Sunday 2nd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 محرم


هنري ماتيس
هدوء في اللوحات لم تعكسه الحياة
رضا الظاهر

يقول لويس أراغون يكفي أن نترك ماتيس لنفسه، ويداه تحول الاشياء المبتذلة الى اشياء مترفة فعيناه اللتان تسبران الاغوار من خلف نظارتيه قادرتان على التمييز الدقيق, وهما لا تركزان على السمات المميزة للاشياء وانما على المعادلة الجمالية التي يستمدها العقل الانساني من الاشياء، وعلى موضوع الاختيار النادر, ومن هنا يأتي ولع الرسام الفرنسي بالأرابسك ، والقرميد الفارسي، والحرير الشرقي، والزجاج الثمين، والبسط المترفة، والطيور الغريبة، والنساء الرشيقات.
وينعكس مزاج هنري ماتيس المتناغم في كتابته عندما يقول مثلا يجب علينا ان نتعلم كيف نكتشف الفرح في السماء، والاشجار، والزهور، وكيف نستمد السعادة من اعماقنا، والنور الذي يمكن ان تلقيه على الضباب المحيط بنا .
الجميع يحبون ماتيس، فهو مبهج جدا,, السماء عنده زرقاء دائما، والزهور متفتحة دائما، ولوحاته مشبعة بالألوان المفرحة, وفي وقت لاحق عندما كان يجلس منتصباً في السرير وفي يده مقص كبير، ويقوم بصنع اشياء ساحرة شبه تجريدية من الورق الملون, فأية حياة رائعة عاشها هذا الفنان!
وفي السيرة التي كتبتها عن ماتيس ، وصدرت مؤخرا تحت عنوان (ماتيس المجهول: حياة هنري ماتيس)، تظهر هيلاري سبيرلنغ ، التي تضيء السنوات الاربعين الاولى من حياة ماتيس، كيف ان هذا الانطباع غير دقيق, فمؤرخو الفن يشعرون بسعادة اكبر وهم يتابعون ما يشكل الفن بدلا مما يشكل الانسان , لكن سبيرلنغ، وهي كاتبة سيرة ادبية، اوسع افقا واكثر جرأة, وتستفيد روايتها للاحداث من بحثها في خلفية الفنان الاجتماعية, فما الذي يمكن ان تجده كاتبة السيرة هذه مما هو غير معروف ولم يجر البحث فيه؟ على الرغم من التحفظ الحذر لما تيس وعائلته ، كشفت سبيرلنغ عن قدر هائل من المادة الجديدة الآسرة، وابدعت كتابا رائعا.
ولد ماتيس في ديسمبر كانون الأول 1869 في بيت نساج متواضع في مدينة لاكاتور كامبريسيس الموحشة، الواقعة قرب الحدود البلجيكية, كانت عائلته كبيرة، وكان معظم افرادها يعملون في النسيج, ولكن والده، الذي اقام في باريس فترة قصيرة عمل خلالها في محل لبيع الملابس النسائية، عاد ليفتح محلا لتجارة البذور في بوهاين, أما أمه ، وهي من المنطقة نفسها، فكانت تعمل في محل لبيع القبعات الباريسية, ويصعب على القروي البسيط ان يصف وجوده في بوهاين, فالفقر والبطالة والادمان على الكحول كانت هي القاعدة، أما الحياة الثقافية فلا وجود لها, وقد ادت رغبة ماتيس في ان يصبح رساما الى اثارة شكوك مروعة في اجواء العائلة التي اعتبرته كسولا، بينما اعتبره آخرون شخصا محتالا, وكان الناس ما يزالون يسخرون من رسومه حتى بعد فترة طويلة من نجاحه على نطاق عالمي.
وتتألق هذه السيرة، أيضا، في اضاءة مصاعب الحياة البوهيمية لطلاب الفن الباريسيين، الذين كانوا يعانون من البرد والجوع، وهو موضوع ربما بدا مستهلكا, وكان المتحكمون بتقييم الاعمال الفنية رسامين لايتمتعون باية كفاءة ابداعية , ولكن اذا لم يلتزم المرء بالخط الذي وضعه اولئك الحكام البلهاء، فانه يكون غير مؤهل تماما، ولا يمكن لاعماله ان تعلق في الصالونات، ولا يمكن له ان يحصل على مهنة، فاما ان يجوع او يستسلم, وقبل عشر سنوات من ما تيس عانى فان غوخ، وبعده غوغان، من الاذلال نفسه في معاهد الفن ذاتها.
وقال ماتيس ان العداء لعمله الابداعي كان على نحو جعله يشعر بانه مصاب بمرض معد, ومع ان ماتيس كان عصبي المزاج ويعاني من مرض في المعدة، ومن عدم الثقة بالنفس، فقد افلح في علاقاته مع بعض النساء، ولكن علاقته الجدية الاولى منيت بالاخفاق بعد ولادة ابنته مارغريت, ثم تزوج اميلي باراير التي قدمت له دعما كبيرا، وهي التي نعرفها من خلال الكثير من البورتريهات باعتبارها المرأة الأكثر جاذبية, وقد ولد لهما ابنان، وعاشت العائلة، في السنوات الاولى، حياة طبيعية, غير ان القدر كان يخبىء للزوجين مأساة استمرت فترة طويلة.
فقد كان والدا إميلي يعملان مستخدمين لدى زوجين ثريين عصريين هما الزوجان هومبرت، اللذان كان لديهما بيت في شارع غراند آرمي، وقصر في الريف, وكان للزوجة تيريزا هومبرت عشيق امريكي، وكان كل شيء يدفع من خلال الاقتراض بفوائد متضخمة على اساس توقعاتها مما ستحصل عليه من وصيته ومن سوء الحظ ان اولاده واصلوا النزاع حول هذه الوصية، واستمرت القضية لفترة عشرين عاما كانت عائلة هومبرت خلالها تحيا حياة الامراء, والحقيقة هي انه لم يكن اي امريكي، وكانت الوصية مجرد حيلة، فقد كان الابناء هم اللصوص، اشقاء تيريزا في السر، ولم تكن هناك أية اموال , وعندما انكشفت اللعبة برمتها عام 1901 تحملت عائلة باراير العقوبة، بينما فرت عائلة هومبرت الى مدريد.
وفي ذلك الوقت كان ما تيس البالغ 33 عاما، يعيش على الارباح الشحيحة لمحل القبعات الذي كانت زوجته تديره, وقد انتهى ذلك اثر الانهيار المالي، وتعين عليه ان يتفادى الصحفيين ورجال الشرطة نيابة عن والدي زوجته السجينين, فاضطر ماتيس الى التوقف عن الرسم, ويبدو انه، وهو الانسان الدائم القلق ، كان يعاني من الانهيار العصبي الذي كان يعني انسحابه الى الشمال، والسخرية والازدراء لعائلته, وربما كان من السهل عليه ان يستسلم في تلك المرحلة, ولكن الامور سارت باتجاه آخر فبينما ذهب آل هومبرت الى السجن، أفرجت المحكمة، أخيرا عن عائلة باراير باعتبارهم ابرياء، وعاد ماتيس الى الرسم.
ان هذا كله لشيء ساحر، ويفسر بعضا من ذلك التحفظ الحذر ، غير ان سبيرلنغ لاتتجاهل رحلة ماتيس في الاتجاهات المختلفة التي هزت عالم الفن الباريسي، وادت به اخيرا الى اتجاهه في الرسم الذي سمي (الفوفية) وتتحدث كاتبة السيرة، ايضا، عن تأثير اعماله الفنية ، وعلاقاته المتوترة، مع تجار لوحاته.
وتتركه ، في هذا الجزء الاول ، وقد حقق نجاحا كبيرا، واوشك على ان يبدأ منافسته الابداعية المديدة مع بيكاسو.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved