Thursday 6th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 20 محرم


حين غنت الزرقاء,.
قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشعر؟ للشاعرة ثريا العريض 4-7
د, محمد محمود رحومه

* العين والعين الأخرى
وحين نصل إلى العيون نجد الشاعرة قد افاضت في استخدامها في تشكيل صورها، والعيون التي نجدها في هذا الديوان عيون لا ترى، من هنا كان تشويه الواقع الذي تقدمه، عيون مطفأة انتهى دورها ولم تعد الى وظيفتها وان ظلت على اسمها - العين - لم تفارقه نكاية فينا وتعذيبا لنا, العين ترصد التشويه هنا:
,, هذا العذاب الخرافي
كيف ورثناه يا وطني؟
لعنة لخطيئة من؟.
صدقنا أنت؟ ام صورة تتشوه فينا,.
تزوِّرها أعين كاذبة؟ (ص56)
هل تشك في الواقع أم تشك في عينها؟ هل يمكن ان يكون الواقع الكابي بهذا التشويه، إذن عيوننا لا ترى، عيوننا تكذب علينا وصعب على الانسان ان يتقبل صورة العين الكاذبة، قد تكذب الاذن، وقد يكذب الذوق او اللمس اما العين فلا تكذب ابداً، انها هبة الله إلينا,, لأن ما تراه العين في الحقيقة ليس رؤية وانما - كما يقول العلم - الاشياء هي التي ترسل اشعتها على العين فتنعكس عليها وتلتقط العين هذا الاشعاع وتشكل لنا الرؤية، بهذا المعنى فإن الاشياء هي التي ترانا - في الحقيقة - وبهذا المعنى المعنى - ايضا - تصبح العين حيادية غير قادرة على التزوير.
والحل الذي تقدمه الشاعرة ان نعمَى معَاً ان نفقأ عيوننا جميعا:
وترتد سيرتنا في الحلوق
تعبث بنا احرف غاضبة
الا نستريح سوى ان نمد اصابعنا
لاقتلاع عيون الاشقاء؟
نعمى معا؟!
والصورة هازلة مبكية معا، تلك التي ينقلها الينا المقطع السابق, يجب اذن ان نقتلع عيوننا جميعا ولا نرى جميعا، بدلا من هذه الرؤية المشوهة, ولكن هل هذا هو الحل حقا؟! أم تقدم لنا الشاعرة فعلا بديلا عن الموت؟! أليس العمى من انواع الموت؟! فحين تمحى الصورة والاشياء ويعيش الانسان في عمى فهو ميت، ماذا يربطه بالحياة، إذن الشاعرة لا تقصد الحل الذي تقدمه وانما تفجعنا بأننا اصلا صرنا عميانا، عيوننا لا ترى، فالأفضل ان نفقأها حتى لا نهرب من المسؤولية, ان نرى ونعاين الواقع ثم تمضي حياتنا - تفاهاتنا - كأننا لم نر شيئا, من منا لم يجلس امام التلفاز ويرى صورة اطفال الحجارة وهم يواجهون الموت - يفضحون عجزنا نحن الكبار - في وجه اليهود الذين عاثوا في الارض المقدسة فساداً يقتلون اطفالنا ونساءنا وشيوخنا بلا رحمة، من منا رأى ذلك - رؤيا العين - ثم مضى كأن الامر لا يعنيه! من منا لم ير الفرقة العربية تتزايد وتتسع بينما الاعداء من كل جانب يتأهبون لنا,, هل هذه عيون اذن؟! من الطبيعي ان تصرخ الشاعرة:
ورثنا عمى الالوان
لا فرق بين دماء,, وماء,, (ص58)
وتضيف الشاعرة في القصيدة نفسها - في موضع آخر - قولها:
لنا حد قات المآقى,.
ونرفض كل الرؤى (ص59)
فمنذ رأت زرقاء اليمامة الخطر، وحذرت قومها ونحن نحيا نفس الحكاية التي تتكرر,, ننكر الخطر ولا نفطن الى المؤامرات التي تحاك لنا، وتعجب الشاعرة ان يكون لنا عيون لا ترى, وتتكرر عملية فقء العيون لدى الشاعرة في مواطن اخرى من الديوان (ص90) أو العيون التي تمتلئ بالاكتئاب: هو الصمت يسخر منا /يملأ هذأ الوجود ضبابا/ وعيون الصغار اكتئابا (ص59) وقولها في موضع آخر: والضوء يعشى العيون/ ونور العيون كفيف (ص115).
وخلاصة الرأي ان العيون لدى الشاعرة عيون عاطلة لا تعمل بالرغم من انها تدخل في تشكيل الصورة وتصبح بؤرة مؤثرة في حركتها التصويرية، وعلى المستوى الموضوعي فإن هذه العيون تكشف عن مجتمع مشوه يعاني ويبحث لاهثا عن المستحيل.
* العين والصورة البصرية:
تنحاز الشاعرة بشدة إلى الصورة البصرية التي تعتمد على العين في التقاط عناصرها المختلفة، وقد توصلنا في النقطة السابقة إلى ان العين لا ترى والواقع الذي تعاينه واقع اسود مشوه، فكيف كونت الشاعرة صورها البصرية مع انكارها لرؤية العين؟1 هل اعتمدت على الحدس في تشكيل صورها البصرية؟! لنا ان نحلل بعض المقاطع لنصل إلى النتيجة, تقول الشاعرة:
ترى اي وهم سنقرأ
حين نفسر ومض الكهوف؟
ظلال تضللنا تتحرك دون امتداد الكفوف
انستقرئ الظل والضوء يعشى العيون,, (115)
أرادت الشاعرة ان ترسم صورة امينة للواقع: كهف وظلال تضللنا تتحرك دون ان تطول هذه الكهوف, الصورة تجسد العزلة والسواد واليأس الذي يجمع الناس في صورة الكهف، استدعت الشاعرة الكهف المغطى بظلال الوهم مع ان الضوء خارج الكهف من الممكن ان يساعد في اكتشاف الواقع في الرؤية الصحيحة, اعتمدت الصورة هنا على الكهف والظل والعيون التي لا ترى وفي موضع آخر تقول الشاعرة:
أنا اليوم زرقاء
عيني امد خطاها
وارحل في صوتها وأجد
لأبحث عن فرحة ارتديها
واعلم اني - كزرقاء - لا ارتجيها
تمتد المسافة هنا على قدر رؤية الزرقاء (عيني امد خطاها) الصورة هنا تتمدد - مستعينة بعيني الزرقاء - لترى مسافة شاسعة من الافق، ولانها عين ينكرها المجتمع الذي لم يعترف بها قط ولا برؤيتها السوداوية فإنها تستعير صوتا (للعين) بدلا من المسافة السابقة صار للعين صوت يئز، يندفع، يعلن البوار, هذا التجسيد الحي للعين يرسم ابعادا جديدة للصورة البصرية التي تحتال على الواقع عند الشاعرة, وفي القصيدة نفسها تقول الشاعرة:
يجف بحلقي النداء
وما من عزاء
يطالبني الجمع ان اتغاضى
وأنضم صامتة لصفوف الكفيفين
أو ابتعد!
أأ طفئ عيني؟
أأ طفئ عيني؟
وتبقى لاهثة في الضلوع؟
مكممة,, للأبد (ص43)
الصورة تجسدها هنا عزلة العين المبصرة والثمن الذي تدفعه,, المشهد يستدعي صنوفا طويلة ولكنها عمياء لا ترى، وبالرغم من هذا ترى الصورة البصرية لانسانة تكمم عينيها وصوتها وتحبس الرؤية في اضلاعها، وما صراخ الشاعرة: أأطفئ عيني؟! وتكراره إلا رغبة في قرع جرس الانذار.
وفي صورة أخرى تقول الشاعرة:
بوار ,.
ولكننا بانبعاثاته نتحدى البوار
دوار,.
ولكننا لعيونك لا يعترينا الدوار
لك اغنية الحزن,.
أغنية السعد,.
أغنية الانتظار
أغنية الامل المتولد,, تحت الجفون (ص48)
ترصد الشاعرة هنا صورة بصرية مفعمة بالأمل لذلك جاءت عناصرها واضحة فهي ترفض البوار والدوار الذي يعانيه الوطن وترصد لمحات الامل المتوثب تحت الجفون في انتظار تحقيق احلامها في وطنها,, الصورة تعتمد على البصر في قراءة ملامح الوجه وتلتقط البوادر الاولى لسر الأمل حين يتألق في الأحداق معلنا عن نفسه.
وفي صورة أخرى، تقول الشاعرة:
تلك احياؤنا
في هدير التضاريس
احشاؤها تتضور
اعشاشنا مدن تتناسل اشلاؤها
في إسار المتاريس
ساحاتنا
بملايينها تتكور
ننز بأعيننا الضارعة
مناجم ملح,.
ونبع جراح (ص67)
تتكلم الشاعرة في هذا المقطع عن احياء الوطن - الشوارع والميادين والمناطق المزدحمة بالبشر، وترصد من خلال البصر مشهد الاحياء الرازحة تحت القيود والمتاريس التي تكاد تخنقها، وهذه القيود ليست من اجل توفير مزيد من الخير للوطن، ،لكنها ضد "لقمة العيش"ايضا (احشاؤها تتضور) إن الجوع ينتشر بين الجميع ثم ننظر الى منازلنا - أعشاشنا التي تلد مزيدا من الاسرى والخانعين والخائفين، اما ساحاتنا التي تضج بالزحمة فهي تتكور بهذه الملايين وتنطق ملامحها بالالم الكبير وتشي اعينها بما تعانيه من جراح,, الصورة مفرداتها من الشارع ترصدها وتجمعها الشاعرة بمهارة وتكون منها صورة كلية للأسى المسيطر على شعوبنا العربية، لقد أرادت هنا ان ترصد الصورة وفقا لتصور مسبق، بحيث تنتهي الصورة بجميع عناصرها بجملة (مناجم ملح - ونبع جراح) هي النتيجة التي ادت اليها هذه المفردات البصرية لمعاينة الواقع, والرصد هنا لا يتعالى علىجمع الملامح من الواقع لأية مدينة عربية، والشاعرة اختزنت ذلك كله واستدعته عند الحاجة, وعلينا ان نتأمل هذه الصورة الوطن = مناجم ملح.
ان الاحياء والاعشاش والساحات بمعنى واحد ولكن هذا التنوع في المفردات الذي يقوم على رصد الخارج تتعمده الشاعرة حتى تصل إلى النتيجة النهائية: الوطن = مناجم ملح, ان الرؤية بتفصيلاتها المملة ليست مملة على الاطلاق، لقد تكررت المعاني لتستغرق الصورة مسافة زمانية ومكانية لتقنع المتلقى بالنتيجة لانها تتطابق مع الواقع بكل تضاريسه.
ونتوقف امام صورة تقترب من العبثية، تقول الشاعرة:
كلما طالنا السهر تصهل فينا الجياد
مشرفة مثل طير الجبال إذا ما تعالت
معلقة فوق ذاك الشفير
ثم لا تتوقف كي تحضن الموت
ترتد في دورة الفلك المستدير
وتنتفض الروح مغرقة في التساؤل
أما زال في العمر متسع للسؤال؟
ومفترق لانعتاق المسار,.
ومنعطف للعبور,,! (ص109 - 110)
فهذه الصورة دائرية تبدأ بالسهد وتنتهي بالتساؤل - وهو السهد نفسه - وكلما اشتدت الظلمة وحطت علينا الكوارث، ولكن الروح تجاهد لا تعترف بالموت، تخلق الروح صهيلا ينادي بالأمل نستولد من اعماقنا الجياد النائحة التواقة للانعتاق (جياد تشبه الطير) وتنطلق هذه الجياد لا تلوى على شيء إلا تحقيق الامل وتحاول ان تتخطى الموت، فترفض التوقف، ولكنها تعود مرة اخرى (ترتد في دورة الفلك المستدير وتدخل الى اعماقنا، فلم تكن الجياد حقيقة بل كانت خيالا خلق من ارقنا وسهادنا وحزننا، والشاعرة لا تيئس من اثارة الاسئلة وتخليق جياد النصر ولكن المشكلة هل في العمر متسع؟ هل هناك مفترق او منعطف نعبره إلى المستحيل؟ وكما بدأت بالتساؤل انتهت به, وهذا المشهد الدرامي يؤكد ان الشاعرة تهوى الصورة البصرية لانها اشد ارتباطا بالواقع مع ان الصورة الذهنية - مثلا - من الممكن ان تؤدي المعنى الذي تريده الشاعرة: انسان مؤرق تجتاحه الافكار ولكن الشعر الجميل اثارة دهشة وصورة مفاجئة يكونها الفنان من تمازج الخيال بالواقع، وكلما ارتكنت الصورة على الواقع ونقلت مفرداتها من الطبيعة كانت اكثر تأثيرا وقدرة على بلوغ الهدف, ان الجياد التي تشبه طير الجبال ترسم اللوحة الشعرية باستخدام عدد كبير من الافعال (تصهل - تعالت - تحضن - ترتد - تنتفض) واسم المفعول (معلقة - مغرقة), وبهذا تتشكل الصورة الجزئية بكل هذه الافعال, واعتماد الشاعرة يكاد يكون على مفردة واحدة هي (الجياد) وبهذه المفردة صنعت الشاعرة كل هذأ العالم الثر وتلك آية ندلل بها على تمكنها من ادواتها الفنية وقدرتها علىالتحليق والتخليق.
زمن طويل ولى، كادت العروبة ان تنطفئ جذوتها في وجداننا,, قلنا لأنفسنا كانت مرحلة حلم افقنا منها ولن يعود التاريخ الى الوراء، من يعنّي نفسه الآن بالعروبة وقضاياها فقط اذاعاتنا تردد الكلاشيهات الممجوجة التي نسمعها في معظم اذاعات العرب، كأنما قد اختلفوا في كل شيء إلا في نشرة الاخبار, زمن طويل لم نسمع فيه صوتاً عربيا صادقاً وسط ركام الهزائم والشتائم والمصالح، جاءت ثريا العريض لتعلن بملء صوتها: انا عربية!!
وتتساءل الشاعرة: كيف ندفن الحاضر من اجل الماضي، كيف نغمض اعيننا عن المستقبل وما نزال نستجدي الدموع للوقوف على اطلال الوهم، نتذكر ام أوفى وحومانة الدراج والمتثلم، نبكي للآخرين الذين لم نرهم,, هل هذا معقول؟! فلنبك على انفسنا اولا ولنحزن لما نحن فيه ونواجه واقعنا الذي نهرب منه، لابد - كما ترى الشاعرة - من جديد الطرق! لقد فقدنا نضارة الحياة حين عشنا الماضي ورفضنا الحاضر فلا ماض امتلكناه ولا حاضر عشناه (شاحب - دمعة - وجوم) ثم نتعاطى اغاني الاطلال ونسح الدموع الحارة بمشاعر كاذبة، وهذا تناقض يجعلنا نعيش دائما بشخصيتين، شخصية شمعية نقدمها للناس ونحرص عليها والاخرى (نحن) بنقائصنا وعيوبنا التي نخجل منها وأحزاننا الصغيرة وصدقنا الانساني النبيل، نرفض ان يطلع عليها الناس فنخفيها اتقنّا ارتداء الاقنعة حتى لم نعد نعرف اين الحقيقة وأين الخداع؟!
لقد قررت الشاعرة وأصدرت امرها (لا وقوفا بها) ضد (وقوفا بها,,) ولماذا الوقوف على بقايا احجار وشظايا كؤوس, هل هذا معقول؟! مرة اخرى ترسم الشاعرة صورة بصرية مفرداتها (تخوم - الرسوم - العيون - نقش الحناء في الايدي وقد لوحته الشمس - دمعة - وجوم - ديار رموس - شظايا كؤوس) ومن هذه العناصر المتناظرة شكلت الشاعرة صورة متكاملة بعد ان قامت بانشاء علاقات جديدة بين هذه المفردات.
لقد ارادت الشاعرة لصورها ان تعتمد على العين تلتقط بها العالم المشوش والواقع الكابي ولكنها - على مستوى آخر - تستخدم العيون استخداما جديدا بمعنى انها عيون لا ترى، مطفأة تعاني من العشا الليلي والنهاري وعدم التمايز بين الالوان عيون عمياء!! والعيون التي لا ترى - حين تشكل صورا بصرية - فإنها تعود غالبا إلى مفردات قليلة من الطبيعة لانها في اختيارها للصورة البصرية لا تسرف في استخدام العينين فالعيون لديها لا ترى بعد ان انكرها قومها ولم يستمعوا إليها وجاء الاعداء فسملوا عينيها.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved