Sunday 2nd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 محرم


مساحات بيضاء
التراسل عبر اللغة المنسية
ريمة الخميس

امس الاول استرقني النوم وغيبني، دون اشعار مسبق، بعد عناء يوم طويل,, رأيت أنني أجلس في ظل شجرة أقرأ كتاباً، (كيف كنت أنا التي أرى نفسي؟)، وأمامي مشهد أسطوري لمخلوقات غريبة تتحدث لغة لا اعرفها، ولا يفهمها احد، ومع ذلك اعرف مايتحدثون فيه كان المشهد - ككل الاحلام - بلا ألوان، وحدقت اسفله لعلي اجد ترجمة فخاب ظني، وبالتالي ادرت وجهي الى الجهة الاخرى مللا وتبرما، فاذا بنهر ساحر، استعار لونه من زرقة السماء وصفائها، يتهادى على صفحته قارب صغير، يحمل امرأة شابة وصغيرتها بدا أنهما تتنزهان كان القارب يتجه الى حيث اجلس، وما ان بلغتني السيدة وألقت عليّ تحية عابرة حتى تركت لهما المكان فربما قصدت السيدة اليه لتتناول وصغيرتها غداء كانتا تحملانه,, قالت تفضلي، وتولت شكرا فعقبت: اذن دعينا نراك او نسمع صوتك مع اني لا أعرفها ولم أرها من قبل , ضحكت، فأيقظني الضحك من النوم.
وجدت ان الكتاب الذي كنت اقرأ فيه في الحلم مازال في يدي، وحين راعني الامر مددت يدي اتحسس جهاز الهاتف الجوال لأروي الحلم لاحدى صديقاتي فلم اجده,, فنشت عنه طويلا دون طائل، ثم وجدت ان افضل وسيلة لاكتشاف مكانه ان اطلب رقمه ليدلني اليه رنينه,, دق الجرس في سماعة الهاتف الثابت دون ان اسمع رنين جهاز الجوال، ولدهشتي فوجئت بصوت سيدة تجيب!!! قلت: مرحبا فسألتني من اكون، فقلت انا صاحبة هذا الهاتف الذي تتحدثين منه، وسمعتها تضحك وتقول: نعم انت التي كنت تجلسين في ظل الشجرة حين خرجت اليك وابنتي من النهر، قلت نعم قالت: لقد ذهبت ونسيت الجهاز عند الشجرة، فأخذناه الى ان تتصلي بنا ,, قلت دون ان افكر: وكيف استرده؟ فأجابت ألم اقل لك دعينا نراك او نسمع صوتك؟ غداً في نفس الموعد دعينا نلتقي في نفس المكان وسأحضر لك هاتفك,, انتبهت فسألتها: ألم يكن ذلك حلما؟ قالت انا ايضا كنت أحلم!!
بالامس كنت أتم قراءة الكتاب حين غيبني النوم، ورأيت انني اتجه الى النهر، وأرى السيدة قادمة بقاربها في البعيد تلوح لي بيدها، حاملة معها جهاز الهاتف!!
الحقيقة ان شيئا من هذا كله لم يحدث، فلم انم ولم احلم، ولكنني حقيقة استسلمت حتى النهاية في تأملات عميقة للتداعيات التي اغراني بها هذا الكتاب المخيف الذي كنت اقرأه اللغة المنسية (مدخل الى فهم الاحلام والحكايات والاساطير) لمؤلفه اريك فروم وترجمة حسن قبيسي.
يرى فروم ان الاحلام والاساطير مصاغة بلغة واحدة وعلى شاكلة متشابهة، ففي كليهما يمكن ان يحترق طائر، ومن رماده يولد طائر اشد بهاء، وبرغم ان الشعوب المختلفة قد ابتدعت اساطير مختلفة ومعلما ان الاشخاص المختلفين يبصرون احلاما مختلفة، فانه يظل في الأحلام والاساطير عنصر واحد مشترك بالغ الخطورة بالغ الخطورة هو اللغة الرمزية ، لغة رمزية هي نفسها في الاساطير البابلية والهندية والمصرية والاغريقية، وهي نفسها في الاحلام التي كان يراها شخص في طرف من العالم منذ عدة آلاف من السنين وفي الاحلام التي رأها بالامس شخص آخر في الطرف المقابل من العالم,, هي لغة رمزية تعبر بها عن نفسها الخبرات الحميمة والمشاعر والافكار - في الحلم او الاسطورة - كما لو كانت خبرات معاشة بين جنبات هذا العالم الحياتي، وهي اللغة الوحيدة، الجامعة التي استطاع الجنس البشري ان يبلورها ويجعلها واحدة في كل الحضارات وعلى مر التاريخ حتى اصبحت لها قواعداها، ولها نحوها وصرفها، فيما كان يرشحها - حال تطورها - ان تكون اداة قادرة على اسقاط ذلك الحاجز الوهمي بين مملكة الحلم وعالم الحقيقة، لو لا ان الانسان الحديث قد نسي هذه اللغة التي اجادها في النوم اثناء يقظته، بدعوى ان الاساطير والاحلام بمثابة التراكيب الساذجة التي اصطنعها الفكر في مرحلة ما قبل العلمية من تاريخه، هذا على الرغم ان الحضارات القديمة في الشرق والغرب كانت تعتبر الاساطير والاحلام من اغنى واعمق الاشكال التعبيرية التي يتفتق عنها الذهن الانساني بل وتعتبر من يعجز عن ادراكها وفهمها رجلا ضاربا في الجهالة حتى غايتها.
اعود الى ما يراه (فروم) من ان فهم هذه اللغة الرمزية الموحدة هو السبيل الى اندياح الحدود بين عالم الحلم وعالم الحقيقة لأستعيد قصة شاعر كبير مثل كوليردج الذي دخل الحلم وخرج منه ممسكا بقصيدته العصماء كوبلاخان ، حررها بنفس لغتها في الحلم، اوقصة ذلك الصيني الذي اتقن اللغة المنسية فقال: بالامس حلمت انني فراشة.
وصدقني انا لا اعرف ما اذا كانت حقيقة رجلا حلم بالامس انه فراشة، ام انني حقيقة فراشة تحلم الان انها رجل، لاعترف بدوري أنني وقد توغلت في كتاب فروم برغبة في استيعاب تلك اللغة المنسية لم اعد ادرك ما اذا كنت تلك المتعبة التي حلمت بجمال النهر ، ام تلك المستريحة الجالسة الى شاطىء نهر تحلم بانها تمارس تعب الكتابة، فبين الاثنين حوار وتراسل عبر تلك اللغة المنسية,,!
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved