أفق رجفة أثوابهم البيض,, الحلم وتشظيات الواقع محمد الحرز |
(لا أظن ان الحلم هو تماما نقيض الفكر ما أعرفه منه يجعلني اميل الى الاعتقاد بانه ليس الا شكلا من الفكر اكثر حرية واكثر خصوبة),, بيار ديفيروي، آراغون (فلاح باريس).
لا تسعى هذه المقاربة النقدية ذات التوجه البنيوي الى قراءة المجموعة القصصية (رجفة اثوابهم البيض) ليوسف المحيميد قراءة تضيء جوانب النص بأبعاده المختلفة وانما تحاول ان تقف عند حدود، تتبع مجمل الثنائية المتمظهرة من خلال البنية السردية للنص.
ان شكل الكتابة الابداعية عند الكاتب يوسف المحيميد تأخذ ابعادها المعمارية او تتشكل في القص عبر بناء السياق النصي لثنائية (الواقع/ الحلم) التي يبحث الكاتب من زاويتها عن عالمه القصصي تاركا انثيالات اللحظة بارتهاناتها النفسية والاجتماعية والثقافية تستمد جذورها من تدفقات اللاشعور وهو بذلك يفتح افقا قصصيا ينطلق من الذات وإليها يعود وفق مشروطية هذه الثنائية, من هذا المنطلق نراه يرصد حركة الحلم وهو يتشظى امام الواقع المعيش بلغة ايحائية مكثفة تعطي انطباعا على امكانية تجاوز التمحور الذاتي وتعديه، وبالتالي ينفتح النص على القراءة الواعية وفي عدة اتجاهات فمنذ اللحظة الاولى التي ندخل فيها الى عالم هذه المجموعة نجد ان العنوان يضعنا امام هذه الثنائية وبشكل صدامي مؤثر يجعل القارىء يستشعر عمق الحدث المنتظر والمتغلغل داخل البنية السردية للمجموعة فكلمة (رجفة) وما تحيله من دلالة صوتية على اثر حتمي نتيجة لفعل تصادمي نجده في كلمة (اثوابهم البيض) من دلالة على وجود القيم المثالية المتجسدة عبر الحلم المقموع تشير بدلالة واضحة على تحرك هذه الثنائية عبر اغلب قصص المجموعة ففي اول قصص المجموعة (الحشرة) يفتتح السارد القص:
(كانو اربعة وقفوا بجوار فراشي ايقظوني بفيراسي فقفزت مذعورا لم اتعرف على اي منهم,, وما ان لمح النوم المباغت يدلي برأسي فوق صدري حتى اعطى الرجال معه اشارة حملوني بعدها),, يتجلى الصراع محسوسا ظاهريا بين الواقع المتمثل في الرجال وبين الحلم المتمثل في تداعياته المكانية، الامر الذي يبرر غياب اسم السارد انه يفتح للقارىء بعدا واقعيا يعيد به صياغة الواقع الراهن وانتاجه على المستوى الحلمي للنص وتخليه وحينما نضع ايدينا على قصة (الريش) ثاني قصص المجموعة نلاحظ ان الكاتب استلهم عناصر الطبيعة في التعبير عن (الحلم/ الواقع) بآليات فنية تضبط النص حيث ينفتح فضاء النص على مستويين في الحركة، يرتكزان على رؤية ابداعية في معرفة الواقع والتقاط ابعاده السلبية من خلال صياغة المتن القصصي بلغة شعرية تشحن دلالاتها المتولدة بالطاقة الرمزية والمتجذرة داخل وعي الكتابة الابداعية.
فالمستوى الاول: مستوى حركة الواقع اليومي الملتصق بهمومه ومشاكله اليومية (ويمكن ان نطلق عليه بالمستوى الافقي للقصة) ومع بداية القصة نجد أنفسنا في وسط السوق حيث يبدأ السارد بوصف الشخصية والمكان: (توسط السوق وتلفت طويلا باحثا عن الباعة الآخرين وليس هناك سوى واجهات المحلات الزجاجية الانيقة ودهشة وجهه وغيمات سود تلوح في الافق البعيد) هنا نتوقف قليلا حيث يلحُّ علينا وبشدة سؤال هو: لماذا اختار القاص الاماكن المفتوحة في اغلب قصصه لتكون الارضية التي يشيد عليها بناءه القصصي مثل: السوق - ساحة المدرسة - الشارع - الرصيف - عتبة المنزل - وبما ان المكان عنصر من عناصر البناء الفني لا يمكن الاستغناء عنه اطلاقا واخذا بمقولة: (إن المكان مؤنث) للنفري تبرز اهمية المكان في وعي الكاتب ومدى فاعليته في القصة لذا يبدو ان تلك الاماكن التي عمد الى اختيارها الكاتب لها دلالات وقيم تعمل على ربط الواقعي بالرمزي في علاقة تتشكل داخل دائرة البناء الفني اذ ان الاماكن المفتوحة ذات الابعاد المتعددة، انما لجأ اليها القاص عن قصد او دون قصد، حتى يعكس من خلال الوصف الموضوعي والوصف النفسي للمكان المتخيل انعدام حركية الحلم داخل المكان - الواقع الذي يضم اكبر شريحة للمجتمع ونحن نعلم بالطبع ان الشارع مثلا من الاماكن المزدحمة الصاخبة المليئة بالفوضى وهو المقياس الحراري للحياة العربية العامة وكأنما - ايضا - اراد الكاتب ان يجسد موقف المجتمع بما يفرزه من سلبيات تجاه القيم والمثل المحلقة عبر اجنحة الحلم، اذن نحن امام حركة مكانية مركبة تأتي لتوحد اطراف التجربة القصصية وتعطيها بعدها الخاص وحينما نأتي الى المقطع السابق تنكشف دلالات المكان عن بنية ايقاعية تتدرج ضمن مدارات الحقل الرمزي ومستوى تحركه في القصة لتمتد وتتمظهر عبر آليات السرد وتقنياته حيث تبدأ من (وغيمات سود كثيفة تلوح في الافق البعيد) وتمتد الى,, (وعاد باقفاص حمائمه البيض,, فاشتعل جلدها الاسمر,, بينما نواح حمائم بيضاء يخف رويدا رويدا,, يتراءى له بأن على شفتيه بعض ريش ابيض) وهذا مايجعلها (القصة) تظهر بحركة متناسقة تحمل سمات الايقاع المتكىء على الصورة الشعرية الرامزة,, فأحداث القصة في مستواها الافقي هي عبارة عن كيان كلي لا يعاش الا من خلال القراءة لاحتوائها على تفاصيل مشهدية مشتبكة الحدث فيها الاسطوري والعادي وهذه ميزة تجدها في غالبية قصص المجموعة,.
اما المستوى الثاني مستوى حركة الرمز (المستوى العمودي للقصة) حيث يتشكل الرمز ويظهر من خلال (الشاب النحيل) وهو يحمل اقفاص حمائمه البيض إذ من هنا يتلون الرمز ليدخل في شبكة من العلاقات تضيء حركة النص فعندما يتنقل الشاب بهواجسه ويطلعها في الفضاء الرحب يفاجأ بوطأة الشارع وما تحيله هذه المفردة على الواقع وقد التهمه من هنا يبدأ الصراع وينتهي (بينما نواح حمائم بيضاء يخف رويدا,, رويدا),, (سيمشي خافضا رأسه).
انها الهزيمة المؤدية الى الموت (سيلمح رجلا يتراءى له بأن على شفتيه بعض ريش ابيض سيبكي) يفتح زاوية يضيء خلالها الرؤية المستقبلية للقاص ,, انها رؤية مأساوية تسيطر على اجواء القصة.
|
|
|