Sunday 2nd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 محرم


الكتابة الأخرى 1
الإشكالية
حسين المناصرة

الكتابة هي إنتاج إبداعي ثقافي يمارسه كل من الرجل والمرأة والطفل بطرقهم ذات الخصوصية نسبياً.
وفي تاريخ الكتابة الطويل كانت كتابة الوعي الذكوري هي الكتابة المهيمنة، لسبب اجتماعي اقتصادي، وهو أن الرجال كانوا ومازالوا أسياد المجتمعات ومبرمجي ثقافتها.
ومؤخراً وتحديداً منذ الستينيات ظهرت إشكالية الكتابة الأخرى، ونعني بها الكتابة النسائية في فضاء أدب الكبار، وهي الكتابة التي اتخذت لنفسها أسلوبين رئيسين، أحدهما أسلوب إبداعي على نحو إنتاج كتابة نسائية متمردة نسبياً على الأساليب المألوفة في كتابة الرجال، أو حتى في كتابة النساء المندمجات في سياق الكتابة الذكورية وأعرافها الخاصة، والآخر أسلوب نقدي دعا إلى إعادة قراءة كتابة المرأة التراثية والمعاصرة من منظور جماليات ورؤى ما يعرف بالقراءة النسوية أو النقد النسوي، لتغدو الكتابة النسائية جمالياً ورؤيوياً نابعة كإبداع أو نقد من كتابة المرأة نفسها الثائرة ضد القيم الذكورية ورؤاها الحياتية وجمالياتها الفنية، وكأن الكتابة الأخرى بنية مغايرة لما هو شائع في الكتابة المتسيدة ثقافياً من قبل الرجال المبدعين والنقاد وما ينضوي تحت سقفهم من إبداع نسائي غير متمرد بمفهوم النقد النسوي.
والأمر لا يخلو من خلاف إشكالي حول وجود كتابة أخرى مصنفة جنسياً في سياق صراع اجتماعي بين الذكورة والأنوثة، دون أن يلغي هذا إمكانية التصنيف الموجودة في أي مستوى من مستويات القراءة النقدية الحرة في تحديد عنوان قراءتها تحت أي منهج تريده، ولا مانع هنا من الحديث عن الكتابة النسائية، أو عن كتابة أخرى هي كتابة الذكور ككتابة مضادة أو مختلفة عن الكتابة النسائية.
وفي أية محاولة للتفريق بين الكتابة النسائية والكتابة الذكورية إن صحت هاتان التسميتان، لابد أن تبرز خصوصية المرأة القائمة على نكران أنوثتها مقابل خصوصية الرجل الذي يجد في المرأة إبداعاً، على أقل تقدير، هروبه من أعباء حياتية كثيرة، على النحو الذي يصوره جورج طرابيشي بقوله: وكما أن الزنزانة التي عاشت فيها المرأة الشرقية، فرضت عليها ألا تبحث إلا عن منفذ واحد: نكران أنوثتها، كذلك فإن الحرمان الذي عاش فيه الرجل الشرقي يفرض عليه ألا يبحث إلا عن منفذ للخلاص واحد: المرأة، جسد المرأة .
وقد طرحت الثقافة العربية الكثير من التساؤلات المحيرة والإشكالية لفهم المفارقة بين الكتابتين، منها على سبيل المثال هل يختلف أدب المرأة عن أدب الرجل؟ وما خصائص هذا الأدب، وماميزاته؟ وما الميزات التي يمتاز بها أدب المرأة عن أدب الرجل؟ وهل في طاقة القارىء أن يفرق بين قصيدتين في مضمون واحد ايهما قصيدة المرأة وأيهما قصيدة الرجل؟ وهل لقصيدة الرجل ميزات تشابه مظهر الرجل في شكله وصوته وكثافة شعره، وأن قصيدة المرأة لها ميزات تحاكي مظهر المرأة؟ ,, وإذا جاز لنا الحكم على المظهر المادي0 فهل يجوز تطبيق هذا الأمر على الفن بوجه عام والأدب بوجه خاص؟ فإذا كانت لكل أديب ميزات تختلف باختلاف الأديب وثقافته ومحيطه فكيف نفرق بين أدب المرأة وأدب الرجل؟ أسئلة كثيرة مطروحة من وجهة نظر الرجل الناقد.
والطرح نفسه نجده لدى إحدى الناقدات التي طرحت هل الأدب والفن اللذان تبدعهما المرأة يختلفان، من حيث هما أدب أو فن عن الأدب والفن اللذين يبدعمها الرجل؟ هل يوجد جنس أدبي أو فني محدد يوسم بالابداع النسائي؟ إذا كانت المرأة تبدع ضمن منطق الأجناس الأدبية أو الفنية المتعارف عليها بين النقاد والقراء، هل تتحول المرأة في إ بداعها بطبيعة هذه الأجناس من حيث هي أجناس أدبية أو فنية؟ إذا كان الإبداع النسائي وجهاً من وجوه الإبداع فماو الوجه المقابل أو الوجوه المقابلة؟ وإذا نحن لم نسمع بمصطلح الإبداع الرجالي هل يقف الإبداع النسائي مقابل الإبداع بذاته؟ هل يسهم فصل الإبداع إلى نسائي ورجالي في إدراك متميز وخاص للطبيعة الإنسانية أو للقضايا الثقافية والحضارية في العصر؟ هل يفيد تميز الإبداع النسائي أو النظرة الجنسية إلى الإبداع في تعزيز الطاقات الإبداعية للمرأة؟ إذا كان موضوع الإبداع النسائي يطرح من وجهة نظر اجتماعية، هل يؤدي تمييز الإبداع الذي تقدمه المرأة إلى دعم موقفها في المجتمع أو حل مشكلاتها؟ هل تفيد قضية المرأة من هذا الطرح إن لم تستفد قضايا الإبداع؟
وكل باحث أو باحثة في فضاء الكتابة النسائية معرض لأن يطرح مجموعة أسئلة بطريقة أو بأخرى حول نظرية الكتابة النسائية ومصطلحاتها وصياغاتها التنظيرية والتطبيقية، في مواجهة كتابة ثقافية يهيمن عليها الرجال تحديداً، وتصبح مثل هذه التساؤلات في سياق الثقافة الإبداعية السائدة ضرورة منهجية، لأنه مازال هناك شبه اتفاق بين النقاد والأدباء العرب، وغير العرب أيضاً، على صعوبة تصنيف الأدب جنسوياً بمعنى أن يكون هناك كتابة نسائية او نسوية أو أنثوية، أو كتابة امرأة وكتابة أخرى رجالية أو ذكورية، وذلك لكون اللغة في العرف الثقافي واحدة لدى الرجال والنساء، وأن الكتابة ليست بالتحديد أنثوية أو ذكورية ,ومن هنا قد تصبح القسمة الثنائية التي تقسم الأشياء إلى وجهة نظر نسائية ووجهة نظر خاصة بالرجال قسمة هشة، بل إنها غير كافية على الإطلاق للوصول إلى أي درجة من درجات العمق، لأنه حتى مع إمكان وجود اختلاف عام في وجهات النظر بين الجنسين فإن المشكلات والمواقف الأساسية في الحياة، ومن ثم في الفن، تبقى لا هي مؤنثة ولا هي مذكرة، وإنما هي ببساطة إنسانية من وجهة النظر الثقافية الداعية إلى المساواة بين الجنسين.
ومهما اختلفت إشكاليات الجنسين الفنية ومضامينهما الحياتية، ورؤاهما الفكرية في التنظير كفئة لها خصائص، فإنه سيبقى من الصعب تطبيقياً التكهن بتبعية خطاب أدبي ما لمبدع مذكر أو لمبدعة مؤنثة عن طريق اللغة، خاصة وأن الكاتب/ الكاتبة قد يتبنى أحدهما أسلوبية الآخر النفسية بجدارة، إذ يمكن أن يبدع الكاتب في إحالة بطولة نصه إلى المرأة كما فعل حليم بركات في روايته الرحيل بين السهم والوتر 1979 والعكس أيضاً يمكن أن يحدث في سياق إحالة بطولة نص الكاتبة إلى المذكر كما فعلت ليانة بدر في روايتها عين المرآة .
ولعل عسرة الفصل هذه لم تمنع أصواتاً نقدية من الجنسين، وخاصة في الجانب النسائي الغرب ي، من العمل على تكريس النظرية النسائية في الكتابة، عن طريق ضرورة ان تتجاوز الكتابة النسائية الخطاب الذكوري المهيمن تاريخياً على الثقافة، لتستهدف وظيفة الكتابة النسائية النقد أو الهدم في الثقافة الاجتماعية والإيديولوجية الذكورية السائدة في المجتمع الأبوي المتشكل من طبقة الرجال المسيطرين على النساء، وأن على المرأة أو الكاتبة في حربها مع المجتمع الذكوري أن تسعى دوماً إلى التمرد لتحقيق ذاتيتها الاجتماعية والنفسية المتساوية مع الرجل حقيقة لا تزييفاً، ومن خلال هذا التجاوز الثقافي يمكن أن تبتدع المرأة الكاتبة لنفسها لغة خاصة مغايرة للغة السائدة، لتمكنها هذه اللغة الخاصة من التأكيد على خصوصية النظرية النسائية المقنعة التي لايمكن أن تنبثق إلا من تجربة المرأة أو من لاشعورها، أي أن على النساء أن ينتجن لغتهن الخاصة، وعالمهن المفهومي الخاص الذي ربما لا يكون عقلياً عند الرجل خاصة أن الرجل يجسد أهم جزء في التشكيل الهرمي السلطوي الذي تتصور المرأة شعورياً في صور معقدة كالاستعباد، كما يبدو من قول نوال السعداوي التالي: كان التاريخ العبودي منذ الفراعنة قد رسم طريق حياتي من المهد إلى اللحد، كما أنه شكل السلطات المنوطة بتنفيذ ذلك، ابتداء من سلطة الأب والزوج في الأسرة الصغيرة، مروراً بسلطة الدولة والقانون والمؤسسات، وسلطة الدين والشريعة وانتهاء بالسلطة العليا أو الشرعية الدولية, وقد اتخذت هذه السلطات المترابطة المتضامنة شكل الهرم الأكبر ,, تلاحمت في قوة واحدة على شكل يد حديدية ألقت بي في فراش الزوجية، تحت وهم الحب العذري، والفكرة العلمية الفرويدية القائلة بأن المرأة تخلق الأطفال لا الأفكار .
وفي ضوء هذا الوعي الرافض المتمرد في الكتابة النسائية يفترض أن تختلف كتابة المرأة الابداعية في ظل نظرية الكتابة النسائية عن كتابتها في الأزمنة الماضية التي هيمن فيها وعي نظرية الرجال في الكتابة، بحيث عاشت المرأة تحت سقف سلطة الرجل الثقافية، فلم يتجاوز خطابها الإبداعي تقليد الخطاب الذكوري، لذلك لم يظهر صوت المرأة في الثقافة العربية -على سبيل المثال- إلا في بابي الرثاء والغزل، فهي في الرثاء قد شاركت الرجل فنظمت ما جادت به طبيعتها من شعر,, أما الغزل فنصيبها فيه نصيب الموحي فقط ,,و لأجلها كان الرجل يبث عواطف الوجد، ويتغنى بأناشيد الهيام .
وفي هذين البابين لم تكن قضية الأدب النسائي موجودة أو ملبسة أو إشكالية، فالرثاء أو الحزن كما فعلت الخنساء كان من حق المرأة اجتماعياً، خاصة إذا كانت ترثي رجلاً يفترض أن يكون مهماً مثل صخر , أما الحب والغزل فقد كانت فيه المرأة موضوعة من موضوعات الرجل العاطفية، ولم يسمح لها بأن تكشف عن حبها في قصائد غزلية أو مقطوعات نثرية مماثلة، ولو فعلت ذلك لقدمت نفسها فريسة سهلة للعار وربما للقتل غسلاً للعار,وهذه الرؤية ليست شائعة في الشرق فحسب، وإنما أيضاً شاعت في الغرب الذي لم يسمح للمرأة إلا بالظهور رصينة خجولة، ومثال ذلك: أنه لما ظهرت الأنثى في الرواية النسائية الأمريكية في بدايات القرن التاسع عشر لم يكن لها الحق في التصريح بحبها حتى لو مرضت واقتربت من الموت، بل إذا صرح لها الرجل بحبه، فإن عليها ألا تصرح بما في نفسها خجلاً وتحرجاً.
والمجال واسع لو أردنا أن نخوض في الثقافات البشرية القديمة، لنجد حياة المرأة امتلأت بتيمات الوأد والقتل والاستلاب والسبي مما جعل من الثقافة فعلاً ذكورياً قمعياً يحظر على المرأة التعبير عن عواطفها بحرية، وفي الوقت نفسه يسمح للرجل أن يمارس في اللغة مايدل على فحولته الشعرية وغير الشعرية، فلا يحال بينه وبين التشبيب بالنساء, في مقابل محدودية ظهور المرأة المبدعة في التاريخ القديم، وهو ظهور لم يتجاوز شهرتي الخنساء وليلى الأخيلية عربياً، الأولى في الرثاء، والثانية في التصوف.
ولم تجد المرأة العربية خاصة، والمرأة عموماً وعيها المستقل وثقافتها المستقلة وكتابتها المستقلة إلا مع النهضة الحديثة في القرن العشرين في سياق التحول الثقافي الاجتماعي في الغرب أولاً ثم في الشرق، حيث نالت المرأة بعض حقوقها المستلبة من الآخر عن طريق تعميم التعليم للجنسين.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved