حلق علي، الذي راح يطرد الغبار عن لحيته وحواجبه الكثيفة المتدلية على عينيه بانفعال.
زعقت السيارة مرتين متلاحقتين، ولما لم يستجب للنداء ذاك المنفعل بين رطبه اتبعها بثالثة ذات ايقاع متشنج اطول واحدّ، فكان الجواب صوتا حاول علي ان يكون أقوى من بوقها بصقة من الفم المرتجف:
- تفو
تراجعت السيارة الى الخلف لتحاذي العريش، اهتز في مؤخرتها اريلان طويلان مثل قرني استشعار لصرصار زل عن صهوة صخرة اعترضته ملأ ضجيج مكيفها حمى العريش.
لوّح صاحبها الغارق في مقعدها الدمث البارد بيده مشيرا:
- تعال.
ظل علي واقفا وسط عرينه مستظلا بسعفاته الضامرات لم يتعود الاستجابة السريعة فلم يهرع لتلويحة كف من خلف زجاج سيارة فتحت حقيبة السيارة لاغراء هذا الواقف الكاظم غيظه، كل الذي بدر عنه نظرة حانية طويلة غمر بها صناديقه الثلاثة الباقية، حمد الله ان اولاده لن يناموا بلاعشاء مادام قد باع صندوقين والثالث اصر ان يقدمه مجانا لرجل لم يحتمل جداله حول السعر وودعه دافعا بعيدا تلك الريالات المرتجفات:
- بالعافية,, يسر الله امرك.
طال انتظار صاحب السيارة المطهمة فاستدار الى اليمين رأسه المتوج بغترة حمراء يرعشها تحت عقال حريري اسود هواء المكيف ولوح بورقة نقدية من فئة الخمسين اخرجها بعجالة طعما ظنه مغريا، وعضدها باشارة من اصبعين:
- صندوقين.
في حدة نظرة الصقر الذي لم تعد تقوى العصافير الهجينة على مد مناقيرها نحوه ارسل علي نظرة اخترقت السيارات الى الجادة المتوهجة، ثم تناول زجاجة ماء مشوب بحرارة الشمس، تمضمض بالماء المحموم ثم بصق ارتشف جرعة اعادت الى لسانه طراوته وتحرك بخفة في فمه استعدادا إن لزم الامر لمعركة الكلام التي تلوح بوادرها, ولاشك ان الظهيرة المتقدة ستلهب الكلام ها قد انزلقت من نافذة السيارة التي انفرجت قليلا كي لا ينسرب الهواء البارد خارجها صرخة لافحة تكفي لاشعال فتيل المعركة:
- هيه.
- ما هو للبيع.
- صندوقين.
- رفعتهم لغينمات حسنوه.
- خليك من الهرج.
- إحنا ما نهرج.
- كم تبي في الصناديق كلها.
- ولا مال قارون.
- وليش واقف تغلي في الشمس.
- لهيب الشمس أبرد على القلب من هيه.
ترجل اخيرا ليقفل حقيبة سيارته دون صناديق الرطب فلسعته الشمس وضحكة علي:
- حاذر لا تذوب ادخل سيارتك الباردة بسرعة.
اشتد غليانه واغلق باب سيارته وفمه بعنف بلا رطب ولا رد مناسب على سخرية لاذعة راح يتجرعها واندفع بجموح اثار زوبعة من الغبار الشاحب اخفت الجادة بسياراتها المتقاطرة من الجانبين، رشقت بعض الحصوات العريش ورطب علي، الذي احتمى بذيل ثوبه حتى انجلت الزوبعة, بصق ملوحة الغبار ومرارة الكلام الذي لم تسمح الفرصة ان يقطره في أذن من لا يسوى ثم اتكأ على صندوق فارغ، اخذ طرف سعفة ليهش به ذبابة سوداء اخذت تحوم حوله عكر طنينها هدوءا كدرا اعقب تلك الزوبعة، قدر اصرارها فتركها اينما شاءت:
- أملئي بطنك لايذوق رطبي من لا يسوى طنينك ولا هيه من واحد ما يسوى ,, المشكل ان اللي ما يسوون في ها الزمن صاروا كثار.
عاود النظر الى الجادة التي لا تجود، وراح ينظم ما تبقى من ساعات نهاره على ايقاع كلمات اغنيته المنتشية
- يا ذا زمان شفت فيه التناكير
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved