Monday 3rd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأثنين 17 محرم


قصة قصيرة
بائع الجاز

رجت أركان القرية النائمة على سفح الجبل بصوت الحق يدعو النائم لصلاة الفجر,, يصل الصوت بكل هدوء الى أذني عم أحمد النائم على فراش من حصير في كوخ صغير بأقصى القرية.
الصوت اقتحم أذن العم احمد مباشرة وامتزج مع احلام بائع الجاز,, استيقظ العجوز النائم من أحلام شبابه.
لا إله إلا اله,, اصبحنا وأصبح الملك لله الواحد الأحد,, قالها وهو يطلق ليديه العنان في خط مستقيم معبرا بهما عن نشاط لا يزال مستمرا منذ 65 خريفا.
ونهض العجوز متجها الى الحمام مشمرا عن ساعديه ينوي الوضوء ليلحق بالصلاة مع الجماعة في مسجد القرية المبني من السعف واللبن,, ورمى العجوز شماغه على رأسه بعد ان انتزعه بكل هدوء من على مسمار دق على الجدار القريب من الباب,, وصاح صرير باب الكوخ المهترئ معلنا عن وجوده بعد ان أمسكه العجوز من مقبضه الخشبي ودلف خارجا,, واتجه الى حظيرة حماره القابعة كقطعة أثرية خلف الكوخ.
شي,, شي,, حا,, حا,, اهدأ حتى ألبسك البردعة!!
وامتطى العم أحمد ظهر حماره,, وكالعادة انطلق الحمار بدون ان ينتظر امر صاحبه ميمماً صوب المسجد.
وفي الطريق الترابي الموصل للمسجد,, قال العجوز لحماره وكأنه يحدث شخصاً يفقه,, تصدق أنك حمار ذكي ونشيط,, فأنت أفضل بكثير من حماري السابق,, حا,, حا,, ولا غرو فأنت أصغر منه سنا وما أماته إلا الكبر,, إيه دنيا.
قالها بصوت خافت وبلحن حزين وأردف,, وكأنه يخشى أن يسمعه الحمار لن أبيعك حتى لو اعطوني عشرة حمير,, ان سالم رجل مجنون,, كيف أبيعه هذا الحمار الذكي النشيط,, قالها بعد ان تراءت له صورة سالم وهو يغريه ببيعه تارة وبالوعيد والتهديد تارة أخرى,, ان تهديدك لن يخيفني,, قال هذه الكلمات بصوت مرتفع وكأن سالماً هذا أمامه.
وتدارك العجوز نفسه ونظر بكل حياء عن يمينه وشماله ليرى ان كان هناك أحد يحتمل ان يكون قد سمعه ام لا,, فهو يخاف ان يتهم بالجنون,, الحمد لله لا يوجد أحد,, وتوقف الحمار عند باب المسجد فالتقت عيناه بعد ان نزل من على ظهر حماره ودلف لداخل المسجد بعيني عمدة القرية الشيخ سالم,, ولكن العجوز تجاهل نظرات العمدة الممتلئة حقدا وغيظا فليس من المعقول ان يرد أحد طلبا للشيخ سالم وهو كبير القوم إلا من أراد شرا لنفسه,, فالعمدة رجل قاس يهابه كل من في القرية لسطوته وجبروته والجميع يخشاه ويرتجف أمامه,, وبعد ان أدى الجميع صلاة الفجر وهمَّ العجوز بالخروج من المسجد وإذ بصوت يستوقفه,, انتظرني في الخارج ايها العجوز,, فهز العم احمد رأسه على مضض ودلف من باب المسجد وقبع بالقرب من حماره والهواجس والظنون تنهش تفكيره لدرجة انه لم ينتبه لصديق عمره ابوفلاح وهو يرمقه بنظرة متسائلة إلا عندما تكلم الآخر قائلا,, خيرا ياأحمد أراك مهموما وكأنك تحمل هموم القرية على جثتك النحيلة,, ورد عليه بعد ان رفع بصره المطرق على الأرض وصوبه تجاه صديقه.
العمدة,, لقد طلب مني انتظاره عند باب المسجد.
وما يريد منك هذا الرجل الكريه.
اعتقد انه سيعود لتهديده,, ولكنني لن ابيعه الحمار,, لن ابيعه الحمار,, قال هذه الكلمات بصوت اليائس المستميت.
اسمع ياصديقي لست وحدك المستاء بل كل القرية مصابة بالاستياء منه فلا احد ينسى انه اغتصب مزرعة ابي عبدالرحمن بالحيلة والخديعة,, وعربة ابي جبريل وحتى تلك الأرملة الوحيدة ام علي لم تنج من شروره,, فقد وضع يده على البيت الذي تقتات من أجره وهي الآن تعيش على ما يهبها إياه المحسنون في كوخ صغير اعطاها إياه بالأمس إمام المسجد وغيرهم حتى أنا.
وماذا يريد منك؟
يريد ابنتي سلمى,, ابنة العشرين ربيعا تتزوج عجوزا شريرا,, يا إلهي ماذا أفعل قالها والغصة تخرج من حلقه وهو رافع يديه الى السماء يناجي ربه,, ولم يكمل دعوته إذ ان العجوز نبهه بصوت خافت سريع اسكت,, اسكت,, ها هو قد خرج واتجه نحونا,, اذهب أنت.
لن اتركك وحدك,, وسأراقب الموقف من بعيد,.
وأقبل العمدة ذو النظرات القاسية,, وقال بصوت هزىء,, ماذا قلت أيها العجوز,, أنا اريد حمارك فهو صغير السن ونشيط بكم تبيعه؟
عم أحمد يعرف انه حتى لو أخذ
أي مبلغ من هذا الرجل فانه يسترده منه بطريقة أو بأخرى.
بماذا تفكر,, هيا انطلق,.
اسمع أيها العمدة,, ان هذا رأس مالي ولا استطيع ان أجر العربة لأدور بها على بيوت القرية فأنا رجل كبير السن,, ارجوك دع لي الحمار وعربتي وخذ ما تريد,, اسمع ,, اسمع,, انا مستعد أن ادفع لك نصف الاجر الذي اتقاضاه مقابل بيع الجاز,, وسكت العجوز لينتظر الرد,, فرد عليه العمدة وقد ترك يده تربت على رقبة الحمار.
لا,, أريد الحمار,, يعني اريد الحمار,, (وقال بصوت غاضب) هل لديك مانع,, انا اريده الآن اريده,, وبكل قوة رمى العجوز أرضا فسقط وهو يصيح لا حول ولا قوة إلا بالله,, اللهم اني استجير بك من هذا الرجل فأجرني,, وأخذ يردد هذا الدعاء,, والعمدة يحاول جذب الحمار من لجامه ولكن الحمار لم يتزحزح من مكانه,, بعد أن شاهد ما يفعل بصاحبه,, وكأن إرادة الله أرادت ألا يتحرك الحمار.
هيا,, تزحزح,, هيا,, تحرك أيها اللعين,, تحرك وإلا أمتك ضربا بهذه العصا التي في يدي ولكن الحمار لم يتزحزح من مكانه,, فما كان من العمدة إلا ان انهال عليه ضربا,, على مؤخرته وعلى رأسه وعلى جنبه وفي كل مكان من جسمه,, حتى سال الدم من جسم الحمار,, والمسكين أحس بالألم وبدأ في النهيق واستشاط العمدة غيظا وزاد العمدة من ضربه وعلا صوت نهيق الحمار حتى سمعه كل من في القرية,, وبدأ القرويون في التجمهر امام المسجد يشاهدون الظالم وهو يضرب الحمار, والعم احمد ملقى على الأرض يئن من ظهره ولسانه يلهج بالدعاء على العمدة.
فركله العمدة برجله وقال له بصوت غاضب خانق,, خذ أيها اللعين,, أتدعو علي وانا عمدتك,, سأريك فيما بعد وعاد لضرب الحمار من جديد,, وجميع أهل القرية واقفون يتفرجون إذ لا يجرؤ احد منهم على التدخل إلا من أراد لنفسه شرا والجميع هنا خائف على نفسه وممتلكاته,تحرك,, هيا,, هيا,, تحرك,, ومن شدة الضرب اطلق الحمار لرجليه العنان في ضربة قوية اصابت العمدة في بطنه فأردته قتيلا في الحال.
فنسي العم أحمد إصابته ووقف على قدميه وابتسامة هادئة اختلطت مع دموعه وقال بصوت سمعه الجميع بكل وضوح وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون , تمت 1986م.
محمد بن هلال
مدينة الجبيل الصناعية

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
الطبية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved