Monday 17th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأثنين 2 صفر


فجيعةٌ كبرى لهذه البلاد في فقد عالمها الجليل

ان الموت حق والنهاية الحتمية قدر لا مفر منه لكل ذي روح على ظهر هذه البسيطة، وفي الوقت عظة لكل متعظ وسبحان من بيده ازمّة الامور، الباقي وكل شيء هالك.
فجعت وأنا أتلقى خبر وفاة شيخ الاسلام ومفتي اقدس ارض في المعموره سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، فالموت حق ولكنه فاجعة كبيرة عندما نحترم عَلَما بارزا ومنارة من منارات العلم الشرعي في حجم وطول هامة الشيخ ابن باز، الشيخ الذي وهب حياته في دراسة العلم الشرعي وتدريسه وتبليغه الى كافة الناس على بصيرة، الشيخ الذي تشهد له المنابر وحلقات الدرس وطلابه من المشايخ العلماء، الشيخ الذي لم تجمع الأمة على مثل شهادتها له بالعلم والتقوى والتواضع، الشيخ الذي لم تجمع الامة على مثل محبته ، الشيخ الذي ضرب في تواضعه اروع الامثلة مع كبير قدره وإجلاله في كل النفوس، الشيخ الذي ضرب اروع الامثلة في الزهد والانقطاع الى الله والتفرغ الكامل للعلم وخدمة الاسلام والمسلمين، الشيخ العازف عن متاع الدنيا وبهارجها، تلمس ذلك في كل مظهر من مظاهر حياته فنجده متواضعا في ملبسه ومركبه ومسكنه، متواضعا في حديثه ودرسه لأنه يرى في ذلك جزءا من صدق العبادة، لا يتواضع تصنعاً لكي يقال عنه انه متواضع وعازف عن الدنيا، بل انه جزء من خلقه الذي استمده من خلق القرآن والحديث وسيرة السلف، هذه المرتكزات القوية التي اقام عليها عماد حياته، فلقد أمضى حياته - يرحمه الله - التي امتدت لتسعين سنة وشغله الشاغل تتبع القرآن بالدرس والحفظ والتفسير وحفظ الاحاديث والتعمق في فهمها والتمحص في صحيحها وتتبع أسانيدها تتبع العالم المؤمن المدرك لأهمية التعمق في مصادر التشريع الاسلامي وهما الكتاب والسنة ثم الاقتداء بسيرة السلف الصالح الذين اقتدوا بدورهم بما جاء في القرآن الكريم والسنة.
ان حياة هذا العالم الجليل وما قدمه طوال حياته من خدمة للدين الاسلامي الصحيح الخالي من الشبهات والمغالاة والانجرافات وراء ما تمليه الاهواء لهي حرية بالتدوين والدراسة والنشر يوكل القيام بهذا الواجب الى نخبة من علماء الدين كل في مجال من المجالات التي افنى فيها شيخنا الجليل حياته يساعدهم في ذلك نخبة منتقاة من علماء التاريخ المشهود لهم يسجلون ويدوّنون ويمحصون كل آثاره في المجالات الشرعية المختلفة من فتاوى ودروس ومواعظ ومحاضرات واحاديث في الوسائل الاعلامية المختلفة ورسائله الى العلماء وطلبة العلم ورسائلهم اليه لكي تبقى سجلا خالدا لأعمال هذا الرجل الجليل الذي وان ذهب عن عالمنا الذي لن يستثني من هذا الذهاب الحتمي احداً، الا انه سيظل خالدا في قلوب الاجيال واعماله منارة تنير الطريق لكل الاجيال المتعاقبة، فالانسان وكما جاء في الاثر يفنى الا من ثلاث: عمل نافع يذكر به، أو علم يستفاد منه، او ولد صالح يدعو له وان الشيخ ابن باز يرحمه الله قد ترك وبشهادة كل من يعرفه او قرأ له, او استمع الى احاديثه من العمل الصالح ما يجعل الالسن لا تتوقف عن ذكره, اما العلم فيشهد به ما سطر من صحائف وما تركه من آثار علمية تعمر بها المكتبات وقبل وفوق كل ذلك القلوب الواعية التي تستوعب من علم الشيخ يرحمه الله الشيء الكثير, وأما الولد الصالح فإنهم لا يقتصرون على أبنائه وبناته من صلبه بل كل طلبة العلم الذين تلقوا العلم على يديه او من خلال كتبه ورسائله واحاديثه, فكلهم ابناؤه وكلهم يدعون له اضافة الى عامة المسلمين الذين تعمر قلوبهم بحب الشيخ ابن باز يرحمه الله.
ومن ذا الذي في هذه البلاد لا يعرف الشيخ ابن باز ولا يحبه ولا يدعو له, اذكر بهذه المناسبة حادثة لن أنساها طوال حياتي رغم طول السنين التي مضت على وقوعها وصغر سني حينذاك, ارتبط اسم الشيخ عبدالعزيز بن باز بتفاصيل تلك الحادثة التي وقعت قبل حوالي خمس واربعين سنة وانا لاأزال دون العاشرة من عمري حيث كان في قريتنا الوادعة من قرى منطقة عسير أسرة تتكون من زوج وزوجة وثلاثة ابناء، كان بين الزوج وزوجته من العشرة الجميلة ما كان يضرب به المثل في القرية ولظرف ما ولربما لشدة وطأة ظروف الحياة على تلك الأسرة نزغ الشيطان بينهما فذلف من الرجل لفظ ابغض الحلال الى الله على زوجته بطريقة كان للشرع فيها وجهة نظر.
فافترق الزوجان وأظلمت الحياة في وجه ذلك الزوج الذي يعرف الجميع انه يحب زوجته حبّا اقرب ما يكون الى الجنون وزوجته تبادله ذلك الشعور لم يسد الحزن على تلك الاسرة لوحدها، بل عمّ كل سكان القرية وتحولت تلك الحادثة الى مناحة تعاطفا مع هذين الزوجين وغادر الرجل القرية يطلب الفتوى وطالت غيبته وهو يرحل من بلدة الى اخرى ومن منطقة الى اخرى ولم يجد من يتفهم وضعه والظروف والكيفية التي حدث فيها الطلاق ولا ما حلّ بتلك الاسرة من ظروف صعبة ومأساوية ألقت بكل ظلالها على بقية سكان القرية واصبح اكبر همَّ سكان قريتنا تتبع اخبار ذلك الزوج وينتظرون عودته وهو يحمل فتوى تمكنه من لمّ شتات اسرته مرة اخرى وعاد بعد طول غيبة ولم يظفر بما تغيب وتألم من اجله فانكسرت مشاعر الجميع تعاطفا مع تلك الاسرة فأشار عليه فاعل خير: لماذا لا تذهب الى الشيخ عبدالعزيز بن باز وتعرض عليه قضيتك فلعله يجد لك ما يعيد اليك زوجتك فهو الشيخ التقي العالم الورع الذي منحه الله بصيرة العالم المتفهم فشدّ الرجل الرحال الى الرياض ولعله اول شخص من قريتنا يذهب الى الرياض وظلت قلوبنا نحن ابناء القرية الكبار والصغار والرجال والنساء تدعو في اعماقها ان يحقق لذلك الزوج امنيته وكاد لا يكون للقوم من حديث سوى تتبع اخبار ذلك الرجل وما عسى سيكون عليه حالة وهو يعرض مسألته على الشيخ ابن باز الذي اصبح الكل يردد اسمه في اليوم اكثر من مرة وكلما ورد اسمه دعوا له بما فيهم اولئك الشيوخ والعجائز الذين لا يعرفون اين يقع موقع الرياض دعك عن معرفتهم بالشيخ نفسه.
ويعود الرجل بعد غيبة طويلة وهو يحمل بيده بشرى بفتوى شرعية من شيخ عظيم بجواز عودة المرأة الى رجلها بعد ان تفهم ملابسات وظروف الطلاق, لم تشهد قريتنا في تاريخها فرحة اكثر من سماع تلك البشرى واقيمت احتفالات واولمت الولائم احتفاءً بذلك الحدث السعيد الاهم من ذلك كله ارتفاع اصوات الدعاء عالية من كل حناجر أبناء وبنات القرية للشيخ بن باز بطول العمر وحسن الجزاء ودخل اسم الشيخ عبدالعزيز بن باز تاريخ اهم احداث القرية بل عمّ كل القرى المحيطة وبقي ذلك الاسم محفورا في ذاكرة ووجدان كل اهل القرية,, رحم الله الشيخ ابن باز فكم له من ايادٍ بيضاء على كثير من الاسر السعودية وكم له من المواقف الانسانية في معالجة الكثير من هموم وشجون هذه الامة بروح العالم المتبحر في معرفة الدين الاسلامي الذي نزل لمساعدة الانسان على التخلص من همومه ومشاكله, قبل شهور قليلة قدمت بطلة تلك القصة الى رحمة الله فاستعاد الناس ذكرى تلك الحادثة وارتفعت الاصوات لاهجة بالدعاء للشيخ ابن باز عندما استعادوا قصة تلك الحادثة وهم يقدمون العزاء لزوجها الذي اصبح وحيدا بدونها وإني لعلى يقين بأنه سيكون اكثر الناس حزنا على فقدان هذا الشيخ الجليل، أسأل الله سبحانه وتعالى ان يرحم الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي هذه الديار الطاهرة المقدسة وان يجعل الله الجنة مسكنه ومأواه لقاء ما قدمه لهذه الامة من جلائل الاعمال وان يعوض هذه البلاد فيه خيرا وان يجعل في من سيخلفه خلفا لخير سلف,, وإنا لله واليه راجعون .
د, محمد بن عبدالله آل زلفة
عضو مجلس الشورى

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
ملحق السفر وبطاقات الائتمان
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
الطبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved