لثقافة رهان حضاري(10) من الثقافة إلى الحضارة أ, د, كمال الدين عيد |
بات من المؤكد ان حضارات مازوبوتاميا Mezopotamia فينيقيا القديمة، آشور في القرن السابع قبل الميلاد، وحضارة وادي النيل في مصر القديمة قد سبقت الحضارة الاوروبية بعديد من القرون.
يشير الالماني نايدرمان Neidermann الى ان لفظة (الحضارة) لم تستعمل في اوروبا الا نادرا قبل القرنين 14 ، 15 ميلادي,, زمن عصر النهضة الاوروبية,, ولم يكن استعمالها آنذاك إلا كلفظة مرادفة للفظة الثقافة Synonym خاصة في التعبيرات والمصطلحات المتعلقة بالعلوم, وشاع هذا الاستعمال نقلا من الالمان الى الايطاليين والفرنسيين والبريطانيين بما ترجموه عن الفلسفات الكلاسيكية الالمانية الى لغاتهم, ومع ذلك فقد بقي معنى التعبير مختلفا في كل بلد عن آخر, فتطور القارة الاوروبية بين القرنين 17 و19 ميلادي يشير الى ان لفظة الحضارة عند الانجليز كانت تعني بداية النهج الراديكالي في عالم الاقتصاد، بما كان يعني النزوع الى احداث تغييرات متطرفة في العادات السائدة في المجتمع وفي الاحوال والمؤسسات القائمة في بريطانيا,, بينما سعت الحضارة في فرنسا الى احلال حركة التنوير والمناداة باصلاحات اجتماعية وسياسية مثالية يوتوبية Utopian (حرية، إخاء، مساواة)، اما الالمان فقد راهنوا على طريق الحضارة من الزاوية الروحية لدى الانسان لانتشاله من الحرمان الاقتصادي والضعف الاجتماعي الذي كان يدور في فلكه,, وليس أدل على ذلك من تأملات ورؤى فيلسوفيها كانط، هيجل، التي حددت درجات الثقافة وقنواتها الى نقطة الحضارة.
عالم لفظة الحضارة
* ماذا تعني اللفظة تحديدا؟ إنها تدخل الى عالم واسعة من المعارف والوعي والفهم والادراك,, وتلمس (المواطنة) في عمق وتنوير، وتستأنف كل ما وصلت اليه الانتصارات الثقافية، كما ترتبط اللفظة ارتباطا عضويا بالمزاج الحياتي للانسان، وبتصرفاته وسلوكياته لحظة بلحظة.
والحضارة - من الجانب التاريخي - تفتح أعيننا على عصور التقدم في التاريخ بدءا من التاريخ السحيق للوحشية فالبربرية، سائحة بنا الى عصور التنقل فالاستقرار حول المياه، الى تعمير القرى والمدن وتحديد الفروق بين حياتيهما اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا، فعابرة الى ازدهار العمل اليدوي، فالتجارة فالتعامل بالعملات فالانتاج, وحتى تصل الحضارة - عبر تاريخها الطويل هذا - الى الراحة الحياتية المستندة على نظام سلوكيات الفرد وعلى مكتسباته الاخلاقية من الحياة ومن حولها، مسلحة بالعلم والتعليم واستغلالها لصالح الانسان المعاصر في ثنائية على درجة عالية من الثقافة، وهنا تظهر لنا الفروق واضحة بين الحضارة والثقافة، تكمن في الحضارة نتائج السباقات العلمية والاختراقات الهندسية والغزوات الفضائية، والتقدم الذي يصل اليه المعمار والجيولوجيا ضد الزلازل والمصائب الطبيعية والمائية، اما الثقافة فهي إعداد الانسان للاحساس بمشكلات العصر، والارتفاع بتفكيره وقدراته لاستنبات الحلول وفق تفكير عال سليم لا يخطئ.
وفي نفس هذه اللحظة يسهل على الحضارة اجتياز مخاطر العصر ونكبات الحياة، طالما تواجدت في مجتمع ثقافي فعال أو تلامست مع عقل واع مثقف.
كان جان جاك روسو J.J. Rousseau أول الباحثين في الحدود الفاصلة بين الحضارة والثقافة، فالاولى تحوي العلوم بين ذراعيها، اما الثانية فهي الحاضنة لكل الفنون والاخلاقيات معا, الحضارة تؤرخ لعصور التاريخ، والثقافة بناء وتشييد للإنسان في مجتمعه يقوم على عناصر تنظيم وتركيب Structure ، وفي ظل علاقة متبادلة, وبسبب هذه العلاقة المتبادلة يقع الخطأ في تعريف الحضارة والثقافة، مع انهما نموذجان مختلفان تمام الاختلاف، بل ويمكن وصفهما بالمتضادين رغم علاقتهما المتبادلة, كيف ذلك؟ يعود التضاد - تاريخيا - لتفرد خصائص كل منهما، وهو التضاد الذي ظهر في الفلسفة المتناقضة بين كل من كانط، وشبنجلر عند رؤيتيهما عن الحضارة والثقافة، يعتبر كانط ان الحضارة في فلسفته تشمل تطور الانسان, ويرتكز هذا التطور على الطبيعة والوجود الغرائزي، كما يعتمد ذلك على ثقافة انبثاق تتبع نظرية الصدور او الفيض في خلق العالم الصالح Emanation مسلحة بالحرية والاخلاقيات وحالة مستقرة لانسان العالم, وبذلك يضع كانط الثقافة في درجة أقل من درجة الحضارة (وهي كذلك بالفعل).
اما شبنجلر ففلسفته تعكس الصورة او هي تقلبها رأسا على عقب، ففي منظوره ان كل مجتمع من المجتمعات يولد مع انتماء عضوي للطبيعة، ثم يتطور الى فناء، وبين مرحلتي التطور والفناء تقع مرحلة الحضارة, وتبقى الحضارة صورة او هي تاريخ ايجابي عند كانط، بينما هي عند شبنجلر سلبية تماما.
ومع التقدير لكل من ادلى بدلوه او فلسفته في تحديد معنى لفظتي الحضارة والثقافة، فإنني اجد في مجابهة العادات والسلوكيات غير الحضارية مهمة غالية من مهمات الثقافة لدحض كل ما هو غير موضوعي او ذاتي شخصي قد يسيء الى القيم الحضارية في اي زمن وأي مكان، إذ من المؤكد اليوم في عصرنا الحاضر ان الثقافة عامل مكمل للحضارة,, فالراحة في البيت أثاثا وتهوية وآلات مطبخ وانتقاء واختيارا جميلا يعود الى درجة الثقافة والوعي عند البشر، كما يؤكد جيرج لوكاتش في فلسفته الجمالية.
واذا كانت الحضارة تمثل حصيلة العمل الانتاجي ، الذي يظل تاريخا باقيا (منازل بابل القديمة) فإن الثقافة نبعها الانتاج العقلي الروحي Spirit واذا مثل يوم العمل الانتاجي الحضارة، فإن يوم الراحة والرضا هو نتاج الثقافة بكل تأكيد, وبينما تعمل الحضارة على بعد واحد محدد لطريقة One Dimension تصنعه وفقا لأبعاد معينة، فإن الثقافة عامل مكمل تجاه التكامل,, وبينما الحضارة وسيلة الى غاية، فان الثقافة هدف من الاهداف التي تقرر وتستكمل وفق المراحل المتاحة، وتهتم الحضارة بالمجتمع بالدرجة الاولى لتخليده، بينما تتعامل الثقافة مع الناس والجماهير.
نطلع جميعا على تاريخ الحضارة ماثلا امام الأعين، لا يمكن دحضه، وهو تاريخ يحمل قرونا وسنوات, يفصح عن حركة المعمار في العصر القديم (الحدائق السبع المعلقة في بغداد، برج بيزا المائل في بيزا بأيطاليا، الاهرام في مصر، وغيرها من آثار)، ونقف شاهدين على عصر من عصور الحضارة، اما الثقافة فهي ممارسة فعلية يومية قد يؤرخ بعض ما تتركه للحضارة, ومن هنا نستشرف ديناميكية الثقافة التي تتلامس مع حركة الحياة اليومية التي تجري على عجل في نهاية القرن العشرين.
لكن مما لا شك فيه ان اطلاع الانسان على تاريخ الحضارات يجعله مؤهلا للوصول الى درجة عالية من درجات الثقافة، اذ ان المعرفة بتاريخ الحضارات يمثل خلفية رائعة للإنسان تجعله أقدر على استبيان المعرفة والحكمة، وبهذا يكون اعظم من غيره على التحدث والتفلسف في قضايا عدة، فضلا عن شعوره الداخلي بأنه اعلى مستوى من الآخرين,, وهو احساس ذاتي بالقدرة والمقدرة على الدخول في مناقشة قضايا حيوية كثيرة في مجتمعه وبين ناسه، وهو السبب المباشر في تقدير الغير له واحترامه واعتماد كلمته ووجهات نظره,, فدراسة تاريخ العلوم مثلا ما هو الا دراسة فلسفة الحضارة في زمن معين لبقعة معينة بعينها، ومشاهدة الآثار الحضارية رؤية العين اضافة وتوثيق مؤكد لفترة او حقبة من حقبات التاريخ تبقى مع المثقف في اللاشعور حتى يوارى الثرى.
في نهاية السبعينيات وقفت على اطلال بابل في العراق، ولم ادر، ساعتها إلا والدموع تنهمر من عيني على تلك الحضارة، ولا تزال دموعي تسيل حتى اليوم، حين اعود بذكرياتي الى ذلك اليوم البعيد، بقايا عدة حجرات ترابية قد لا تساوي شيئا في نظر الناظر العابر، لكنها في ذات يوم - ستظل - صرحا حضاريا شامخا يكتب قصة حضارة عربية عظيمة من حضاراتنا, ونفس الاحساس نعمت به في زيارتي الاولى لدمشق في نهاية الستينيات وانا اخطو الى باب المسجد الأموي لاتنفس عرق الحضارة الاسلامية فضاء واسعا ومعمارا اسلاميا منمقا ومزخرفا، وعلى بعد قليل من المكان، زرت قبر صلاح الدين الايوبي البطل المغوار، وساعتها احسست بعروبتي، وبتاريخ حضارتي التي تظل ماثلة امام العين، وداخل الروح والنفس، وبدا لي العربي ماردا عملاقا، لعلها احاسيس تطمس الواقع المعاصر, لكنها تشحذ الهمة لمستقبل عربي مشرق بإذن الله، طالما بقيت المشاعر قابعة في النفس.
|
|
|