ترك سماحة الفقيد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله بصماته الواضحة في الدعوة والاصلاح لما له من خط واضح مميز كما تم ايضاحه في المقالة السابقة، فهو عالم مميز تسلح بالعلم الغزير وتحلى بالسخاء والنقاء والثقة مما مكنه من التأثير في حياة العامة والخاصة.
اختلفت مناهج العلماء والدعاة في القديم والحديث بشأن معادلة صعبة معقدة الا وهي التعامل مع العوام والتفاهم مع الحكام , فالبعض غلب الجانب الاول واعطاه جل اهتمامه وبذلك فقد الجانب الثاني, والبعض على النقيض غلب الجانب الثاني فاسترضاه ومالأه فكسب ثقته واحياناً لم يكسب شيئاً ففقد الجانب الاول وقلّ أن لم يكن ندر- على الاقل في العصر الحديث- من استطاع ان يتعامل مع الجانبين في آن واحد بنجاح, حقق الفقيد المستحيل او لنقل المعجزة فاستطاع رحمه اله أن يتعامل مع العوام على مافيهم من غشامة وكلالة وتعامل مع الحكام على مافيهم من حساسية مسئولية ولم يفقد نفسه في المعركة، ولم يتنازل عن مبادئه للترضية.
وكأنه هيأه الله القوي العزيز للقيام بهذا الدور في زمن اختلطت فيه المفاهيم وتشابكت فيه خطوط الايديولوجيات، وتفاقمت فيه المشاكل.
إنه كان الميزان وكلمته هي الفصل في النزاع تدمغ الباطل وترفع الخلاف, ان الدين في عقله واضح، والايمان في قلبه راسخ، والحق حق بصرف النظر عن مصدره والباطل باطل بصرف النظر عن حامله، ولامجال للحسابات الشخصية لدى سماحته - يرحمه الله.
انه مع عامة الناس صباح مساء،فالمستفتون والدعاة يستطيعون التحدث معه والمناقشة لما يراه والأخذ والرد ليعرفوا بدقة وجهة نظره وليطمئنوا إلى دينهم الذي يدينون به وهو لايكل ولايمل من الشرح والبيان بل انه يشجع طلابه على بذل الجهد والسعي لمعرفة الحق.
استطاع ان يحشد للدين طاقات الشباب، واستطاع ان يوجههم الوجهة الصالحة، واستطاع ان يكبح جماحهم بالعلم والتجرد والمتابعة التي استمرت عشرات السنين، ثم استطاع ان يعلم الكبار في المساجد والمجالس منذ ان كان قاضياً في محافظة الدلم التي بزغ فيها نجمخ، فكان نموذجا للقاضي العادل، والمصلح الحكيم والمربي الفاضل.
يعرف سماحته - رحمه الله - انساب الجزيرة العربية وعائلاتها وقبائلها، فتعامل مع الجميع بحب واحترام حاضرة وبادية بدون تفرقة على اساس مناطقي او عائلي، الجميع لديه احباب في الله.
يملك - رحمه الله - مواهب القيادة من الذكاء والجلد والفراسة، كما انه قادر على تفسير الاحلام ويقرأ على المرضى, وكان يسلك منهج علماء السلف الابرار، كل ذلك لله لا للمباهاة, لم يسخر مواهبه لجمع حطام الدنيا وإنما سخرها لنشر العلم والذود عن الحق, وكان رحمه الله قوياً على العامة وقادراً على ان يسمعهم مالا يحبون، وهذا يتطلب قوة نفسية وتجرداً للحق, هنالك علماء ودعاة قادرون على ان يقفوا امام الحكام مواقف قوية ولكنهم ضعفاء امام العوام خشية ان يخسروهم, اما الفقيد فهو قوي بالحق مع العوام ومع الحكام, لذا افتى اثناء ازمة الخليج الثانية بجواز الاستعانة بالكفار في الحرب، وشق ذلك على بعض طلابه والدعاة الذين يخالفونه، الا انه كان كالطود الاشم، وكان دائماً يقول هذا ما ادين لله به، كذلك افتى بجواز الصلح مع اسرائيل وشق ذلك اكثر على بعض الدعاة والمحبين له، فكان يرد بنفس المقولة السابقة، وعندما ساله احد الدعاة في ندوة مسجلة، كيف يكون الصلح جائزاً مع اليهود وهم اعداء الامة؟ قال رحمه الله مامعناه سبحان الله، وهل يكون الصلح الا مع الاعداء, انه في عرف الجماهيريين خسر الناس، ولكنه - رحمه الله - لم يكن مكترثاً برصيده عند الناس، انه ينشد الحق، ويصدع به عندما يسأل عن امر ما.
تعامل - رحمه الله - مع السياسة والسياسيين، سواء كانوا امراء مناطق، او ملوكاً، او رؤساء دول فكانوا مقدرين له، ومحترمين لشخصيته المميزة التي تدخل في مضمار السهل الممتنع .
عرف عنه انه عالم سمح متجرد واضح، مما سهل على الجميع التعامل معه والنزول الى رأيه في كثير من الاحيان, لقد عاصر الملك عبدالعزيز رحمه الله، وكان يلتقي به في محافظة الدلم عندما يزور المنطقة، وتعامل مع الملك سعود والملك فيصل والملك خالد رحمهم الله، وكانوا جميعاً محبين له، مستنيرين بعلمه، مسترشدين بتوجيهاته، مستعينين بطلابه واثقين من نصائحه.
وتعامل مع الملك فهد - امد الله في عمره - وذكر عنه مرة عندما ترأس مجلس الجامعة الاسلامية بحضور الفقيد بأنه - خادم الحرمين الشريفين- مع اي قرار يتخذه للمجلس، وذكر عنه انه في منزلة الوالد للجميع.
تميز الشيخ الفقيد بحب العائلة المالكية، وحبهم له، رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، يستشيرونه ويوكلونه على صدقاتهم، والقصص في ذلك كثيرة خصوصا مع صاحبات السمو الاميرات، انها علاقة صادقة متمكنة من نفسه ومن نفوسهم, زرته فجر يوم من شهر رمضان المبارك عام 1406ه بعد صلاة الفجر، بصحبة احد افراد الاسرة الكريمة، حيث صلينا في مسجده صلاة الفجر للتحدث معه في احد المشاريع الاسلامية، ولم يصل في المسجد المجاور لمنزله وانما صلى في مسجد آخر، وعندما دخلنا منزله، اذا به قد سبق ودخل مع عائلته، وعندما علم من في المجلس عن الزائر انه من اصحاب السمو، طلب الانتظار، وعندما اخبر الشيخ بذلك خرج من عائلته وجلس، وسر بالأمير ورحب به، ثم بدأ يسأله عن خالته وعمته، فلقد عرفه واثنى عليه وشجعه على طلب العلم والزواج المبكر- ولم يكن الامير متزوجا بعد- وكان لذلك اللقاء أطيب الاثر في نفس الضيف الامير الشاب الذي سلك للعلم الشرعي مسالكه ووفق ولله الحمد.
كان واضحا وصادقا حكيما مع القيادة السياسية ولم يكن يعمل لنفسه وانما كان يعمل دائما لتحقيق الاهداف والاسس التي قام عليها الكيان السعودي وكان صبوراً متأنيا يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لذا، حظي بالحب والاحترام من الجميع ، ومن ذا الذي سيتحدث وسماحة الشيخ عبدالعزيز موجود، انه صاحب الكلمة الاخيرة وكانت الثقة المتبادلة بينه وبين القيادة كفيلة بضمان التلاحم والتفاهم.
لقد ادرك الفقيد - رحمه الله - كما ادرك اخوانه من العلماء- ان علماء المملكة يملكون كيانا سياسيا ويقومون على رعاية الحرمين الشريفين، لذا حافظوا على الانسجام مع الحكام فهم ليسوا مثل غيرهم ممن يقول كلمته لتسجيل موقف فقط او لابراء الذمة فقط, انها ستكون موضع التنفيذ في الغالب وسوف يطالبون الناس بتطبيقها.
تصدى سماحة الفقيد لتحقيق المعجزة فكان ملاذا للعامة عند الخطوب وكان مرجعا للدولة عند الاختلاف، فتحقق بعون الله وتوفيقه الانسجام التاريخي النادر بين العلماء والامراء، بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية.
لايعني ذلك انه لم تمر اوقات عصيبة، ولايعني ذلك ان الكمال متحقق، ولكن ذلك يعني ان النيات صادقة، وان المساعي ناجحة، وان آلية التكامل متأصلة فحمى الله المملكة من شرور الفرقة ومن فتنة الاختلاف, والى حلقة قادمة بإذن الله في هذه السلسلة بعنوان الفقيد والسلفية .
د, خليل بن عبدالله الخليل