Thursday 13th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 27 محرم


المغامرة
قصة للكاتب الأمريكي شيروود أندرسون
ترجمة: عامر إبراهيم الجهني

(اليس هندمان) فتاة تبلغ من العمر 27 عاما، عاشت في بلدة (وينزبيرغ) طوال حياتها، كانت تعمل في محل (ويني) للمأكولات المجففة وتقيم مع والدتها التي تزوجت من رجل آخر غير ابيها, كان زوج امها يعمل دهان عربات وحكايته غريبة تستحقان تقال يوماً ما.
عندما بلغت (اليس) السابعة والعشرين من عمرها فارعة الطول، نحيلة بعض الشيء ورأسها كبير وشعرها كثيف وبني اللون وكذلك عينيها, قبل ذلك وعندما كانت في ربيعها السادس عشر وقبل ان تعمل في المحل، كانت على علاقة مع شاب اسمه (نيد كيوري) اكبر منها سناً، يعمل في شركة (وينزبيرغ ايجل) لمدة طويلة, كان نيد يذهب ليراها كل ليلة تقريباً، ويمشيان تحت الاشجار في طرقات البلدة ويتحدثان عن ماذا سيفعلان في حياتهما, كانت (اليس) وقتها رائعة الجمال لدرجة انه لا يستطيع ان يقاوم هذا الجمال فيمسك بيدها ويقبلها ويقول لها اشياء لم يكن يعي ما هو وقتها وكانت هي بدورها تغش نفسها بهذا الكلام المعسول لأنها تريد ان تصدقه حتى ولو للحظات لأنها تتمنى ان تدخل حياتها الرتيبة السعادة وهي ايضا تكلمت معه، ولم تستطع ان تمنع نفسها من اندفاع مشاعر الحب التي تعتريها تجاهه, وبعد فترة رحل (نيد) الى (كليفلاند) ليحصل على عمل افضل في جريدة مدينة (كلبفلاند) وينهض بنفسه في هذا العالم الجديد, ارادت اليس ان تذهب معه وقالت له بصوت يملؤه الدموع انا سوف اعمل وانت ايضا سوف تعمل واكملت انا لا اريد ان ازيد من ارتباطاتك المادية لتنفق علي ولا حتى بقيمة ابرة واحدة لأمنعك من التقدم في عملك, لا تتزوجني الآن وسنذهب سوياً, حتى لو سكنا في بيت واحد لن يقول احد شيء لن يعرفنا احد هنالك ولن يهتم الناس بنا .
اصبح (نيد) مشوش الفكر بسبب اصرارها على الذهاب معه او ترك حبيبته هنا، لقد كان يريدها ان تكون عشيقته ولكنه غير رأيه فهو يريد ان يحميها ويعتني بها انت لا تعين ما تقولين قال لها بحدة: انت تعرفين بأنني لن ارضى بشيء كهذا يحدث, بمجرد الحصول على وظيفة سوف اعود، ولكن الأن ستبقين هنا انه الحل الوحيد في الوقت الراهن .
وفي الليلة التي تسبق رحيله من (ونيسبرغ) ذهب (نيد) لزيارة (اليس) ليودعها، خرجا في نزهة في شوارع البلدة ثم اخذ سيارة صديقه وذهبا في نزهة الى المزارع، كان القمر مكتملا في تلك الليلة لدرجة انهما لم ينطقا بحرف واحد, وبرغم حزنه على ما سببه لحبيبته الا انه لا يزال مصراً على رأيه، خرجا من السيارة الى حيث جدول صغير يجري بجانب عرائس العنب وهناك وتحت ضوء القمر حيث اصبحا عاشقين لأول مرة في هذا المكان، وعند منتصف الليل عادا الى البلدة وكانا مسرورين، وقتها لم يكن هناك ما يعكر صفوهم بسبب ما حدث في هذه الليلة الرومانسية, الآن يتوجب علينا ان نكون لبعضنا البعض مهما حدث او ما سيحدث لا بد وان نبقى لبعضنا البعض قال (نيد) للفتاة عند وداعها على باب بيت ابيها.
لم ينجح (نيد) الصحفي الشاب بالحصول على وظيفة في جريدة (كليفلاند) وتوجه غرباً الى (شيكاغو) لبعض الوقت كان يشعر بالوحدة ويكتب رسائل الى (اليس) تقريبا كل يوم, ثم ازدحم بمشاغل الحياة الجديدة في المدينة المزدحمة وبدأ بتكوين صداقات واهتمامات اخرى في حياته, وتعرف على فتاة اخرى جذبته ونسي (اليس) التي تنتظره في (وينسبرغ) وبنهاية العام توقف (نيد) عن كتابة رسائل الى (اليس) الا مرة كل فترة زمنية بعيدة عندما يشعر بالوحدة او عندما يذهب بمفرده الى احدى الحدائق العامة ويرى ضوء القمر يسطع على البساط الاخضر كما سطع تلك الليلة جوار عرائش العنب.
وفي بلدة (وينسبرغ) حيث تتقدم (اليس) بالعمر يوماً بعد يوم الى ان اصبحت امرأة عندما بلغت عامها الثاني والعشرين مات والدها، الذي كان يملك محل تصليح احزمة، فجأة لقد كان جندياً وتقاعد وبعد اشهر من وفاته بدأت امها تستلم اعانة ارملة، اشترت بها آلة حياكة صوف واصبحت تصنع قطع سجاد وتبيعها بعدها حصلت (اليس) على عملها في متجر (ويني) لعدة سنوات مرت عليها لم يطرأ على بالها ولو لوهلة بأن (نيد) لن يعود لها.
لقد كانت سعادتها بالغة عندما حصلت على عملها الجديد وذلك بسبب طبيعة عملها التي يتوجب عليها ان تقوم بترتيب الأغراض على الأرفف مما يجعلها تمضي كل وقتها في العمل تلهيها عن قسوة الانتظار لحبيبها ولو لبعض الوقت بدأت بتوفير المال معتقدة بأنها اذا ادخرت 200 او 300 دولار ستتمكن من اللحاق بحبيبها الى (شيكاغو).
لم تضع (اليس) اللوم على (نيد) علىما حدث تلك الليلة قبل سفره تحت ضوء القمر ولكنها احست بانها لا تستطيع ان تتزوج من رجل آخر غيره، مجرد تفكيرها بانها ستهب نفسها لشخص آخر غير حبيبها يشعرها بالقلق وخصوصاً عندما يحاول شباب البلدة ان يجذبوا انتباهها لكنها لا تفعل شيئاً سوى قول: انا زوجته وسأبقى زوجته سواء ارجع ام لا لنفسها.
اخذت (اليس) تعمل من الساعة الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساء وفي بعض الليالي تحضر من السابعة وحتى التاسعة مساء، ومع مرور الزمن اصبحت وحيدة اكثر وعودت نفسها على ان تسلك نهج الذين يشعرون بالوحدة, عندما تصعد الى غرفتها تركع على ركبتيها على الارض وتدعو وتهمس بأشياء تريد ان تقولها لحبيبها، اصبحت تشعر بالحميمية على اشيائها فكانت تثور عندما يلمس احد اثاث الغرفة او اي شيء يخصها, ان توفيرها للمال كان لغرض واحد فقط لتلحق ب(نيد) ولكنها فقدت الأمل بألحاق به فأصبحت مجرد عادة لديها بجمع وتوفير المال، وتبخل على نفسها حتى من شراء قميص لها, وفي بعض الأحيان في اوقات بعد الظهيرة الممطرة هي موجودة بالمتجر تفتح دفتر توفير المال الخاص بها امامها وتقضي ساعات تحلم بأحلام مستحيلة بان يكون لديها الكثير من المال ولزوج المستقبل, نيد يحب السفر هنا وهناك قالت لنفسها سأعطيه هذه الفرصة، يوما ما عندما نتزوج وعندما نوفر من مالي وماله سنصبح اغنياء حينها سنتمكن من السفر معا الى جميع انحاء العالم .
مرت الأيام لتصبح اسابيع والاسابيع لتصبح اشهراً، والاشهر لتصبح سنوات و(اليس) لا تزال تنتظر وتحلم بعودة حبيبها، وعندما يشتد المطر احياناً ولا يوجد زبائن تذهب الى الارفف وتعيد ترتيبها مرات ومرات، واحياناً تقف بجانب النافذة التي تطل على الشارع الخالي من المارة وتفكر في الليالي التي كانت تتنزه بها مع (نيد) حين كان يقول لها :يجب ان نبقى معا الى الابد الآن تلك الكلمات لا تزال تسمع صداها بداخلها فتدمع عيناها عندما يذهب صاحب المتجر وتبقى لوحدها تجلس امام الطاولة وتضع رأسها عليها وتبكي بحرقة قائلة: آه يا (نيد) انا ما ازال انتظرك تهمس وتهمس واصبح شعرها المخيف بأنه لن يعود يكبر بداخلها .
وفي الربيع تزهو البلدة بالمزارع التي حولها وتلبس الخضراء وبالقرب من تلك المزارع توجد غاية صغيرة يذهب اليها اهل البلدة وخاصة العشاق للتنزه بها ايام العطل الاسبوعية.
لعدة سنوات بعد رحيل (نيد) لم تذهب (اليس) الى الغابة مع احد ولكن في احد الايام وبعد عدم تحملها للشعور بالوحدة لبست اجمل ما لديها من ملابس وحلي وذهبت الى الغابة وجلست على احد المقاعد حيث تستطيع ان ترى البلدة والحقول الممتدة حولها, الخوف من ان تصبح كبيرة في العمر تملكها، لم تستطع ان تجلس ساكنة نهضت من مكانها ونظرت الى البلدة لوهلة، ربما لم تكن تعي بانها لا تستطيع ان توقف مسيرة الحياة وذلك بتذكر الماضي دائماً وبلحظة ايقنت بان شبابها ونضوجها ذهب مع الزمن، ولأول مرة احست بانها قد خدعت لم تلق اللوم على نيد ولا تعرف على من تلقي باللوم لف بها الحزن جثمت على ركبتيها وحاولت الدعاء، ولكن بدلا من كلمات الدعاء خرجت من فمها كلمات الاحتجاج لن تأتي لي السعادة لن اجدها ابداً لماذا استمر بالكذب على نفسي؟ وأجهشت بالبكاء احست بعدها براحة نفسية غريبة لقد واجهت مشكلتها التي تعاني منها يومياً وبشجاعة متناهية.
وفي العام الذي بلغت فيه (اليس) عامها الخامس والعشرين من عمرها واجهت حدثان غيرا من مجرى حياتها الرتيبة، تزوجت امها من (بوش ميلتون) دهان العربات في بلدة وينزبيرغ واشتركت (اليس) في جمعية البلدة الخيرية والسبب في انضمامها لهذه الجمعية هو انها اصبحت خائفة من الوحدة وزادت اكثر بعد زواج امها الثاني لقد اصبحت كبيرة في السن وغريبة الأطوار، عندما يعود (نيد) لن يكون بحاجة لي هناك في المدن الكبيرة الشباب يبقون شبابا حيث ليس لديهم الوقت ليكبروا هناك ما يجعلهم يشعرون بالشباب دائماً من وقع حياة المدن الكبيرة قالت لنفسها واعتلت على شفتيها ابتسامة صغيرة اخذت على عاتقها ان تعتاد على اهل القرية مجدداً في كل مساء من الخميس من كل اسبوع وبعد ساعات العمل تحضر اجتماع الجمعية والاحد تشارك في الاعمال الخيرية.
عندما عرض (ويلي هورلي) الذي يبلغ العشرينات من العمر ويعمل في الصيدلية وزميلها في الجمعية ان يرافقها لتوصيلها الى منزل والدها لم تمانع على ذلك طبعاً لن ادعه يفعل ذلك دائماً ولكن اذا جاء لزيارتي كل مدة زمنية طويلة فلا ضرر في ذلك قالت لنفسها ولا تزال مصممة على ولائها لحبيبها (نيد).
بدون ان تدرك ماذا يحدث لها، بدأت (اليس) مقاومتها ضعيفة ولكن مع اصرارها بالاستمرار بحياتها وهي تسير بجانب (ويل) الصيدلي بصمت وفي الظلام تخرج يدها احياناً من جيبهاوتلمس طرف معطفه وعندما احس بها وهما عند باب منزلها لم تدخل الى المنزل بل وقفت امام الباب للحظة كانت تود ان تدعوه بأن يجلس معها على مقعد الفناء الامامي للمنزل ولكنها خشيت بانه لن يفهم قصدها ليس هو الذي اريده قالت لنفسها اريد فقط الا اكون وحيدة ان لم اكن حريصة سأواجه مشكلة بان اتعود على وجود اشخاص حولي .
في اواخر خريف عامها السابع والعشرين تملكها شعور بعدم الراحة والسكينة، لم تعد تحتمل ان تكون برفقة (ويل) وعندما يأتي في المساء ويريد ان يمشي معها تمنعه من ذلك، لقد ضجرت من الانتظار خلف الطاولة واصبح عقلها تدور بداخله افكار حية، ذهبت الى البيت ورمت نفسها على السرير ولكنها لا تستطيع النوم وبعيون هائمة تنظر الى الظلام وخيالها يلعب في الغرفة كالطفل، ولكن بداخلها هناك شيء ما لا تستطيع خداعه بالخيال لانها تريد اجوبة من الحياة.
اخذت اليس وسادتها وضمتها الى صدرها بقوة ثم نهضت من فراشها ووضعت الملاءة على الطرف الآخر وكأنها جسد شخص مغطى ويتكىء على السرير اخدت تعانق الملاءة وتهمس لها كلمات مرة تلو المرة كالأنشودة, لماذا لا يحدث شيء؟ لمادا تركت لوحدي هنا؟ تمتمت, مع انها تفكر بعض الاحيان ب(نيد) ولكنها لم تعد تعتمد عليه لقد تحولت رغبتها الى مجرد سراب لم تعد تريد (نيد كوري) او اي شخص آخر تريد فقط ان تكون محبوبة شخص ما، وان يجيب المنادي الذي يصرخ من صميم اعماقها.
وفي احدى الليالي الممطرة حدثت لها مغامرة كانت مرعبة ومربكة في نفس الوقت بالنسبة لها عندما عادت من المتجر الى المنزل في الساعة التاسعة مساء ووجدت المنزل خالياً لقد ذهب زوج امها (بوش) خارج البلدة وامها كانت تزور الجيران, صعدت (اليس) الى غرفتها وخلعت ثيابها في الظلام ولوهلة من الزمن وقفت بجانب النافدة تسمع صوت قطرات المطر تضرب زجاج النافذة لحظتها اعترتها رغبة جامجة وغريبة وبدون ان تفكر بما خطر على بالها نزلت مسرعة من اعلى درج المنزل خلال المنزل المظلم ومن ثم الى خارج المنزل تحت المطر, اثناء وقوفها تحت المطر وعلى العشب الرطب شعرت بكل قطرة مطر تسير على جسدها اعتراها شعور آخر بان تركض في شوارع البلدة معتقدة بان المطر له تأثير سحري على جسدها, لم تشعر منذ سنين بهذه الحيوية والجرأة وشعور الشباب اليافع, ارادت ان تقفز وتركض وتصرخ بأعلى صوتها وان تجد شخصاً ما يشعر بالوحدة مثلها وتحضنه بين ذراعيها, أمام منزلها كان هناك رجل للتوعاد من عمله يمشي على الرصيف بدأت (أليس) بالركض نحوه شعور غريب اعتراها لا يهمني من يكون انه وحيد وسأذهب اليه وبدون توقف وبدون الأخذ بالاعتبار ما سيحدث من جراء هذا التصرف نادت عليه انتظر قالت له لا تذهب بعيداً مهما كنت يجب ان تنتظر وقف الرجل على الرصيف ونظر اليها لقد كان رجلاً متقدما في السن وصدف انه كان اطرشاً لا يسمع ووضع يده على فمه وصرخ ماذا؟ ماذا قلت؟ .
سقطت (اليس) على ركبيتها على الارض وهي ترتجف لقد شعرت برعب شديد من جراء ما فعلته وعندما ذهب الرجل وشأنه لم تجرؤ على الوقوف على قدميها ولكنها زحفت على قدميها ويديها على العشب الرطب الى ان دخلت المنزل, وعندما دخلت الى غرفتها احكمت اغلاق باب غرفتها ووضعت الخزانة وراء الباب جسدها كان يرتجف بشدة وكذلك يديها ومن شدة الرجفة وعندما ذهبت الى السرير غطت دفنت و وجهها تحت الوسادة وبكت بقلب محطم ماذا جرى لي سأقوم بعمل شنيع ان لم اكن حذرة، ادارت وجهها الى الحائط بدأت باجبار نفسها على تقبل حقيقة ان كثير من الناس عاشوا وماتوا وهم وحيدون حتى هنا في بلدة (وينزبيرغ).
المرجع
Thirty Eight short stories - ANintroduction ANthology - second Edition.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
استطلاع
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved