Tuesday 18th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 3 صفر


إلى الجنة,, يا أبا عبدالله

تربط بناتي علاقة ممتازة ببعض بنات المرحوم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وهذه العلاقة المباركة تمتد أغصانها الوارفة لتشمل أهل بيتي وأهل بيته، ولهذا فإنني اعتبر نفسي - كالمقربين من سماحته - على علم ببعض تفاصيل حياته الخاصة,, وهي في مجملها تفاصيل ينتظمها ما عرفه كل الناس عن الشيخ الجليل: التواضع، الزهد، البساطة، المودة المخلصة التي يمحضها كل من حوله بلا تردد.
لاشك أنني كنت دائم السؤال عن الشيخ، وعن طريقة حياته في بيته وداخل أسرته، فهو أحد الرموز الكبيرة في تاريخ الحضارة الإسلامية فإذا وفقك الله الى نافذة تستطيع أن ترضي من خلالها شوقك إلى المعرفة فإن من العقل ومن المنطق أن تستغل تلك النافذة حتى آخر قطرة، للعظة، وللقدوة، وللتفكير والتأمل.
كان إكباري لهذا الرجل العلامة لا يزداد في كل يوم الا توهجا وسطوعا, ولقد كنت انقل الى اصدقائي وأقاربي بعض دروس الشيخ ابن باز في تعامله مع أهله وأولاده, ولقد كانت دروساً تحفل بالبساطة والمودة، كما ذكرت اعلاه، فهو قريب من الجميع على الرغم من انشغاله الطويل بقضايا المسلمين الذين يقبلون على مجلسه ومسجده بالعشرات، كل يوم وكل ساعة، في حشد دائم لا ينقطع قط, هذا فضلا عما يتلقاه - رحمه الله - من رسائل ومكاتبات ومكالمات هاتفية طوال النهار وبعض ساعات الليل: وكل هؤلاء يهفون اليه: طلبا لعلمه، أو رغبة في نجواه، او التماساً لمواساته وما يمكن ان يقدم لهم من مساعدة، فقد عُرف رحمه الله بسخائه وكرمه، فهو لا يتردد قط في كل أمر من أمور الخير والبر، بل لعله (وسع الله له في فسيح جناته) كان ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, ولقد قضى حياته الحافلة بأعمال الخير: مغيثاً للملهوف، منجداً للمظلوم، نصيرا للحق، حربا ضروساً على الباطل, ولقد اسهم دائما في اقامة المشروعات الاسلامية ومدارس تعليم القرآن الكريم واللغة العربية في داخل المملكة وخارجها.
والذين اختلفوا الى مجلس الشيخ او زاروه يجدون ان المجلس، الموقر بالعلم وبالتقوى، يحفل بالناس من كل مكان في بقاع الارض وجميع اصقاعها, فهؤلاء يأتون من كل مكان لانهم يجدون في حضرة أبي عبدالله، ما ينشدون من العلم والعقل، أو من الوقوف الصلب الى جانب مطالبهم وحاجاتهم.
لقد أفنى المرحوم حياته في خدمة الاسلام والمسلمين، وهو ظل دائما محط أنظار كل محب لهذا الدين، والجميع يحملون للشيخ في قلوبهم التقدير الجم والإكبار الذي يليق به وبعلمه.
عمل الشيخ ابن باز في القضاء حوالي اربعة عشر عاماً فكان مبرزاً في مجاله: علماً ونزاهة وصدقاً.
وعمل في مجال التعليم الشرعي حوالي خمسة وعشرين عاما: مدرساً في الفقه والتوحيد والحديث, ثم صار قيادياً في الادارة الجامعية، أي نائباً لرئيس الجامعة الاسلامية (الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله) ثم رئيسا للجامعة نفسها لمدة خمسة اعوام.
ولعلم الشيخ عبدالعزيز بن باز وعقله وحكمته وفضله فقد جعلته الدولة الرشيدة في المكان الذي يليق بأمثاله: فوضعت بيده الفتوى، وبوّأته أعلى الهرم في إدارات البحوث العلمية، بل هيئة كبار العلماء في البلاد, ولقد نال - رحمه الله - جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الاسلام اعترافاً بفضله وتقديراً لنشاطاته العظيمة في مجال الدعوة والبحث والدراسات الاسلامية.
لقد كان مشهدا مهيبا وقت اداء صلاة الميت على المرحوم في بيت الله الحرام، كان كل شيء يعكس عمق الألم الذي كان يفترش وجوه الناس على مختلف طبقاتهم، فهم حزينون لأن عالمهم وشيخهم غادرهم وهم لن يسمعوا له صوتاً بعد اليوم.
لقد أحب الناس ابن باز لانهم يعرفون صدقه، ونزاهته، وعفافه، وتقواه، وورعه, ولأنهم يعرفون ايضا انه كان يتحلى دائما في مواقفه وتصرفاته وقراراته بالعقل، وترجيح مصلحة الامة، وبث الفكر الذي يلم شملها، ويوحّد كلمتها، والتصدي لكل ما من شأنه أن ينشر بذور الكراهية أو الحقد او الفرقة, فلقد حارب الكثير من الفتن ووقف في وجهها، فهو الداعي دائماً الى وجوب طاعة ولي الأمر امتثالاً لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، وهو ضد الإرهاب، وإخافة المؤمنين، وبث الرعب بينهم، وانتهاك حرماتهم، وسلب حرياتهم, كل ذلك في الوقت الذي كنا نرى فيه مجتمعات اسلامية اخرى ترزح - مع الأسف الشديد - تحت طائلة الخلافات المرة العصيبة حتى ضاع فيها الحق، فانهدم في وجهها الأمن، وتزعزعت من تحتها الأرض، فقُتل فيها الشيوخ والنساء والأطفال، واستبيحت فيه دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم.
لقد أحبّنا الشيخ عبدالعزيز بن باز فأحببناه! ولاشك أننا بفقده نفقد رجلا صالحا ورعا تقيا، ونفقد أيضا عالماً جليلاً جعل من علمه مشعلاً للخير، وطريقاً للبر، وجسراً الى التلاحم والتعاون في الحق ومن أجله.
غفر الله له,, وأسكنه جنات الخلد,, مع النبيين والشهداء والصالحين إنه سميع مجيب.
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً).
د, فهد العرابي الحارثي


رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved